يا ربّ علّمنا أن نصلي (ابوّة الله) (98)
يا ربّ علّمنا أن نصلي (ابوّة الله)
(لوقا ١١: ١-٤)
قراءة الجمعة الثالثة من زمن الصيف
الأب هاني جرجس
إن القديس لوقا هو الانجيلي الكبير للصلاة، فهو يحب أن يظهر يسوع مصليًا. وعنده أيضًا أكثر تعاليم المسيح في الصلاة. إن صلاة "أبانا" غالبًا ما تسمى "بالصلاة الربية"، أعني صلاة الرب، بالفعل فإن ربنا يسوع المسيح هو الذي علّم صلاة "الأبانا" لتلاميذه، ويشهد لذلك إنجيليان هما متى ولوقا[1].
أود في هذه المقالة المتواضعة والبسيطة أن أركز على مفهوم "الأبانا"، أو بمعنى أوضح "أبوّة الله" ومعناها في الثقافات القديمة مثل البابلية والمصرية ثم مفهوم أبوّة الله في العهد القديم وصولاً إلى إنجيل لوقا. ولكن في البداية لنبحث معًا في بداية استخدام كلمة الصلاة لأول مرة في الكتاب المقدس.
- متى استخدمت كلمة "الصلاة" لأول مرة في الكتاب المقدس؟
استخدمت كلمة الصلاة للمرة الأولى، عندما هرب يعقوب من غضب أخيه عيسو وذهب إلى بيت بتوئيل أو حاران، كما أوصاه أبوه اسحق وأمه رفقة (تك ٢٧: ٤١-٤٣). ويضيف الكتاب: "ونذر يعقوب نذرًا قائلاً: إن كان الله معي، وحفظني في هذا الطريق الذي أنا سائر فيه، وأعطاني خبزًا لآكل وثيابًا لألبس، ورجعت بسلام إلى بيت أبي، يكون الربّ لي إلهًا، وهذا الحجر الذي أقمته عمودًا يكون بيت الله، وكل ما تعطيني فأنا أعشّره لك" (تك ٢٨: ٢٠-٢٢). وهنا نلاحظ أن كلمة الصلاة تدل على معنى يختلف عن دلالة التضرع والدعاء التي تقترن بالصلاة. فالصلاة هنا تستعمل للتعبير عن موقف الشخص الذي يتعهد بقسم أو بعهد أن يعمل أو يؤدي أمورًا معينة إذا منحه الله أشياء أخرى أو طلبات تمناها.
في سفر الخروج، بعد أن وصف ضربة الضفادع، وهي الضربة الثانية من الضربات العشر "فدعا فرعون موسى وهارون وقال صلّيا الى الرب ليرفع عني وعن شعبي، فأطلق الشعب ليذبحوا للرب" (خر ٨:٨). وهنا فان فرعون استخدم كلمة الصلاة بمعنى التضرع، التعهد والنذر. وقد كرر فرعون طلبه هذا من موسى في (خر ٨: ٢٩، ٣٠، ٣٣)، (خر ١٠: ٧، ١٨)، مما سبق نرى أن كلمة الصلاة قد تستخدم في أحيان كثيرة للدلالة على معنى يختلف عمّا تعارف عليه الناس، كما رأينا في قصة يعقوب[2].
- أبوّة الله في الشرق الأدنى القديم
إنّ التوجّه الى الآلهة، ومناداتها بعبارة "أب"، ظاهرة مألوفة، سواء في الشرق الأدنى القديم أم في معظم الديانات القديمة. والإيمان بالأبوّة الإلهية هو ولا شكّ إحدى السمات الاكثر شمولاً في جميع الحضارات التي يلقاها مؤرخ الأديان، والتي يشكل تفسيرها موضوع افتراضات. فالأساطير التي تحكي أنساب الآلهة وولادة العالم، فضلاً عن الأناشيد والصلوات، تدل بوضوح على أن الإنسان غالبًا ما تخيّل الإلوهيّة العظمى مستقاة من سجل الأبوّة. وأن مفهوم "أب"، وحتى مفهوم "أب، أم" أيضًا، قد أتاح إضفاء اسم على الإله الذي كان يُعتبر مبدأ كل شيء وأصله، الذي يشعر كل إنسان أنه مدين له بوجوده.
- بعض النصوص الدينية الآشورية – البابلية
نجد آلهة كثيرة تحمل لقب "أب": إنليل ملك جميع الآلهة وأبوهم. إيئا (إينكي)، آنو، مردوخ، شمش، سين …إلخ. وهناك نشيد سومر-بابلي قديم جدًا يطلق تسمية الأب على إله القمر سين: "أيّها الأب الرحوم، الرؤوف في تصرفاته الذي يمسك بيده حياة العالم أجمع. أيها السيد! … أيها الأب الذي يلد الآلهة والبشر الذي يؤسس الهياكل ويرتّب التقادم… أيها الأب الوالد الذي يلقي نظرة خيّرة على جميع الخلائق الحيّة. أيها السيد الذي يقرّر مصير السماء والارض".
- بعض نصوص مصر القديمة عن أبوّة الآلهة
أمّا مصر القديمة، فقد تركت لنا أناشيد وصلوات موجّهة إلى الإله عمون الذي تسمّيه بالتحديد "خالق السماء والأرض"، "أبو جميع الآلهة وأمها" أو أيضًا "أبو الآلهة والبشر": "تنحني الآلهة أمام جلالتك وتشيد بقدرة خالقها. تشيد عند اقترابها من الذي أحبها وتقول لك: هلمّ بسلام! يا أب آباء جميع الآلهة، يا من يرفع السماء ويُنزل الأرض يا من صنع ما يوجد وكوّن الكائنات… نسجد لقدرتك لأنك صنعتنا، نسجد لك انت الذي ولدنا". أيضًا كان يصلي رعمسيس إلى عمون أب الآلهة قائلاً: "يا أبي عمون، ماذا؟ هل يمكن أبًّا ان ينسى ابنه؟ هل عملت شيئًا من دونك؟ أما سرت وتوقفت وفقًا لكلامك؟…
- أبوّة الله في العهد القديم
لقد أبدى محرّرو العهد القديم تحفظًا واضحًا في استخدام كلمة أب للدلالة على الله، كما أن لائحة النصوص التي تتضمن هذه العبارات هي محدودة، وهي كالاتي: يحتوي نص (١ اخ ٢٩: ١٠) على صفة "أب" ألا أنها في الواقع لا تعود الى الله، حيث أن الترجمة السبعينية نسبت الأبوّة إلى اسرائيل (= يعقوب). وهناك أيضًا في العهد القديم أسماء تحمل اسم الله، لنقارن أبيعازر ("أبي عون") وأليعازر ("الله عون")، بين أبيرام (أبي عالٍ وقد يشبه أبرام او أبراهام). ويمكننا أن نرى في هذه الظاهرة إحدى مخلفات العصر البدوي حيث كان إله القبيلة يُرقى به الى الجدّ المشترك (انظر عبارة "إله ابيك": تك: ٣١: ٥، ٢٩، ٤٢، ٤٦: ١، ٣، خر ٣: ٦).
- نظرة سريعة الى النصوص المثبتة في الإطار تكفي لتكشف عن بعض الخصائص:
- إن عادة أطلاق لقب "الأب" على الله، بشكل واضح، لم يسبق زمن الأنبياء.
- إن مناداة الله بصفة "الأب" لم تسبق الحقبة النبوية، في حين أنّ تسمية الله بعبارة "أب" هي أكثر قدمًا وتداولاً.
- هناك بعض النصوص التي توحي بأن هناك علاقة خاصة بين الله والملك، ومع ذلك فحين نجد عبارة توحي بان إلهه قد "ولد" الملك (مز٢: ٧)، وجب علينا أن نفهمها بمثابة فعل اختيار وتبنِّ، ولا كتشديد على علاقة قرابة، فالقاعدة العامة هي أن لقب "أب" يستخدم للتعبير عن العلاقة التي توحد بين الله وشعب إسرائيل برمّته.
- أما في المؤلفات اليهودية الهلينستّية الحديثة (طوبيا، ابن سيراخ، الحكمة)، فهي تستخدم هذا اللقب وعلى لسان مؤمن يرفع صلاته الشخصية إلى الله (سي ٢٣: ١، ٤، حك ١٤: ٣). وحينذاك تعبِّر عن صورة الأب / الابن عن رباط شخصيّ بين الله والإنسان.
- خلافًا للأساطير الوثنية، نجد فكرة أبوة الله منفصلة تمامًا عن مفهوم الإنجاب، ولا تظهر أبدًا في سياق الكلام بمعنى الوالد او الجدّ. فالله أب، لا لأنه (أنجب الالهة والبشر)، بل لأنه اختار إبراهيم والشعب العبراني وجعل منه ابنه البكر بتخليصه من عبوديّة مصر.
- إن الأبوّة الإلهية وبنوّة إسرائيل لا تنتميان إلى الاسطورة، بل ترتكزان على اختبار تاريخي للعهد والخلاص. فالاختيار والعهد المبرم مع إبراهيم ونسله – وقد جدد مع موسى في سيناء – يفضيان إلى علاقة انتماء متبادلة، وهذه العلاقة تفترض من قبل الله حبًا وحماية، ومن قبل الشعب طاعة وأمانة لربّه.
- مفهوم الأبوّة الإلهية في العهد القديم يضعنا في مستوى يختلف كثيرًا عن المفاهيم الدينيّة عند الشعوب القديمة في الشرق الأدنى. وإن أطلاق لقب "أب" على الله مكّن العبرانيين من التعبير عن موقف إله يكشف للإنسان عن حضوره، ويحاوره، ويمكّن شعبه المختار من عيش خلاص يتجدد من دون انقطاع، وهكذا نشهد تحولاً في مفهوم "الأب"[3].
- لوقا يقدم لنا يسوع نموذجًا مصليًا للابن
اهتم لوقا بصورة خاصة بنقل تعاليم يسوع عن الصلاة إلى الكنيسة. وهو يجمع هذه التعاليم في جزئين يكادان يكونان متساويين: ١١: ١-١٣ و١٨: ١-١٤. الجزء الثاني خاص كله بلوقا. أما الجزء الاول ففيه عناصر من متى في مقطعين من خطبة الجبل (مت ٦: ٩-١٣، ٧: ٧-١١). ولكن مثل "الصديق المزعج" (١١: ٥-٨) هو خاص بلوقا فلا نجد ما يوازيه في سائر الاناجيل.
يستحيل علينا أن نعرف أين ومتى علّم يسوع الصلاة الربية لتلاميذه. إلا ان لوقا يعطينا بمناسبة هذا التعليم تفصيلين يختلف بُعد الواحد عن الآخر. اولاً: بعد أن صلّى يسوع نفسه في إحدى الأماكن، سأله أحد تلاميذه: "يا ربّ، علّمنا أن نصلّي". هذه الإشارة خاصة بكرازة لوقا الذي يحب أن يرينا يسوع مصليًا. فبحسب لوقا، ولوقا وحده، يتمّ ظهور العماد (٣: ٢١) وظهور التجلي (٩: ٢٨-٢٩) حين كان يسوع يصلّي.
ولقد اعتاد يسوع أن يصلي في العزلة (٥: ١٦، ٩: ١٨، ٦: ٤٦). وصلاته تسبق اختيار الاثني عشر (٦: ١٢) وتسبق ضعف الإيمان عند بطرس (٢٢: ٤٣-٤٥). إذن الصلاة التي ينسبها لوقا إلى يسوع قبل أن يعلم تلاميذه صلاة "الأبانا"، تسجّل في مجموعة إشارات مماثلة خاصة به ومن تأليفه.
نحن لسنا أمام خبر تاريخي دقيق، بل أمام طريقة تشدّد على معطيه صريحة من التقليد الذي يؤكد على أن صلاة يسوع كانت متواترة، بل كانت متواصلة، ويبين أن يسوع هو معلم الصلاة لا بأقواله وحسب، بل بمثله وكل حياته[4].
إن ما يدفعنا إلى الصلاة وبثقة، دون خوف أو خجل، هو اعتبار أن الله ابونا، فهكذا علمنا ربنا يسوع المسيح، أن نمجد الله أبانا الذي في السماوات، لأن تمجيد الله أولاً يضعنا في الإطار الذهني السليم لنطلب منه احتياجاتنا. وكثيرًا ما تكون صلواتنا كلها طلبات، أكثر منها حوار وحديث، وانفتاح بنوي على الله أبينا، القادر أن يعطينا احتياجاتنا اليومية ويغفر لنا خطايانا بشرط أن نكون قادرين أيضًا على الغفران.
إن أبوّة الله لنا، تتطلب أن نكون ابناء حقيقيين ولكي نكون كذلك يتطلب منّا أن نكون اخوة حقيقيين فيما بيننا، فلا نفرق بين أحد وآخر بسبب شكله، نسبه، ثقافته أو مركزه الاجتماعي. فنحن اخوة وابناء لأب واحد، أب لا يفرق بين ابنائه بل يجعلهم كلهم في نفس الكرامة والقيمة الانسانية. لذلك علينا أن نرفع صلاتنا يوميًا لأبينا الذي في السماوات ليحلّ أمنه وسلامه على كل البشر، واثقين في رحمته وحبه الأبوي الذي يشمل كل المسكونة.
إن الصلاة لله الاب، هي علاقة شخصية عائلية، ابن بأبيه علاقة أسرية نتيجة الولادة الجديدة (يو١: ١٢-١٣)، وفي هذه العلاقة نقبل ضعفنا ومحدوديتنا، ونعطي الفرصة لله ليكون حاضرًا في حياتنا وقراراتنا ويكمل نواقصنا، فالله مستعد دائمًا أن يعطي، وعلى المؤمن باعتباره ابنًا يستريح ويتأكد أنه حين تمر به أوقات صعبة فإن الرب سيعضده بروحه القدوس. يقول القديس اوغسطينوس "لقد خلقنا لأجلك يا الله، فلا راحة لنا حتى نستريح فيك".
إن الله هو مصدر الأبوّة الحقيقية، التي منها يستمد الآباء البشريون أبوتهم، فيتخلون عن روح الاستبداد واللامبالاة وعدم الثقة، متحملين مسؤوليتهم تجاه ابنائهم وزوجاتهم وتجاه العالم. لكن هذا لن يتم دون أن نعترف بمحدوديتنا فنطلب منه أولاً أن "يعلّمنا أن نصلي"، فعندما نطلب من الله أن يعلمنا الصلاة تبدأ صلاتنا الحقيقة، وتبدأ معرفتنا بالله ويبدأ التغيير يتجلى فينا.
[1] غليوم دي منتيير، تر: ألبير أبونا (الأب)، إعادة اكتشاف الصلاة الربية (تفسير للترجمة الجديدة)، أربيل ٢٠١٨، ص١١-١٣.
[2] . اورجانوس، تر: موسى وهبة (القس)، الصلاة، جمعية أصدقاء الكتاب المقدس القبطية الارثوذكسية، القاهرة ١٩٧٥، ص١٤-١٥.
[3] جان بوني، الله أبونا، تر: بيوس عفاص (الأب)، الكشف عن اله الأب والصلاة الربيّة ٣٢، دراسات في الكتاب المقدس، ط ٢، بيروت ٢٠٠٧، ص٩-١٦.
[4] . بولس فغالي (الخوري)، انجيل لوقا، صعود يسوع الى اورشليم، الجزء الثاني، دراسات بيبلية (٩)، ط ١، لبنان ١٩٩٥، ص١٣٨- ١٣٩.