وصعد إلى السماء العدد (53)
تراءى يسـوع لتلاميذه بعـد قيامته المجيـدة، وقال لهم : ” هكذا كان ينبغي أن يتألم المسـيح ويقوم من بين الأموات في اليوم الثالث، كما هـو مكتـوب، ويُكرز بإسمه بالتوبة لمغفرة الخطايا في جميع الأمم… وأنتم الشهود لهذه… “.
هل كان صعود يسوع إلى السماء صعودًا ماديًا ؟
على غرار الأسرار الإلهية الأخرى، يجب أن نفهم معنى صعود يسوع إلى السماء فهمًا صحيحًا.
من السـذاجة أن نتخيـّل يسـوع صاعدًا إلى السماء صعودًا ماديًا، كما يصعد رواد الفضـاء، وكأن المسـيح اسـتقلّ مركبة فضاء، فاخترق غيوم الفضاء، ووصل إلى أحد الكواكب أو أحد الأجرام السماوية.
كان الإنجيلي لوقا على وعي تام أن بعض الحقائق الإلهيـة، لا يمكن فهمها إلاّ من خلال عبارات رمزية.
لندع لوقا يقودنا من خلال كلماتهِ البشرية الرمزية إلى فهم حقيقة صعود يسوع إلى السماء.
المعنى الرمزي لكلمتـــــــَي ” العالي “ و ” الواطئ “ :
نعرف، نحن البشر، القيمة الرمزية لكلمتَي ” العالي “ و” الواطئ “، إذ غالبًا ما تُسـتخدم هاتان الكلمتان، اللتان يَدلّ معناهما المادي على حقائق أرضية، لتدلاّ على حقائق غير مادية، أي على حقائق معنوية وروحية ؛ فحينما نقول إن أخلاق إنسـان ما ” عالية “، لا نقصد أن مكـان هذه الأخلاق هـو في موضِع مادي،
كأعالي الجبـال أو في الفضاء، بل نعطي معنى روحيًا وأدبيًا لصفـة أو منزلـة أخلاقه أي نريد أن نقول إن أخلاقه ” سامية “ ؛ وحينما نقول عن شخص ما إن أخلاقه ” واطئة “، لا نقصد أن موضِع أخلاقه تحت الأرض، أو تلامس قشرة الأرض، بل نريد أن نقول إن أخلاقه سـيئة ؛ وحينما نقول إن أخلاق شخص ما قد ارتفعت، لا نقصـد أنه صعد بأخلاقه إلى مكان مرتفع، بل نريد أن نقول إن حالته الأخلاقية قد سمت. هكذا، غالبًا ما نستخدم كلمات يدل معناها الحرفي على أمور مادية للدلالة على حقائق روحية.
معنى ” صعود “ يسوع إلى ” السماء “ :
حينما يقول الإنجيلي لوقـا إن يسـوع ” صعد إلى السـماء “ لا يعني بكلمة ” صعد “ أنه ارتفع عن الأرض ؛ ولا تعني كلمة ” السماء “ الفضاء الخارجي الذي يحيط بالأرض، والذي يحوي الشمس والأجرام السماوية الأخرى، وليس مكانًا مرتفعًا يمكن الصعود إليه ؛ بل تشير لفظة ” السماء “ إلى مقر الله، وأحيانًا إلى الله نفسـه ؛ فغالبًا ما ترد الكلمتـان في الإنجيل المقدس، الواحـدة كمرادف للأخرى، مثلاً ” طوبى لكم أيها المسـاكين فأن لكم ملكوت الله… “ (لوقا 20/6)، و” طوبى لكم أيها المساكين فأن لكم ملكوت السماء… “ (متى 3/5). ويظهر هذا جليًا من خلال الأمثلة التي يضربها يسوع حيث يستعمل في أمثلته عبارة ” يشبه ملكوت الله… “ (متى 24/13، 31، 33، 47…) وعبارة ” يشبه ملكوت السماء… “ (مرقس 26/4، 30 ؛ لوقا 18/13 ،20). فالصعود إلى السماء يعني إذن الدخول في مجـد الله. إن الله روح، فلا يوجد بطريقة مادية في أي مكـان، ولكنه موجـود روحيًا في كل مكان وفي كل زمان.
ليست السماء مكانًا ماديًا، وكأنها قصر فخم، محاط ببساتين غنّاء، ترويها مياه رقراقة، وتزينها أشجار مثمرة. إن السـماء ” حالة “ جديدة، حياة سـعادة كاملة وأزلية، إنها حالة المشـاركة في سـعادة الله غير المتناهية، تفوق إدراك البشر، لأنهم لم يختبروهـا بعد وهم ما زالـوا على الأرض، كمـا يقول القديس بولس ” ما لم تَرَهُ عين ولا سمعت به أذن، ولا خطر على قلب بشر، ذلك ما أعدّه الله للذين يحبّونه “ (1 قور9/2).
فحينما يقول الإنجيلي إن ” يسـوع صعد إلى السـماء “ يعني أن المسيح بدأ حياة جديدة، أو قل حالة جديدة، أو نمطًا جديدًا للوجود.
معنى ” إنفرد عنهم “ :
فَلْنحاذِرْ أن نعطي معنى حرفيًا وماديًا لعبارة ” إنفرد عنهم “، أي كمـا لو أنّ يسوع انفصل عن تلاميذه وغاب عنهم.
تعني عبارة ” إنفرد عنهم “ خاتمة لنوع من العلاقة الحسيّة بين يسـوع وبين تلاميذه. كـان بإمكان الرسـل أن يروا يسـوع خلال حياتـه الأرضية بأعينهم الجسـدية، وأن يلمسوه بأيديهم. لكن الآن، وقد دخل إلى مجد الله، فلقد بدأ نمطًا جديدًا من الحضور مـع تلاميذه، فهو حاضر بالأسـلوب الذي يكون الله حاضرًا معنا فيه، أي حضورًا روحيًا، ولكنـه حقيقي، بل أصبح أكثر قربًا وحضورًا من الماضي، فخلال حياته الأرضية كان حضور يسـوع محدودًا بالمكان وبالزمـان، وبعد القيامة أصبح هذا الحضور شاملاً يتعدّى حدود المكان والزمان، أي سيكون حاضرًا مع تلاميذه ورسـله وجميع المؤمنين به في أي مكـان وُجدوا، وفي أي زمان عاشـوا، وسيكون حاضرًا معهم دومًا وعِبر الأجيال كلهـا. لذا ختم حديثه الوداعي معهم بالكلمات الآتية ” وهاءنذا معكم طوال الأيـام إلى نهايـة العالم “ (متى 20/28).
ورجعوا بفرح عظيم :
إذا قرأنا هذه العبارة بحسب مفاهيمنا البشرية، سوف نستغرب هذا الفرح اللامنطقي، كيف يمكن للرسل أن يكونوا فرحيـن حينمـا يقول النَص الكريم إن يسـوع إنفرد عنهم وانطلق إلى السماء وكأنهم فقدوه.
ولأن صعود يسوع لا يعني غيابًا، بل بداية حضور روحي عميق وسـطَ كل المؤمنين به، فهـذا الحضور العميق يُذكي في نفوسهم الشـجاعة ليواصلوا رسـالته برغم كـل الصعـاب، تنفيذًا لوصيته، فيكرزوا باسـمه بالتوبة لغفران الخطايا، وليكونوا له شـهودًا، فيشـهدوا لتجسّـده وعماذه وكرازته وموته وقيامته، عِبر كلماتهم ومـن خلال حياتهم الفاضلـة ؛ ويُذكي هـذا الحضور العميق في نفوسهم شـوقًا شديدًا لعودة المسـيح ومجيئه الثاني ولقائه في ختام حياتنا الأرضية. وليستهلّوا المصير السعيد الذي بدأه المسيح للإنسان، أي أن يحيا هذا الإنسـان في مجد الله وفي السـعادة الأبدية… إن كل إنسان مدعو إلى هذه سـماء، ولذلك يمكننـا القول إن موسـم الصعود هو عيد الرجاء وليس الحزن.
وبينما يحيا المؤمن وسـطَ هذا الإنتظار، ويسـتعد لهـذا اللقاء السـعيد، فهو لا ينسى أنه ليس منسلخًا عن العالم الحاضر الذي يعيش فيه، بل يعلم جيدًا أن له رسالة وقدرة على القيام بدور فاعل في هذا العالم، ليسهم مع أخوته البشر، جميع البشـر بدون اسـتثناء، لبناء مجتمع تسوده الأخوّة والمحبة والتسـامح والسـعادة والرفاه.