الافتتاحية

يسوع يثير أزمة عائلية العدد (64)

يسوع يثير أزمة عائلية



عائلة الناصرة في لوحات الفنانين
حينما ننظر إلى لوحة تمثل العائلة المقدسة في مدينة الناصرة، نشعر وكأن سعادة كبيرة تخيّم على هذه العائلة، فلا مشاكل ولا أزمات تعكّر اجواءَها، تُرينا هذه اللوحة مريم العذراء تغزل ويوسف يعمل في مهنة النجارة ويسوع يساعدهما، طائعًا اوامر أهله كصبي عاقل، وكأنه يخيّم عليهم جوُّ انسجام غير واقعي.
ان حادثـة تخلّـف يسـوع في هيكـل اورشـليم، التي يرويهـا الانجيلي لوقا (41/2-52) تكـذّب الانطبـاع الـذي تتركـه هذه اللوحـة لدى المشاهدين ؛ إذ إن بقاء الصبي يسوع في الهيكل دون علم العذراء مريم والقديس يوسف أَثار عاصفة في سماء زاهية بالسعادة ؛ هكذا اجتازات عائلة يسوع الأزمات وسوء التفاهم والقلق، شأنها في ذلك شأن كافة عوائلنا.
أَزمة العائلة المقدسة
بلغ يسوع الثانية عشرة من عمره، إنه عمر النضوج الديني في التقليد اليهودي، استغلَّ يسوع هذه المحطة من حياته اكثر مما تمناه ذووه، إذ تخلّف عن القافلة في طريق عودتها إلى الناصرة، دون علمهم، وجازف بالبقاء في هيكل اورشليم، حيث دخل في حلقة علماء الشريعة ليناقش معهم امور التوراة دون خوف.
بامكاننا ان نتخيّل قلق العذراء مريم والقديس يوسف، إذ بدأوا يبحثون عنه بين رفقة الطريق، ولكن عبثًا ؛ وإذ لم يجداه ؛ إضطرّا للعودة إلى اورشـليم، حيث بقيا ثلاثة أيام يبحثان عنه بقلق شديد، فوجداه أخيرًا في الهيكل.
بعد حوالي عشرين سنة ستحدث حادثة مشابهة ليسوع في اورشليم، سوف يموت صلبًا، وسيغيب عن انظار العذراء مريم مدة ثلاثة ايام وستجده قائمًا، وهو لدى الآب.
وجدان يسوع في الهيكل
إن حادثة وجدان يسوع المسيح في الهيكل هامة جدًا، انها الحادثة الوحيدة التي يذكرها الانجيل المقدس نعرفها عن حياة العائلة المقدسـة في الناصـرة منذ طفولة يسـوع وحتى يـوم عمـاذه، ولأهميتهـا القصوى بقيت عالقة في ذاكرة العذراء، وهي التي لقنتها للانجيلي لوقا.
ان الحوارالذي جرى بين يسـوع وبين العـذراء مريم مليء بالدروس اللاهوتيـة وبالعبر؛ طلبت العذراء من يسوع تفسيرًا لتصرفه قائلةً : ” يا بُني، لمَ صنعتَ بنا ذلك؟ فأنا وأبوك نبحث عنكَ متلهفين “ ؛ إننا نشعر بنبرة الحزن والقلق والعتاب في هذا القول.
اعطاهما يسوع التفسير عن تصرفه قائلاً : ” ولمَ بحثتما عني؟ ألم تعلما أنه يجب عليَّ أن أكون عند أبي ؟ “. ان جوابه فاقَ ادراكهما، إذ يقول الانجيل ” فلم يفهما ما قال لهما “، ان هذه العبارة هي اول كلمة يذكرها لوقا على لسان يسوع.
هوية يسوع
كشف يسوع عن هويَّته من خلال ردّه على عبارة العذراء الآتية : ” أبوك “ مشيرةً فيها إلى القديس يوسف، قائلاً لهما ” أبي “ مشيرًا إلى شخص غير القديس يوسف، انه الآب السماوي.
منذ بلغ يسوع الثانية عشرة من عمره، يؤكد لنا انه واع وعيًا تامًا ويعرف هويته وعلاقته الفريدة بالله، انه ابن الله الوحيد ؛ فحينما سيتحدث عن الله مع تلاميذه، يمـيز بين علاقتـه الشخصيـة وبين علاقـة الرسـل بالله قائلاً : ” أبي و أبيكم “ (يوحنا 17/20)، انه يقـول ” أبي “ اي انه ابن الله الازلي منـذ الابد، وحينما يقـول ” أبيكم “ يريد أن يؤكد إنّ الرسل اصبحوا ابناء الله بالتبني.
دعوة يسوع
قال يسوع لأمه ” عليَّ ان اكون عند ابي “ او ” لأبي “، اي عليَّ ان اتفرغ لاكمل الرسالة التي من اجلها بعثني، انها دعوة يسوع ” ان يتفرغ لشؤون الآب “.
ان ” دعوة “ يسوع التي دعاه اليها الآب والرسالة التي من اجلها بعثه إلى العالم تأتي قبل كل الاعتبارات، فلا يمكنه ان يضحي بإرادة ابيه السماوي من اجل عدم تعكير الجو العائلي ” لِمَ بحثتما عني ؟ الم تعلما انه يجب عليَّ ان اكون عند ابي “ أو ” لأبي “ ؟. فلا يمكن التضحية بدعوة الآب للحفاظ على حسن العلاقات مع سائر افراد العائلة.
عائلة يسوع مثالٌ لعوائلنا
تلقى القديس يوسف والعذراء مريم جواب يسوع من دون ان يفهما محتواه، إلاّ ان العذراء مريم كانت تحاول ان تكتشف ارادة الله في ذلك، اي ما يريد الله منها ان تعمل، كما يقول الانجيلي لوقا ” وكانت امه تحفظ هذا الكلام كله في قلبها “.
ان القاسم المشترك الذي كان يجمع افراد العائلة المقدسة هو هذا : الرغبة الراسخة لاكتشاف ارادة الله، ليكملوا كل ما يريده الله منهم.
على عوائلنا ان تقتدي بالعائلة المقدسة، اي أن يُجمِع كافة اعضائها على الهدف الاساسي لهذه الحياة، الا وهو الرغبة الشديدة لتكميل ارادة الله في السراء والضراء، في اجواء التفاهم او في حالات سـوء الفهم ؛ ان هذه الرغبة سـتساعدنا في ايجاد حلول لمشاكلنا.
الأزمات في عوائلنا
لا يمكن ان نتخيل حياة عائلية خالية من اختلاف في وجهات النظر ومن دون خضّات ومن دون ازمات. فهنـاك مشـاكل بين الشـباب الذين يريدون ان يتحملوا مسؤوليات الحياة بانفسهم، وهناك الاهل الذين يريدون توجيههم نحو ما يعتقدونه الصواب، قد يكون احيانًا الحوار بين الاهل والاولاد صعبًا.
كما ان العذراء مريم والقديس يوسف لم يضعا عوائق أمام يسوع ليكمل دعوته، كذلك على الاهل الاّ يضعوا عقبات أمام دعوة أولادهم.
ان ما يهدد ترابط عوائلنا ليس وجود المشاكل، ولكن هو ضعف الايمان وعدم التمسك بالحياة الايمانية وبممارسة الشعائر الروحية، خاصة الصلاة منها، وعدم العودة إلى التأمل في الانجيل لاكتشاف ارادة الله، كل هذا يساعدنا لترسيخ الوحدة والمحبة بين افراد العائلة، وبهذا نكون قد اقتدينا بعائلة يسوع، وحصلنا على ما حصل عليه افراد العائلة المقدسة من نعم، خاصة نعمة السلام والالفة في العائلة.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى