نعمة الإنصات العدد (78)
مَنْ منا لم يسمَع يومًا ما مِن أَحد أَفراد عائلته أو مِن صديق، أَثناء حديثه، العتاب الآتي : ” إِنك لا تسمعني، ولا تنصت إليَّ “، وذلك حينما يلاحظ أَننا شاردو الذهن، لا نعير إنتباهنا لما يقوله ؟
أَلَمْ يحدث لنا أن نكون حاضرين جسديًا أَمام شخص يحدثنا، ولكننا غائبون في الواقع، لأن فكرنا شارد، نقلنا إلى أَماكن أُخرى ؟
أَلم يحدث هذا حينما كان نهارنا صعبًا بسبب الإرهاق الذي سبّبَه لنا عملنا اليومي، أو بسبب المشاكل التي تلقيناها أَثناء تأدية واجبنا الوظيفي، فنعود إلى البيت من دون أن نبذل الجهد لإعداد أَنفسنا للقاء أَفراد الأسرة بصدر منشرح، لندخل الفرح إلى قلوبهم ؟ تاركين هموم العمل. ألا نشبه بهذا الأولاد المنهمكين بألعابهـم المتنـوعة، كالألعـاب الألكترونية، فيناديهم أَهلهم، فلا يعيرون لنداء الأهل إنتباهًا، وكأنهم لا يسمعون ؟
أَلمْ يحدث لنا إزاء شخص يحدّثنا عن أمورٍ هامة بالنسبة له، فلا نعير أَهمية لما يقول، لا بل ندعه يكمل شرح فكرته أو معاناته، لأننا لا نتابع أقواله وأَفكاره، بل نتابع الأفكار التي تشغل بالنا، بعيدًا عن حديثه ؛ وقد نسمع منه كلمة ما تثير لدينا ذكريات شخصية، فنقاطعه، ونبدأ بسرد حادثة شخصية قائلين : ” إن ما تقوله يشبه إلى حد كبير ما حدث لي يومًا… ” ؛ فنستأثر بالكلام، ولا ندعه يكمل حديثه ؟
كيف يمكننا أن نحسّن إنصاتنا إلى الآخرين ؟
يسوع مثالنا في الإنصات
تراءَى الربُ لسليمان في الحلم وقال له : ” أُطلب ما تريد أن أُعطيك “، فقال سليمان : ” … إن عبدك في وسط شعبك الذي آخترته، بأنه شعب عظيم لا يُحصى ولا يُعَد لكثرته ؛ فهب عبدَك قلبًا ينصت، ليحكم شعبك بين الخير والشر، لأنه مَن يقدر أن يحكم شعبك هذا الكثير ؟ فقال له : بما أنكَ سألتَ هذا الأمر… فهاأنذا قد فعلتُ بحسب كلامك… ” (1 ملوك 4:3-12).
يمنحنا سليمان العظيم مفتاح الإنصات ؛ لم يطلب من الله الغنى ولا المجد، ولكن قلبًا حكيمًا ينصت ليقود شعبه في دروب العدالة.
أَعطى يسوع أَهمية كبيرة للإنصات حينما ضرب مثل الزارع ؛ والزرع هو كلمة الله ؛ فالبعض يسمعون كلمة الله ولا يطبقونها، والبعض يسمعونها إلى حين، والبعض الآخـر يسمعـون كلمـة الله ويحفظونها (لوقـا 4:8-15). وختـم مثله محذرًا : ” تنبهوا كيف تسمعون ” (لوقا 18:8).
إن يسوع المسيح هو مثالنا في الإنصات إلى الناس الذين كانوا يلتقونه ؛ فحينما كان يرى شخصًا ما يريد أن يطلب منه نعمةً ما، كانَ يسأله : ” ماذا تريد أن أصنع لك ؟ ” (مرقس 51:10)، فكان يدعه يعبّر عن رغبته وينصت إلى معاناته باهتمام، بالرغم من أَنه كان يعرف مسبقًا طلبه وما يجول في فكره، فلم يكن يسوع يقاطعه، بل كان يضع نفسه في موقف إستعداد تام لتلبية طلبه.
شفى يسوع مرضى عديدين أصيبوا بالصم، يذكر لوقا الإنجيلي الشفاء الآتي : ” جاءوا إلى يسوع يومًا بأصم معقود اللسان وسألوه أن يضع يده عليه، فأنفرد به عن الجمع، وجعل إصبعه في أذنيه، ثم تفل ولمس لسانه، ورفع عينيه إلى السماء، وتنهد وقال له : ” إفّتح ” أي ” إنفتح “، فإنفتح مسمعاه وآنحلّت عقدة لسانه، فتكلّم بلسان طليق… ” (مرقس 31:7-35).
إن الصمم من الأمراض الخطيرة، لأنه يجعل المصاب به سجينًا ومقطوعًا عن الآخرين ؛ أما الإنصات فيعني الإنفتاح على الآخرين.
لم يكتفِ يسوع بشفاء الأصم من صُمِّه، ولكنه فتح عقدة لسانه ؛ وبهذه المعجزة أعطانا تعليمًا بليغًا، فلكي يتمكن المرء أن يتكلم بأسلوب جيد، يحتاج أن يسمع وينصت جيدًا.
حينما تنفتح آذان قلوبنا وعقولنا يصبح بإمكاننا الإنفتاح للآخرين ونتمكن أن نقول كلامًا صحيحًا.
لنقرأ الإنجيل المقدس، ونراجع حياتنا ونفحص ضميرنا في ضوء تعاليم يسوع، ونتساءَل ما هو الأمر الذي نرفض الإنصات إليه ؛ من أي نوع من الإنغلاق نحن بحاجة إلى التخلص منه.
يفتح يسوع – الكلمة – قلوبنا ويحررنا من سجننا إفتح يا رب آذاننا لننصت إليك وننصت إلى أخوتنا البشر، وإفتح لساننا لنتحدث إليك ونتحدث إلى أخوتنا البشر.
” تكلّم يا رب إن عبدك ينصت “
نقرأ في سفر صموئيل الأول ما يأتي : فجاء الربُّ ووقف، ودعا صموئيل كالمرات الأولى قائلاً : ” صموئيل صموئيل “، فقال صموئيل ” تكلّم يا رب، فإن عبدك ينصت ” (1 صموئيل 10:3(.
تعلمنا هذه الآيات كيف يجب أن تكون صلاتنا، إنها حديث مع الله، والحديث يجب أن يكون كلامًا متبادلاً بين الإثنين، نتكلم على الله وننصت إلى كلامه.
لا يجوز أن تقتصر صلاتنا على مخاطبة الله، فنشغل الوقت كله بالتعبير عن مشاعر شكراننا على إنعاماته وباستعراض حاجاتنا وهمومنا وبالإستغفار عن آثامنا… لأننا بهذا نشغل وقت الصلاة كله بتوجيه طلباتنا له، وكأننا نطلع الله على أمور لا يعرفها، فلا ندعه يحدثنا في أَعماق نفوسنا، وكأننا لسنا نحن الذين بحاجة أن ننصت إليه لنسمع إلهاماته. بينما هو يؤكد : ” إن أباكم يعلم ما تحتاجونه قبل أن تسألوه ” (متى 8:6).
فالحديث في الصلاة يجب أن يحتوي على الإنصات إلى الله، لأن له ما يريد أن يلهمنا إياه، فالأمر الأهم هو ما يريد الروح القدس أن يلهمنا إياه.
لذا علينا خلال الصلاة أن نختلي ونسكت ونضع حدًا لتخيلاتنا، لنصبح أناسًا ينصتون إلى صوت الله يحدثنا في أعماق ضميرنا، فنتلقى كلمة الله كحبة الزارع التي تقع في الأرض الجيدة وتثمر ثمار القداسة.
نتوصل إلى تحقيق هذا الأمر حينما ندرب أَنفسنا على الإنصات إلى ما يقوله لنا أخوتنا البشر يوميًا في العائلة وفي المجتمع، سوف نتعلم كيف ننصت إلى الله، وندع الروح القدس يكلمنا في أَعماق ضميرنا، فننصت إلى ما يلهمنا إياه قائلين له على مثال صموئيل : ” تكلم يا رب فإن ولدك ينصت “.
الإنصات إلى الآخرين يتطلب محبة القريب
خلق الله لنا فَمًا لنخاطب البشر وزودنا بأذنين إثنتين لكي ننصت إلى ما يقوله إخوتنا البشر، فنقدم لهم الخدمات التي يطلبونها منا، معبرين عن محبتنا الأخوية لهم.
الإنصات يتطلب محبـة القـريب وتكميـل وصيـة الله : ” أَحبب قريبك حبك لنفسك ” (متى 39:22(
إن قلبًا ينصت هو قلب مفتوح للآخرين ليتقبلهم ويلتقيهم في الأمـور التي يبحثـون عنها.
الإنصات يتطلب منا أن نوقف نشاطنا، ونضع جانبًا الهموم التي تشغل بالنا ونتفرغ للإستماع إلى محدثنا يعرض لنا حاجته.
إن مجرد الإنصات إلى الآخرين وهم يعرضون لنا همومهم ويفرغون ما في قلوبهم من مشاعر الحزن والقلق، نكون قد أدينا لهم مساعدة وخففنا من معاناتهم.
قلب ينصت يعني إنسانًا سخيًا يعطي للآخرين من وقته، الإنصات طريقة عملية لممارسة محبة الله ومحبة القريب.
الإنصات يتطلب وجود إنفتاح إلى آراء الآخرين، فإذا تمسكنا برؤيتنا إلى الأمور وقناعتنا، نكون قد وضعنا حاجزًا أمامنا يمنعنا من التواصل معهم.
الإنصات يتطلب مشاعر نبيلة كالرفق والعطف والحنان والرقة.
إن قلبًا ينصت هو قلب متواضع، يسمح لنا الدخول في حوار، لنصغي بانتباه ونسمع أمورًا قد لا تروق لنا.
إن العائلة هي المكان المناسب للتدريب على الإنصات، وذلك من شأنه حل الكثير من المشاكل وخلق أَجواء يخيم عليها السلام والسعادة.