هل نبشّر بإيماننا؟ (98)
هل نبشّر بإيماننا؟
الأب ألبير هشام نعّوم
مار توما: مبشّر المشرق
تستذكر الكنيسة الكاثوليكية، والكلدانية على وجه التحديد، يوم الثالث من شهر تموز، القديس توما الرسول شفيع بطريركيتنا الكلدانية وأبرشيتنا البطريركية في بغداد، وهو أيضًا شفيع أبرشيتينا في شرق الولايات المتحدة الامريكية وفي استراليا ونيوزلندا. بالإضافة إلى اتّخاذه شفيعًا لخورنات وأديرة كلدانية عديدة منتشرة اليوم في أرجاء المسكونة.
القديس توما هو أحد تلاميذ المسيح المشهور بعبارته "ربّي وإلهي" التي قالها للربّ يسوع بعد أن مسّ يديه وجنبه عندما ظهر لهم بعد ثمانية أيام من ظهوره للتلاميذ في العلّية ولم يكن توما عندها معهم، فآمن توما ونال الطوبى جميعُ من لم يروا وآمنوا (راجع يوحنا 20/19-29).
واتّخذت كنيستنا الكلدانية مار توما شفيعًا لها لأنها تعتبره مبشّر المشرق، ساعده تلميذُه مار أدي أحدُ الاثنين والسبعين تلميذًا وتلميذاه أجي وماري. وتقول المصادر إن توما أكمل طريقه إلى الهند وبشّر في أماكن عدّة إلى أن تكللت حياته بالشهادة.
التبشير في كنيسة المشرق
يعود توما الرسول اليوم ليطرح علينا موضوع التبشير بالمسيح الذي كلّفه حياته في النهاية. وورثت كنيسة المشرق هذه المحبة للمسيح فقدّمت شهداء كثيرين في القرون الأولى وعلى مدى العصور، ولا زالت الكنيسة إلى اليوم تصلّي لهم أبياتًا من الشعر الكنسي صباحًا ومساءً، فهم البذرة التي أنمت مسيحيين عديدين في أرضنا.
فمن توما الرسول وشهداء المشرق الأولين، تميّزت كنيسة المشرق بأنها مبشِّرة، إذ بلغ عدد أبرشياتها ولقرونٍ عدّة أكثر من 250 أبرشية وتوسعت رقعتها الجغرافية، لاسيما منذ القرن الخامس وحتّى الرابع عشر للميلاد، فوصلت حدودها إلى الشرق الأقصى من جزيرة سومطرة وسريلانكا (سيلان سابقًا) وسواحل الملبار الهندية والصين الى جانب الجزيرة العربية.
وبقت كنيسة المشرق تبشّر بإيمانها بالمسيح في العصور اللاحقة بطرقٍ عدّة ومنها التعليم، خدمة الفقراء، الطبّ، بالإضافة إلى الخدمات الاجتماعية الأخرى التي عبّرت فيها عن إيمانها الأصيل بالمسيح.
لماذا نبشّر؟
وقد يسألُ البعض سؤالاً: ولماذا نبشّر؟ ونحن نجيبُ بأسئلةٍ: وهل يكون الإيمان حيًا دون تبشير؟ هل يستطيع المؤمن أن يعيش إيمانه دون أن ينقل بشراه إلى آخرين؟ فالإيمان بطبيعته يُنقل، ولا يستطيع أحدٌ أن يحبس البشرى السارة في قلبه دون أن يشارك بها آخرين. وهذا ما نلمسه خاصّةً في دعوة التلاميذ الاولين الذين دعوا أشخاصًا آخرين ليتبعوا يسوع (راجع مثلاً يوحنا 1/35-51). كما نلاحظها في قصص القيامة، إذ راحت النسوة تبشر بالقائم (راجع متى 28/1-10) وانطلق التلاميذ إلى أرجاء المسكونة ليعلنوا ما آمنوا به وكانوا مستعدّين ليضحّوا بحياتهم من أجله.
فمن دون التبشير لما وصلت المسيحية إلى أرجاء واسعة من المعمورة، ولما استمرّت إلى اليوم. وتبقى كلمات القديس بولس فاعلة اليوم: "الويل لي إن لم أبشّر" (1 كور 9/16). أمّا كيف نعيش هذه الكلمات، فهذا ما يجب أن نناقشه اليوم وهو يتكيف مع وضع كلّ زمان ومكان.
التبشير: معادلة صعبة لكنها ممكنة!
قد يحتار البعض، تدفعهم الغيرة على التبشير بإيمانهم، في اختيار الطرق الصحيحة للتبشير اليوم. فالبعض لا زال يفهم التبشير بالنزول إلى الشارع والمناداة باسم يسوع، وهناك من يرى هذا الأمر صعبًا وسط تقاليد المجتمع الذي نعيشه فيه. ويعزز هذا الموقف منع التبشير في قوانين بعض الدول التي نعيشُ فيها، أو على الأقلّ تمنعه الأعراف والتقاليد التي انغمسنا في تأثيراتها.
ولن أدخل في هذا تفاصيل هذا الموضوع الشائك، وأقصد منع التبشير في القوانين والأعراف، وأكتفي بالقول إن البعض، وبسبب هذه التعقيدات ذاتها، أهمل موضوع التبشير في إيمانه، وكأن زمنه قد انتهى في القرون الأولى من المسيحية، ويعتقد أن أكثر ما عليه فعله اليوم هو نقل إيمانه لأولاده في العائلة، هذا إن لم يترك للكنيسة هذا الواجب! وبالنتيجة لم يبقى للتبشير مكانًا ملحوظًا وسط جماعتنا المسيحية اليوم.
وفي السنوات الأخيرة، وخاصّةً بعد المرحلة الجديدة التي دخل فيها بلدنا، راحت بعضُ الأصوات تدعو إلى حصر المسيحيين في منطقة مستقلّة من أجل حمايتهم. وحول هذا الموضوع جدلٌ كثير، لا يهمّني أبعاده السياسية والاجتماعية هنا، بل أقول بما يخصّ موضوعنا: أليست رسالةُ المسيحيين الانتشار كما ينتشر الملح في الطعام ليعطيه طعمًا صالحًا؟ ألم يعش المسيحيون عبر العصور مع شعوب وثقافات مختلفة؟ ألم تقم المسيحية بدورٍ كبير في كل زمانٍ وخاصّةً في إنماء حياة المجتمع؟ وهذا هو دورُ مسيحيينا في العراق والمهاجرين منه إلى بلدان الاغتراب. هذا كلّه من جهة.
من جهةٍ أخرى، وفي الوقت ذاته، قامت الدنيا ولم تقعد على قداسة البابا فرنسيس في زيارته الأخيرة للمغرب (30 و31 آذار 2019)، بسبب ترجمة خاطئة لكلمة Proselytism التي قالها قداسته أثناء قدّاسه هناك، وتعني "الضمّ البغيض" وتُرجِمت خطأً في وسائل الإعلام بـ"التبشير". ففهم البعض أن البابا يدعو إلى عدم التبشير، في حين أن قداسته ميّز بكل وضوح بين التبشير الذي هو واجب كلّ مسيحي، وبين ضمّ أحدٍ مكرهًا إلى المسيحية، وهو أمرٌ مرفوضٌ من أساسه في إيماننا.
فنحنُ اليوم أمام معادلةٍ صعبة في موضوع التبشير: من جهة ندافع عنه دفاعًا مستميتًا، وخاصّةً بعض المتحمسين، ومن جهةٍ أخرى نهمله أو نبرر عدم عيشه لأسبابٍ تفوق قدرتنا وامكانياتنا. وبالتالي صار إيماننا، أحيانًا كثيرة، محصورًا ضمن جدران الكنائس والنشاطات الكنسية والممارسات الليترجية والعبادات التقوية، وهذا ما يدفعنا اليوم إلى إعادة النظر في موضوع التبشير.
خاتمة: نبشّر بحياتنا!
للتبشير طرق عديدة في عيشه، ولا يوجد ما يبرّر أبدًا اقتلاع جذوره من مسيحيتنا. فلا زلنا نستطيع عيشه، كما عاشته كنيسة المشرق عبر عصورها الطويلة، وذلك من خلال الاندماج في المجتمع: فكان الاطبّاء يبشّرون بطبّهم، والعامل يبشّر بعمله، والمعلم بتعليمه، وفي النهاية المسيحي بأخلاقه ومواقفه.
لا أريد أن أكون سلبيًا في النهاية تجاه واقعنا اليوم، فلا زال هناك من يؤشر إلى المسيحي متمتمًا: "إنه مختلف فهو مسيحي!". إنها شهادة الاختلاف عن العالم التي نقدّمها للعالم (راجع يوحنا 15/18 و19)، وبهذه الطريقة يعرفُ "الناس جميعًا أنكم تلاميذي" يقول يسوع (يوحنا 13/35). فحياتنا المسيحية الصادقة هي أكبر شهادة نقدّمها للعالم اليوم!
أترك القارئ الكريم أمام هذه الأفكار، لنعيد النظر جميعًا في تبشيرنا لحياة المسيح في الوسط الذي نعيش فيه، ولنعلم أنه ليس للتبشير زمن معيّن، بل هو في كل الازمان ومهما كانت الظروف.
تذكار مار توما الرسول
3 تموز 2019