يسوع كلمة الله (96)
يسوع كلمة الله
(يوحنا 1:1-14)
الأب فادي نظير جورج
الأحد الثاني من الدنح
في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله. كانَ في البَدءِ لَدى الله. بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان. فيهِ كانَتِ الحَياة والحَياةُ نورُ النَّاس والنُّورُ يَشرِقُ في الظُّلُمات ولَم تُدرِكْه الظُّلُمات. ظَهَرَ رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله اِسْمُه يوحَنَّا جاءَ شاهِداً لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس. لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور. كان النُّورُ الحَقّ الَّذي يُنيرُ كُلَّ إِنْسان آتِيًا إِلى العالَم كانَ في العالَم وبِه كانَ العالَم والعالَمُ لَم يَعْرِفْهُ. جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه. أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله : فهُمُ الَّذينَ لا مِن دَمٍ ولا مِن رَغبَةِ لَحْم ولا مِن رَغبَةِ رَجُل بل مِنَ اللهِ وُلدِوُا. والكَلِمَةُ صارَ بَشَرًا فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه مَجدًا مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ.
(يوحنا 1:1-14)
الفن الأدبي وعلاقة المقدمة بالإنجيل
شبّه أحد الشراح مقدّمة إنجيل يوحنا باستهلاليّة موسيقيّة. التشبيه موفّق، فمقدّمة الإنجيل الرابع تبرز من الصمت، مثل الإئتلافات الأولى في السمفونيّة، فتبشّر بالأفكار الرئيسيّة التي ستتناولها المقطوعة، وتجمعها وتقارنها. وهكذا تكشف مسبقًا عن جوهر المقطوعة، فتجعلنا نندمج فيها، ونتناغم معها فنستمع إليها بصمت وخشوع، كما نستجمع أفكارنا للإستماع فيكون للكلمات تأثيرها وثقلها، كأنها آتية من أعماق الأزليّة، وهي بالفعل هكذا.
" في البدء كان الله، والكلمة كان لدى الله، والكلمة هو الله… كان منذ البدء لدى الله "
إن إيقاع هذا النصّ ظاهر، لدرجة أن عددًا من الشّراح يميلون إلى القول بأنه نشيد مسيحي كانت الجماعة المسيحيّة السابقة لإنجيل يوحنا ترتله مختصرًا. فعبارات الجمع : " رأينا مجده ومن ملئه نلنا بأجمعنا نعمة على نعمة "، تحمل على تأييد هذا الإفتراض. وقد كتب البعض يقول عن حق، بأن مقدّمة يوحنا ليست، بمعنى من المعاني، إفتتاحية أو مقدّمة للإنجيل، وإنما هي الإنجيل بالذات، في رؤية شاملة عميقة. فالمقدّمة تختصر إنجيل يوحنا من إحدى جوانبه : من ناحية أنه كلمة الله، فقد تكلّم الله وكشف ذاته للبشر، في يسوع المسيح. فالمقدّمة هي نشيد للمسيح الكلمة، أو كلمة الله المتجسّد.
كلمة الله
لكل إنجيل طريقته في الحديث عن يسوع وتحديد بدايته. فمثلاً مرقس، تشكّل المعموديّة بداية كرازة يسوع وانطلاقة حركته. بدايته هي البداية التي اختارتها الجماعة الأولى حيـن كـرزت بيسـوع " منذ عماد يوحنا إلى اليوم الذي فيه ارتفع يسوع " (أع 22:1). في نظر متى ولوقا، تدلّ ولادة يسوع على مجيء المسيح وسط البشر.
أما بالنسبة إلى يوحنا، فموقع البداية هو قبل بداية الخليقة. حين كتب إنجيله، بحث عن مقدّمة فوجد بين صلوات المسيحيين نشيدًا تُنشده الجماعة لمجد الكلمة، إبن الله، الذي جاء ليقيم وسط البشر. أخذه وكيّفه ليطابق مشروعه في كتابة إنجيل يُنشد يسوع الذي هو المسيح وإبن الله (31:20).
في البدء كان الكلمة، بصيغة الفعل يُشدّد يوحنا على أن الكلمة وُجد قبل الخلق وأنه يرتبط إرتباطًا وثيقًا بالله. هو مشدود إلى الله وهو في الوقت عينه الله بالذات. وهكذا جاء تأمل الإنجيلي في امتداد الفكر اليهودي حول الحكمة التي هي واقع وُجد قبل الخلق وبدا شخصًا حيًا لا فكرة مجرّدة. كان الكلمة يعمل في الخلق منذ البدء، لأنه أنار كل إنسان جاء إلى العالم. وهذا النور يُشرق الآن أيضًا في العالم، فيُنير كل إنسان حتى ولو كان غريبًا عن الوحي.
هذا الكلمة الذي تجلى لجميع البشر، وبصورة مميّزة لجماعة إسرائيل، عزم على أن يزرع خيمته وسط البشر : " صار الكلمة بشرًا ". لا يتوقف يوحنا فيتحدّث عن مولد يسوع العجيب، ولا يذكر أسماء الأشخاص والأمكنة، بل ذهب إلى الجوهر فشدّد على العبور التاريخي الذي فيه صار الكلمة الأزلي بشرًا، أخذ جسدًا. ومنذ اللحظة التي فيها لُفظت مفردة " بشر "، اختفت مفردة " الكلمة " بشكل نهائي. بعد ذلك الوقت، لن نرى إلا " اللحم والدم " في ضعفه بل في ضيقه (يسوع، عطش، جاع، إضطرب، تشوّه). إستعمل يوحنا مرارًا كلمة " إنسان " فتفوّق على سائر الإنجيليين. فالتجسّد في نظره ليس " تظاهرًا " بل حقيقة وواقع. لا شك في أن الكلمة لم يُلغَ في الإنسان، ولكن على البشر أن يروا في سماته البشريّة مجد الله. وهذا ما شهدت به جماعة المسيحيين الأولين الذين رأوا " مجده ".
شرح
إن تسمية يوحنا ليسوع، بالكلمة لا غير، تعني أن المسيح هو الكلمة بكليتها، وبملئها اللامتناهي. وكل كلمة أخرى جزئية بالنسبة إليه. كل شيء قيل به، وكل عقل مخلوق يعجز عن سبر غور ما قيل به، لهذا هو خالد، لقد " كان في البدء ". وهنا نجد عبارة الفصل الأول من سفر التكوين : " في البدء خلق الله السماوات والأرض " (تكوين 1:1). وقد استخدم يوحنا هذه العبارة عمدًا، ليقول لنا إنه لمّا لم يكن من موجود غير الله، ولما كان الله يتهيأ لخلق الكون، (كان) الكلمة موجودًا قبل الكون وقبل أي شيء.
و" كان لدى الله ". إن العبارة الأصليّة، في اليونانيّة، لا تعني فقط أنه كان بالقرب من الله وبصحبته، وإنما تعني أيضًا أنه كان متجهًا نحوه وعلى علاقة حيّة به. وهكذا يثبت يوحنا ضمنًا، شخصيّة الكلمة. فالكلمة هو شخص وليس فكرة تجريديّة.
" والكلمة هو الله ". فالكلمة ليس شخص الله الذي تعنيه العبارة السابقة، وكان بصحبته قبل إنشاء العالم، وإنما هو الله ومثله، وبدون أن يكون إلهًا ثانيًا. وهكذا يرتسم السرّ الذي يؤلف جوهر الوحي في إنجيل يوحنا : التمييز بين الشخصين، في قلب الوحدة الإلهيّة، واتحادهما في المحبّة " أنا والآب واحد " (يو 30:10).
و" كان منذ البدء لدى الله ". ليس هذا المقطع مجرد تكرار للمقاطع السابقة. إن يوحنا يقصد أن يوضّح بدقة أن الكلمة كان لدى الله " منذ البدء ". وأنه لم يكن موجودًا بدون الله، ولا خارجًا عن الله ولا كان الله بدونه. فالله والكلمة هما شريكان في الأزليّة.
ثم ينتقل يوحنا إلى عمل الكلمة : " به كان كل شيء، وبغيره ما كان شيء " (راجع تكوين 56:1/ إشعيا 26:40/ مزمور 6:33…). فكل الكائنات، بدون إستثناء، مدينة بوجودها للكلمة، كلّها برزت يومًا إلى الوجود، فهو دعاها لأن تكون، وهو وحده قائم منذ الأزل. ولا يصحّ أن نحصر عمل الكلمة الخالق بـأول ظهـور للكون. فالعبارة " به كان كل شيء " تعني أيضًا تلاحقًا تاريخيًا، وهذا التلاحق منوط بالكلمة. عبارتان إذًا تحددان عمل الكلمة : الحياة والنور. " هو الحياة لكل موجود "، فالكلمة هو مصدر الحياة، " والحياة نور الناس "، والكلمة تحيي بنورها.
إن الإنجيل كله يتوسع في غنى هاتين اللفظتين : النور والحياة، وفي علاقتهما المتبادلة. فالحياة، في إنجيل يوحنا، ليست " ظاهرة ماديّة عارضة "، نعجز عن إدراك سرها حاليًا، وسنكتشفه فيما بعد، وليست قوّة كونيّة مجهولة الإستمرار، والتجدد، والشمول… إنها نور، لأنها إتحاد مع الله في نور كلمته ذاته، أو كلمته الأزلي، الذي يتسلّمه الإيمان، ويتقبّله، ويستوعبه : " الحياة الأبديّة هي أن يعرفوك أنت الإله الحق وحدك، ويعرفوا الذي أرسلته يسوع المسيح " (3:17).
إلا أن مأساة ترتسم، وتملأ الإنجيل، هي أيضًا. إن قوّة مظلمة تتصدّى بالفعل لعمل الحياة الذي يعمله الكلمة : " والنور يشرق في الظلمات ". وفي هذه المجابهة بين الظلمة والنور يفصّل الإنجيل طبيعة الموت وضراوته وثماره.
ومع ذلك، يتابع يوحنا بثقة لا يكذّبها الإنجيل إطلاقًا : " ولا تغشاه الظلمات ". فالظلمات لم توقف سير النور المنتصر، ولم تستطع أن تخنقه. وبعد التوسع في شهادة يوحنا المعمدان للنور، تؤكد المقدّمة شموليّة فعل الكلمة النور : " الذي يُنير كل إنسان ". فكل ضمير بشري يجد نفسه مأخوذًا بإشعاعه، بلا علم منه. ثم تلوح من جديد منظوريّة المأساة المؤلمة وتتوضّح : " وكان في العالم… ولم يعرفه العالم. جاء إلى بيته، فما قبله أهل بيته ".
ويطل أخيرًا مقطع كأنه قمة المقدّمة، فيحلّ اللغز ويُنير الطريقين : " والكلمة صار بشرًا فسكن بيننا، فرأينا مجده، مجد الإبن الواحد الذي أتى من لدن الآب، ملؤه النعمة والحق ". فقد أعلن تجسّد الكلمة إستنادًا إلى الشهادة المشتركة للجماعة المسيحيّة الأولى المتحـدة مـع الرسل. والصفـات التي يتمتـع بها الكلمة المتجسد ظاهرة : مجد الإبن الواحد، وملء النعمة والحق. فكل كلمات هذا المقطع تستحق التوقف. إنها مثقّلة بالمعاني اللاهوتيّة الكتابيّة. فلفظة " بشر "، لا تعني الجسد فقط، وإنما الطبيعة البشريّة ذاتها، في قوّتها، وضعفها، وفي انتهائها إلى الموت.
لقد إتخذ الكلمة هذه الطبيعة البشريّة، كما أن الكلمة تجذرت في " إسرائيل " (إبن سيراخ 12:24، باروخ 36:3). هو سكن بيننا، وأقام في هذا المسكن البشري، وتجلّى مجده، أفضل منه على جبل سيناء (خروج 16:19) أو في تابوت العهد، وفي هيكل العهد القديم، وتكلّم الله به.
وهذا المجد هو " مجد الإبن الواحد ". والكلمة المشاركة الله حاليًا في الأزليّة، هو إبنه الواحد، المولود من الآب الذي ينال مجده، وهذا المجد يجعله إبنًا. وهذا الإبن الواحد للآب قد ظهر للناس " ملؤه النعمة والحق ". والمقطع السابق يشير إلى معنى ظهور النعمة والحق هذا : " أما الذين قبلوه فقد أولاهم أن يصيروا أبناء الله، هم الذين آمنوا به ". وفي الكلمة الذي صار بشرًا، تجلّت للناس دعوتهم الحقة. ومع دعوتهم بدت لهم كرامتهم : وبفضل إيمانهم بإبنه أولاهم الله نعمة أن يصبحوا أبناء له.
تجاوبًا مع هذا الوحي، يتردد صدى شكر الجماعة المسيحيّة : " ومن ملئه نلنا بأجمعنا نعمة على نعمة ". وعلى جماعة المعمّدين الذين يحييهم الإيمان باسمه، يفيض ملء النعمة والحق الذي لا ينضب معينه.
وحينئذ لا يذكر إسم يسوع المسيح. وذلك، لمقابلته مع إسم موسى : " لأن الشريعة أتتنا على يد موسى، وأما النعمة والحق، فلقد بلغا إلينا على يد يسوع المسيح ". عهدان يتعلقان بهذين الإسمين. تجسّد الكلمة هو مبدأ عهد جديد يفوق القديم، إذ إن العهد القديم كان يقوم على إعطاء الشريعة الخارجيّة، أما العهد الجديد فيُدخل بين الناس مبدأ النعمة والحق (هوشع 16:2-22). لقد تجسّد كليًا في يسوع المسيح، ويشعّ منه كل إنسان، وعلى الرغم من الظلمات يحوّل مجرى التاريخ، ويوجهه نحو الآب نبع النور والحياة.
ويختم يوحنا، معلنًا سرّ الله الذي لا يُسبر : " الله لم يره أحد قط "، هنا على الأرض لم يرَ أحد وجهه. فموسى (خر 20:33)، وإيليّا (3 ملوك 9:19)، وإشعيا نفسه (1:6) تبعًا للتقليد اليهودي الذي يتبعه يوحنا (41:12)، لم يستطيعوا أن يشقوا الغمام، حيث يقوم الله الحيّ القدّوس. وإذا بالسرّ قد انكشف : " الإبن الواحد الذي في حضن الآب "، وحافظ كلامه، وشعاع مجده، وصورة جوهره (عبرانيين 3:1) تجسّد ليخبرنا عنه، ويكشف لنا إسمه، ويبلغنا حبّه ويقودنا إليه.
ماذا يترتب علينا أن نعمل ؟ إن يوحنا يبيّن لنا ذلك بوضوح : أن نفتح قلبنا ليسوع المسيح وكلامه وآياته، ونقرأ شهادة الذي رأى كلمة الحياة وسمعها ولمسها ونتأمل بها. وهكذا يُدخلنا في إنجيله.
المصادر
" دوناسيان مُلا اليسوعي (الأب)، قراءات في إنجيل يوحنا، تر : الأب حليم عبدلله، دراسات في الكتاب المقدّس 7، دار المشرق، بيروت، ط 3، 1992.
" بولس الفغالي (الخوري)، يسوع كلمة الله مع القدّيس يوحنا، القراءة الربيّة 4، الرابطة الكتابيّة، لبنان، 1995.