الافتتاحية

هل لشؤون الحياة الخيرة وأوقاتها السعيدة من نهاية ؟ العدد (82)

هل لشؤون الحياة الخيرة وأوقاتها السعيدة من نهاية ؟

  ”  هل إن شؤون الحياة الخيّرة وظروفها السعيدة محكوم عليها بالإنتهاء عاجلاً أم آجلاً ؟ إنه سؤال تطرحه الحكمة الشعبية بعد الإستمتاع بأوقات فرحة وظروف سعيدة “.
   تنتهي أَيام عطلة الطلاب، ويتجهون ثانية صوب مدارسهم. فبعد أيام السفرات وساعات الأنس واللعب، يعـودون إلى نمط الحياة الإعتيـادية، بكل جدّ ورتابة : ” فهل إن شؤون الحياة الخيّرة وأوقاتها السعيدة محكوم عليها بالإنتهاء ؟ “، يطرح الطلبة على أنفسهم هذا السؤال مستسلمين لهذا الواقع، وهم يعدون محفظاتهم وكتبهم ودفاترهم.
   هل إن هذا الواقع يشمل أيام العطل فقط ؟ إننا نصطدم دائمًا على هذه الأرض بهشاشة أَفراحنا. لا يوجد حبٌ على هذه الأرض يدوم إلى الأبد، إذ يضع الموت حدًا له يومًا ما ؛ ولا توجد مشاريع لا تتعرض للإنتهاء آجلاً أم عاجلاً.
   نحن معرضون لتجربة تناسي هذا الواقع، فنعيش وكأننا خالدون على هذه الأرض، محاولين ضمان إستمرارية نجاحاتنا الدينوية، فنتصرف وكأننا في مأمن من عواصف هذه الحياة، على غرار الرجل الجاهل الذي ذكـره يسـوع في مثل ” الغني الجاهل “، الذي تصوّر أَنه في مأمن من المصائب، لأن أرضه أَغلت غلاتٍ وافـرة، فقـال يسوع ” رجلٌ غنيٌ أَخصبت أَرضـه، فقـال لنفسه : ” مــاذا أَعمل ؟ فليس لي ما أَخزن فيه غلالي. ثم قال : أَعمل هذا : أَهدِمُ أَهرائي وأَبني أَكبر منها، فأخزن فيها جميع قمحي وأرزاقي، وأقول لنفسي : يا نفسي، لك أَرزاق وافرة تكفيك مؤونة سنين كثيرة، فاستريحي وكلي وآشربي وتنعمي. فقال له الله : يا جاهل، في هذه الليلة تستردّ نفسك منك، فلمن يكون ما أعددته ؟ فهكذا يكون مصير من يكنز لنفسه ولا يغتني عند الله ” (لوقا 13:12-21).
   فاذا ما حلّت بنا مصيبة ما، فإذا ما جثم على صدورنا قلق يسبب مرضًا إنتابنا أو إنتاب أحد أقربائنا، وإذا ما تعرضنا لحادث سيارة خطير، وإذا ما عصفت ظروف قاسية على مشاريعنا، أدركنا أن وجودنا يمكن أن ينقلب بين لحظة وأُخرى.
   لقد خلقنا الله لسعادة تدوم، إننا نشعر بهذا خاصة في حلول النوائب : فحينما يخطف الموت أحد معارفنا ننغمس في الحزن والكآبة ؛ إن مجرد ” توديع ” شخص عزيز ما، نشعر بالكآبة، لا بل حينما نسافر ونترك وطنًا أو بيتًا محملاً بالذكريات يسبب الحنين لنا غصة.
   إن العطش إلى سعادة لا تنتهي منقوشٌ في أَعماق الإنسان، إن الله نفسه قد وضعه فيه، لأن الله يريد أنْ يغمرنا بهذه السعادة. إن القلق الذي ينتابنا بسبب محدودية أفراحنا في الأرض، لا يجوز أن ندعها تنغمس في الكآبة، بل أن نتوجه نحو ما لا ينتهي، أن نبحث عن السعادة، حيث تدوم إلى الأبد.
   إن الأمور الحسنة الخيرة لا نهاية لها، لأنها تلك التي تأتينا من عند الله، وتقود خطوتنا إليه، أي تلك التي تنتمي إلى ملكوته الأبدي. لقد أبدعنا الله من أَجل هذا الملكوت. طبعًا لا يجوز أن نحتقر الأفراح الأرضية، لأنها تدعونا ألاّ نكتفي بها، بل تحثنا أن نبحث عن ما ليس من هذا العالم، وأن ننظر إلى كل أمور هذه الدنيا عبر نظرتنا إلى السعادة الأبدية.
   في مسكننا أمور عديدة ليس لها أَهمية حقيقية، إذا ما نظرنا إليها عبر دعوتنا الأخيرة، أي السماء. سوف لن نذهب إلى السماء بصحبة بيتنا أو سيارتنا أو سائر ممتلكاتنا وأموالنا. لذا لا يجوز أن نعطي أَهمية قصوى لما سوف يتلاشى. فإذا ما وضعنا ثقتنا وأملنا في أمور هذه الدنيا، سوف ننال سعادة بحجم هذه الأمور، أي بسعادة ناقصة وعابرة ومحدودة. في الواقع، حتى إذا ما كنا نعرف أن هذه الأشياء هي أشياء مادية، يصعب علينا أن نقاوم تجربة الهرولة للحصول عليها.
   ولكن كيف يمكننا أن نستوعب الواقع المرير حينما يخطف الموت أحد أفراد العائلة ويعكر أجواءَها ؟ مثال ذلك : حينما يتوفى رب العائلة على أثر حادث سير ويترك زوجته حاملاً ؟ أو يخطفه الموت من بين أحضان أسرته الحنون ؟ أليس هذا الحب هو جزء من هذه الأمور الخيّرة التي كانت، ويجب عليها أن تدوم ؟ هـل يجـوز أن نضحي بالحب على هـذه الأرض، لكي نتحاشى هذه الأحزان ؟
   إنها أَسئلة حقيقية، يحاول البعض الاجابة عنها بالإنغلاق على الذات : الإمتناع عن الحب، تحاشيًا للآلام التي تسببها أحداث هذه الحياة المؤلمة.
يعطينا يسوع جوابًا آخر، حين مات على الصليب من أجلنا، وقام صباح الأحد.
   مهما كان إنتصار الموت قاسيًا، فإنه ليس إلاّ إنتصارًا ظاهريًا ومؤقتًا ؛ فإن ليل الصليب ينفتح دائمًا وينتهي بالقيامة. ليست الأمور الخيّرة التي لها نهاية ولكن الأمور السيئة.
   إن الحب لـن ينتهي، كما يقـول القديس بـولس : ” المحبــة لا تسقط أَبـدًا ” (1 قورنثس 8:13)، لن تنتهي محبة الله لنا، ولا حبنا البشري. محبة الزوج لزوجته، محبة الأب لأبنائه، محبة الصديق للمقربين إليه، إنها لن تزول بحلول الموت ؛ لأن ألم الفراق سوف تحتل مكانها يومًا سعادة اللقاءات الأبدية ؛ والرب نفسه سيمسح كل دمعة من عيوننا، كما يقول القديس يوحنا في سفر الرؤيا : ” لأن الحمل الذي في وسط العرش سيرعاهم وسيهديهم إلى ينابيع الحياة، وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم ” (رؤيا 17:7).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى