يارب انت أبونا (52)
الاب البير هشام نعوم
إثنين ما بعد عيد الدنح
القراءة الأولى
” لِمَ ضَلَّلتـَنا يا ربُّ عن طُرُقِكَ وقَسَّيتَ قــُلوبَنا عن خَشيتِكَ ؟ إرجعْ إلينا مِن أجلِ عبيدِكَ أسـباطِ ميراثِكَ… لمْ ترَ عينٌ إلهًا ما خلاكَ يعملُ للذين ينتظرونَهُ. لاقيتَ المسرورَ بعَمَلِ البِرّ، أولئكَ الذين يذكُرونَكَ في طُرُقِـكَ. لكنــَكَ غَضِبتَ لأنـَّنـا خَطِئنـا ولكنـَّنـا منـذُ الأزل بهـذه الطُّرُق نـُخلَّـص. وكُنـَّـا كُلُّنـا كالنـَجَس وبِرُّنـا كلُـه كثوبِ الطَّامِث وكلُّنـا ذَبُلنـا كالورق وآثامُنـا كالرّيح ذَهَبَت بِنا ولمْ يبقَ من يدعو باسـمِكَ ولا ينتَبِهُ ليتمسّـك بكَ حتى حَجَبتَ وجهَكَ عَنـَّا وجَعَلتَنا نذوبُ بقوّةِ إثمِنا. والآن يـا ربُّ أنتَ أبونـا نحـنُ الطّينُ وأنـتَ جابِلُنـا ونحـنُ جميعـًا عمـلُ يدِكَ. لا تَغضَبْ يا ربُّ كثيرًا ولا تذكُر الإثمَ للأبد. أُنظُر، إنـّنا جميعًا شَعبُكَ “.
(أشعيا 17/63 ؛ 3/64-8)
) الإطار التاريخي الذي ورد فيه نص (أشعيا 17/63 ؛ 3/64-8)
تُعتبَر هذه القصيدة الشعرية الرائعة، التي سنتناولها بالشرح والتفسير والتأوين، إحدى جواهر الكتاب المقدس، وهي تقع ضمن الفصول (56-66) من سـفر أشعيا النبي والتي يُطلَق عليها إسم (أشـعيا الثالث). ويُعتقَد أن النبي الذي كتبها مجهول الإسـم، لكنّه يتدخّل في التاريخ، بين سـنة 537 و520 ق. م تقريبًا. في هـذه الفترة، كانت قوافل من المجلوّين تعود، الواحدة بعد الأخرى، فتكوّن في أورشليم وحولها جماعة خليطة من اليهود العائدين من الجلاء واليهود الذين ظلّوا في البلاد والغرباء واليهود الباقين من الشـتات. من هـذه العناصر المختلفة أراد النبي أن يصنع شعبًا موحّدًا ومقدّسًا، ولكنه اصطدم بعقبات رئيسـية، منها البغض الموجود بين الأخوة واحتقار الغربـاء وهو خطر زادته الظروف والأحوال شـدةً، ولذلك استنكر النبي بشـدّة الخطيئة التي هي العقبة في طريق الخلاص، مؤكّدًا من جهةٍ أخرى على أمانة الله التي هي المصدر الثابت لهذا الخلاص. نعم، كان الناس في ذلك الوقت يرجون فقط السـلام مع الله في وسط ظروفهم الصعبة، ولكن الله بدا بعيدًا بالنسـبة إليهم، وكأن أعماله المحرّرة قد اختفت في الماضي ولم يعد لهـا وجود اليوم. ولذلك تحاول هذه القصيدة أن تذكّر الشـعب بأبوّة الله الذي لا ينسى شعبَه برغم كل الظروف التي يمرّون بها.
2) التحليل الكتابي – البيبلي
الآيات التي اخترناهـا في أعلاه تقع ضمن قصيدة طويلة (7/63-11/64) لهـا صيغة مزمور ابتهال جماعي، ويرقى عهدها إلى أوائل الجلاء. هـذه القصيدة مع قصيدة (1/63-6) قصيدتان تختلفان اختلافًا شـديدًا عن غيرهما من نصوص أشعيا الثالث. فإن لم تكونا من عمل النبي، فلعلهمـا قد أُلحقِتا بعمله بمهارة كبيرة، مع العلم أن القصيدة الثانية (والتي اخترنـا منهـا الآيات في أعـلاه) توافق سـير اهتماماته.
هناك، كما هو ملاحظ، تشـديد على أبوّة الله في هذه الآيات. هنا، كمـا في نصوص أخرى من العهد القديم، أصبح اللهُ أبًا لإسرائيل، ليس بسبب خلقه لشعبه، ولكن بسـبب تحريره لهم. التحرير الذي منحهم حيـاة المشـاركة مع محبة الله ورجائه، حيـاة بعيدة كل البعد عـن ضغوطات الحيـاة الطبيعية. وفي الإعتراف بالذنب، الذي نجـده في الآيات 4-6، المزمـور يعترف بأن الله لا يثقّل الخاطئ بحزنٍ، ولكن يحرره بكل بساطة من إثمه كأبٍ رحوم.
3) الإطار الليتورجي
أ- علاقة هذا النص مع النصوص الأخرى
يتكلّم مار بولس، في قراءة هذا اليوم، مع طيمثاوس من خلال رسالته الأولى إليه (1/2-10/3)، معطيًا أيضًا، على مثال أشــعيا، بعض صفـات أبوّة الله الذي ” يريد أن يخلُصَ جميعُ الناس ويبلغـوا إلى معرفةِ الحق… “ (آية 4)، الحق بأن الله أبونا وهو مخلّصنا الوحيد ” لأن الله واحد، والوسـيطَ بين الله والناس واحدٌ، وهو إنسانٌ أي المسيح يسوع الذي جاد بنفسه فدىً لجميع الناس “ (آية 5 و6). هو المسـيح الذي من خلال فدائه للبشـر عرّفهم أبوّة الله الحقيقية، وأن الله يريد أن يلتزم بالبشر، وخصوصًا الخطأة منهم، كي يحررهم وينتشلهم كأبٍ حنون.
أما ربّنا يسوع المسيح، فيعطينا اليوم مثلاً في غاية الروعة وهو مَثَل ” الخادم قليل الشفقة “ (متى 23/18-25)، وفيه يعرض جانب الرحمة والشفقة اللامتناهية في إلهنا من خلال صورة الملك الذي أراد أن يحاسب عبيدَه، ولكنه أشـفق على ذلك العبد الذي كان عليه عشـرة آلاف وزنة والذي طلب من سـيده مهلةً ليوفيها، إذ أعفاه من الدَين كلّه. ولكن هذا العبد لم يعامل أخاه الإنسـان بالطريقة عينها التي عامله بها ملِكُهُ، فكانت قسوةُ الجلاّدين عقابَهُ حتى يؤدّي كلّ دَينه. أليسـت شفقة الله الآب هذه تعبيرًا وافيًا عن أبوّته لشـعبه ؟! أليسـت الشفقة والرحمة صفتان متميزتان للأبوّة التي يعاملنا بها الله، ويغفر لنا بهما خطايانا الكثيرة التي نرتكبها كلّ يوم ؟! فمع يسوع أيضًا يريد ربُّنا أن نردّد ونقول : ” يا ربُّ، أنتَ أبونا “.
ب – علاقة هذا النص بالصلاة الطقسية
تتكلّم صلواتنا الطقسية في هذا الأسبوع كله، أسبوع عيد الدنح المقدس، عن ظهور ربّنا وبدء رسـالته العلنية التي فيها أعلن بشارة الملكوت، ملكوت الله، الله الذي يريد أن يُظهر نفسَـه وحياتَه لكل البشـر من خلال ابنه يسـوع المسـيح. وقراءتنا اليوم تأتي في اليوم التالي لعيد الدنح مباشرةً. واخترنا من صلاة الجلسة الصباحية (موةبّا) لهذا اليوم بيتَين، ندرج ترجمتهما في أدناه :
نشكرك إلى الأبد : نشكر إلهنا الذي في نهاية الأزمنة، أرسـل إبنَه وجاء إلى العالم، وتألّم وصار تحت الناموس لكي لا نُباع إلى العبودية. وأعطى بِرَّه لأجلنـا خلاصًا، وغفر ذنوبنا، وأسـلمنا سرّ قيامته الذي هـو العهد الجديد لمعموذيته من يوحنّا.
المسكونة وكل سـاكنيها : كل البرايا تفرح وتبتهج بالتمجيد بظهور المسـيح المجيد، لأنه أبطل ضلال الأوثـان. والذين كانوا جالسـين في الظلمة أشرق نورٌ عليهم. وتعمّـذ على يـد يوحنّا وقدّس الينـابيع بعمـاذه. (الحوذرا، المجلد الأول، ص123و124، قكه قكد).
الطابع العـام لهذه الصلوات يعطينا أيضًا صفات الله أبينا، الذي أرسـل ابنه الحبيب الذي به سُـرَّ، ليخلّص العـالم ويغفر ذنوبنـا، مفتتحـًا بذلك عهدًا جديدًا للبشرية جمعاء. فيفرح البشـر جميعهم بظهور المسـيح نورًا لهم، مقدّسًا الينابيع جميعها بعماذه. فآباؤنا عبّروا عن إيمانهم بأبوّة الله في صلاتهم، ونقلوهـا لنا لكي نعيش بمقتضاها نحن أيضًا عِبر كل العصور.
4) رسالة هذا النص لعالمنا المعاصر (تأوين)
إن نص أشـعيا هذا يتحدّى كل اعتقاداتنا التي تقول بأن العهد القديم لا يشدّد على أبوّة الله للبشـر، فهوذا نصٌ من أروع النصوص التي تُحدّثنا عن أبوّة إلهنا وما يترتّب على هذه الأبوّة من صفحٍ لخطايا شـعبه وغفرانٍ لذنوبهم مهما كانت عظيمة بحيث ” لم يبقَ من يدعو باسـمِك… “. وجاء يسـوع لكي يرسّخ إيماننا بهذه الأبوّة، ويجعلها أمرًا جوهريًا في علاقتنـا بالآب، بحيث يبطُل كلُّ شيء في إيماننا، إن لم نبنِه على شعورنا ببنوّتنا لأبينا السماوي الذي أظهر نفسَه من خلال ابنه الوحيد يسوع المسيح.
قد لا نشـعر في كثيرٍ من الأحيان بأن الله هو أبونا، وخصوصًا عندما تشتدُّ علينـا ظروفُ الحياة، ولا يبقى لنـا من معين، ويبدو وكأن الكل تركنـا، فنظن عندهـا أيضًا وكأنّ الله لم يعد أبًا لنا وقد تركنا هو أيضًا. وأن كل ما يحدث لنا هو عقابٌ منه على خطايا ارتكبناها، ربّما بمعرفتنـا أو بغير معرفتنا، مما أثـار غضب الله وسـخطه علينا… ! ولكن ما يجب علينا معرفته والإيمـان به أن الله لا يعاملنـا إلا كأبٍ محب لجميع أبنائه ويريد خيرَهم فوق كل شيء. هكذا فلتكن لنا الثقة الكاملة بأبوّة الله لنا، فنعيش كأبناء أمناء له دومًا. آمين.