” هذا هو إبني الحبيب الذي به سررت “ (54)
(متى 1/17-9)
الاب زيد عادل حبابة
إنجيل عيد التجلـّي
” وبعدَ ستة أيَّام أخذَ يسوع الصفا ويعقوبَ ويوحَنا أخاه فأصعدهم إلى جبـل عــال وحدهـم، وتجلّى يسـوع قدّامهم، أضـاءَ وجهُه كالشـمس وثيابه ابيضّت كالنور، فتراءى لهم موسى وإيليا يخاطِبانه، فأجابَ الصفا وقال ليسـوع : يا رب حَسَـنٌ لنـا أن نكونَ ههنـا وإن شِـئتَ فلنصنع ههنـا ثلاث مضال واحدة لك وواحدة لموسى وواحدة لإيليا، وفيما هو يتكلّم إذا سـحابة نيّرة قـد ظللتهم وكـانَ صوت من السـحابة يقول : هـذا هو ابني الحبيبُ الذي بـه سُـررت فله اسـمعوا، فلمّا سَـمِع التلاميـذ سَـقَطـوا على أوجههم وخافـوا جـدًا، فدنـا إليهم يسـوع ولمَسَـهم قائلاً : قوموا لا تخافوا، فرفعوا أعينهم فلم يروا إلا يسوع وحده، وفيما هم نازلون من الجبل أوصاهم يسوع وقال لهم : لا تخبروا أحدًا بهذه الرؤيا حتى يقوم إبن الإنسان من الأموات “ (متى 1/17-9).
التحليل الكتابي
يرد مشهد تجلّي المسيح في إنجيل متى وكذلك في إنجيل مرقس ولوقـا، بين اعتراف بطرس والأنباء الأول بالآلام، وتعليمات يسـوع حول الآلام التي تنتظر التلاميذ والمجد القريب لابن الإنسان. فلكي نفهم معنى التجلّي، علينا أن نعود إلى المقطع الذي يسبق التجلّي مباشرة حيث يطرح يسوع سؤالاً على تلاميذه : ” من هو ابن الإنسـان في رأي الناس “ (متى 14/16)، فيسـوع ليس يوحنـا المعمذان ولا إيليا ولا أحد الأنبياء. فيسوع ” هو المسيح إبن الله الحي “ (متى 17/16) كما أجاب بطرس. إنه إعلان عن هوية يسـوع بأنه المسـيح. ولكن بعد هذا ينصدم التلاميذ بتعليم يسوع حول آلامه (متى 21/16)، فهم لا يستطيعون أن يتصوروا مسيحًا متألمًا، إذ نسمع مار بطرس يقول ليسوع : ” لا سمح الله يا سيد أن تلقى هذا المصير “ (متى 22/16). فالمسـيح الذي أعلنه بطرس باسم التلاميذ هو أيضًا إبن الإنسان الذي يصعد إلى أورشليم ليموت هناك ويقوم. فالصعود إلى أورشليم بالنسبة إلى يسـوع هو سـير نحو الصليب والآلام. والتلاميذ بالرغم من كل ما رأوا من أعمال هذا الرجل ومن كل ما سمعوه يقول ويعلم، فهم ما زالوا يجهلون قصد الله ويصطدمون بجدار الألم والموت، فيحاول متى أن يكشـف هوية يسوع من خلال مشـهد التجلّي مسـتخدمًا عناصر معروفـة لدى جماعته اليهودية التي يكتب لها إنجيله.
التجلـــــّي بالنسبة إلى يسوع
بعد الكرازة في الجليل، تركه الشعب وصعد يسـوع إلى جبل عال ليفكر في مسيرته، فهرب من هتاف الشعب الذي أراد أن يقيمه ملكًا (يوحنا 15/6)، ويتساءل يسوع مع نفسه : ماذا يفعل ؟ ماذا يريد الآب منه ؟ هل يكمل التبشير بالجليل أم يصعد إلى أورشـليم حيث ينتظره الموت ؟. يتأمـل يسـوع في أسـفار التوراة (موسى) والأنبياء (إيليا) ليتعلم منهما معنى العبور الأخير. ” وإذا رجلان يكلمان يسوع، وهما موسى وإيليا، ظهرا في مجد سماوي وأخذا يتحدثان عن موته الذي كان عليه أن يتممه في أورشليم “ (لوقا 30/9-31).
في هذه اللحظـة الراهنـة يظهر الآب ليسـوع ليؤكّد له بأنه وفيّ معه، ومن خلال مجـد التجلّي يبيّن الآب بأن حبـه للإبن أقوى من الموت وسوف يمجده. ” هذا هو إبني الحبيب الذي به سُررت له إسمعوا “ (متى 5/17). في هـذا الإبن الحبيب يجد الله مسـرّته، وهذه العبارة تذكِّر مـا قيل في العمـاذ، وقد أراد أن يذكّرنا بما جـاء في تثنية (15/18) ” سـيقيم لكم الرب من بين إخوتكم نبيًا مثلي فاسمعوا له في كل ما يقول لكم “.
التجلـــّي بالنسبة إلى التلاميذ
أخذ يسوع ثلاثة مختارين معه كشـهود للمجد الذي منحه الله الآب من خلال ” النور “ و” الصوت “. لقد خاف التلاميذ من الذهاب إلى أورشليم، لكن الله شجعهم بواسطة التجلّي، بنوع الوعد، ففي نور التجلّي قد ظهر شيء من سر القيامة. وابتداءً من هذه اللحظة أخذ يسوع يعلّم الرسل، من هو التلميذ الحقيقي ؟ إنه ذاك الذي يتبع يسوع في طريق الصليب وهو يحمل في قلبه رجاء القيامة.
لقـد أراد التجلّي، بالنظر إلى السـياق الذي دُوِّن فيه، أن يجعل الرسل يرون مسبقًا مجد اليوم الأخير، كما تركّز في يسوع هذا الذي يرونه معهم كل يوم. لقد كلّم الله هؤلاء التلاميذ الخائفين، المرتعبين بأن مجد الله حاضر منذ الآن في إبن الإنسان الذي هو حي أمامهم، فهم يستطيعون منذ الآن أن يسـمعوا له ويثقوا به، يستطيعون أن يتبعوا يسوع في الطريق الذي يصعد إلى أورشـليم، يصعـد نحو المجد عِبر الصليب.
تأوين
التجلّي هو بداية التغيير فينا، عبّر عنه مـار بولس بالدعوة : ” أيها الأخوة، تغيّروا بتجديد أفكاركم، ولا تتشبهوا بهذا العـالم، بل ميزوا أين هي مشـيئة الله الصالحة والمقبولة والكاملة، وأقيموا من أجسـادكم ذبيحة حية، مقدسـة، ومقبولة لدى الله بعبادة عقلية “ (رومة 1/12-2).
أراد يسوع من خلال التجلّي أن ينتزع من قلب التلاميذ وقلب كل إنسان شك الصليب والصدمة من الألم والفشل، لكي إذا ما رأوه معلّقًا على الصليب، يفهموا أن آلامه إختيارية لخلاصنا. إن الرب يعلّمنـا في كل هذا أن نقبل صليب الحياة،
مرضًا كان أو حزنًا، فقرًا أو فشـلاً، إضطهادًا أو ظلمًا، فهو يعيننا على حمله، ويعطيه قيمة خلاصية ؛ وهذا ما يؤكّده بولس الرسول : ” إني أرى أن آلام هذا الزمان، لا توازي المجد المزمع أن يتجلّى فينا “ (رومة 18/8).
فحالـة التلاميذ المضطربين على الأرض، تمثّل حالتنـا نحن، عندمـا نرفض النور أو نخاف من التقرب من المصلوب، ونفضّل السير في طريق الظلام على حمل الصليب بكل تواضع، فعيوننـا قد اعتادت على ظلام الليل، فكيف ترى نور التجلّي ؟ وكيف تغيّرنا إلى صورة المسيح الممجد وتُشركنا في سر التجلّي ؟ هل نحمل طاقة التجلّي في قلوبنا، فيظهر نوره في حياتنـا ؟ في الرسـالة إلى أهل كورنثس يؤكّد مار بولس كيف يتم هذا التغيير : ” نحن جميعنـا، إذ نعكس، كما في مرآة، مجـد الرب، نتحوّل إلى تلك الصورة، من مجـد إلى مجد، وفقًا لعمل روح الرب “ (2 كور 18/3).