الافتتاحية

مواهب الروح القدس العدد (58)

                                                                      مواهب الروح القدس

تقديم
يصـدر العدد الحالي من مجلة ” نجم المشرق “ في زمن الرسـل من السنة الطقسيّة المشرقية الكلدانية – الآثورية ؛ تحتفل الكنيسة المشرقية في الأحد الأول من زمن الرسـل بعيد حلول الروح القدس على التلاميذ، احيـاءً لذكـرى حلول الروح القدس على الكنيسـة الناشئة يوم عيد العنصرة، كمـا ذكر لوقا في كتاب أعمال الرسل :
ولما أتى اليوم الخمسون، كانوا مجتمعـين كلهـم فـي مكـان واحـد، فانطلق مـن السـماء بغتةً دويٌّ كريحٍ عاصـفة، فمـلأ جـوانب البيت الذي كانـوا فيه، وظهرت لهـم أَلسـنة كأنّهـا من نـار قد انقسـمت فوقف على كل منهم لسـان، فـامتلأوا جميعًا مـن الـروح القـدس، وأخـذوا يتكلمـون بلغـات غــير لغتـهم، علــى مــا وهبَ لهـم الروح القـدس ان يتكلمـوا “ (أعمال 1/2-4).
غمـر الروح القدس التلاميذ بمواهبـه السـنيّة، بهذا أهّلهم لينطلقوا يبشرون بالإنجيل المقدس بكل شجاعة وبصيرة، فانقلبوا من تلاميذ يسوع المصلوب إلى رسل يسوع المسيح الحي القائم من بين الأموات، ولا زال الروح القدس يمنح مواهبهِ للمؤمنين من خلال سـري العمـاذ والتثبيت عبر الأجيال كلها.
هذا ما يؤكده طقسنا الكلداني في الترتيلة الآتية :
” إن الروح القدس ينجز كل شيء بسلطانه من خلال مواهبه، يجري النبوّة ويكمّل الكهنة ويمنح الحكمة للبسطاء، إذ سبق وكشف للصيادين عن سر أقانيم الثالوث الأقدس… “ (كتاب حوّدّرا، الجزء 3، ص نى 55).
إن هدف مواهـب الروح القـدس هو تحقيق الخير العـام، كما يقـول القديس بولس :
” لكل واحـد يوهبُ الروح لأجـل الخيـر العـام. فلأَحدهم يوهبُ بالـروح كلامُ حكمـة، وللآخر يوهبُ وفقًا لروح نفسـه كلام معرفـة، ولسـواه الإيمان في الروح نفسـهِ وللآخر هبـة الشـفاء بهذا الروح الواحد، ولسواه القدرة على الأتيـان بالمعجزات، وللآخـر النبوّة ولسـواه التمييز ما بين الأرواح، وللآخر التكلم باللغات، ولسـواه ترجمتهـا، وهـذا كله يعمله الـروح الواحـد نفسـه موزعًا على كل واحد ما يوافقـه كما يشاء “ (1 قورنتس 7/12-11).
يعدد القديس بولس الثمار التي يجنيها المؤمنون من مواهب الروح القدس في حياتهم اليومية في الفقرة الآتية :
” إن ثمـار الروح هي المحبة والفرح والسـلام والصـبر واللطف وكرم الأخـلاق والإيمـان والوداعة والعفاف، وهذه الأشياء ما مِن شريعة تتعرض لها “ (غلاطية 22/5).
ما هي مواهب الروح القدس ؟
لا بد أن نتساءَل الآن : ما هي هذه المواهب التي منحها الروح القدس للرسل وللتلاميذ يوم عيد العنصرة والتي لا يزال يمنحها للمعمذين عبر الأجيال كلها.
سبق النبي أشعيا وتنبأ عن هذه المواهب قائلاً :
ويحلُّ عليه (على المسـيح) روحُ الرب، روح الحكمـة والفهم، روح المشـورة والقوَّة، روحُ العلم ومخافة الرب… “ (أشعيا 2/11-3).
ذكرت هذه الآيـة الكريمـة ستًا من مواهب الروح القدس، وأضـاف التقليد المسيحي عليها ” موهبة التقوى “ ؛ يستعرض كتاب ” التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية “ مواهب الروح القدس السبع في الفقرة الآتية :
” مواهب الروح القدس السبع هي : الحكمة والفهم والمشورة والقوّة والعلم والتقوى ومخافة الله. إنها بكمالها تخص المسـيح ابن داود، وهي تتمّم فضائل مَنْ يتقبلونهـا وتقودها إلى الكمال، وتجعل المؤمنين يخضعون بطواعيّة وسرعة للإِلهامات الإلهية… “ (الرقم 1831).
نذكر فيمـا يأتي نبذة موجزة عن كل واحدة من مواهب الروح القدس السبع، نبدأ عرضنا بموهبة ” مخافة الله… “ وننتهي بموهبة الحكمة، لأن الكتاب المقدس يقول : ” إن مخافـة الرب هي رأس الحكمة “ (أمثال 7/1)، يتدرج الإنسان في مسيرته نحو الله، يبدأ بالخطوة الأولى، وهي التحلّي بمخافة الله، ثم يبلغ الحكمة.
1- موهبـة مخافة الله : إن محبتنا لله هي التي تمنحنا مخافة الله، لا تعني مخافة الله خوف العبد من سيده، بل هي خشية الإنسان المحب ان يجرح مشاعر الحبيب، أو خشيـة الابن البار ان يخيب أمـل ابيه، فلأني أحب الله، أني أخشى عصيان أوامره ووصاياه وإهانته وإزعاجه.
هكذا فإن موهبـة مخافة الله تلهمنـا الاجلال والإحترام لله، لسـمو عظمتـه. وتجعلنا ان نجتنب ارتكاب الخطايا.
2- موهبـة التقوى : تكشـف هذه الموهبـة لنا مقدار محبة الله الأبوية لنا، وتجعلنا نحب الله بصفتنا ابناؤه، كما يقول القديس بولس : ” لم تتلقوا روح عبودية لتعودوا إلى الخوف، بـل روح تبنٍّ به ننادي : أَبّا، ابي يا ابتِ وهذا الروح نفسـه يشـهد مع أرواحنـا بأننا أبناء الله “ (رومية 15/8-16)، ” الدليل على كونكم أَبنـاء، ان الله أرسـل روح ابنه إلى قلوبنا، الروح الذي ينادي ” أَبّا “ ” يا أَبتِ “ (غلاطية 6/4).
فـإذا كان الله أبانا، فنحن جميعًا أخوة، ان هذه المحبة البنويـة تجعلنا نجتمع جميعًا حوله للصلاة، ونتلو الصلاة التي علّمنا أياها يسوع قائلين : ” أَبانا… “.
3- موهبة العلم : ينير الروح القدس أذهاننا من خلال هذه الموهبـة لنعرف الله ونكتشـف محتوى إيماننا المسيحي، وان نرى الأشياء والناس بمنظار الله، فلا نتوقف أمام المظاهر الخارجية، فنميز ما هو جوهري وما هو عرضي في الحياة.
كما ان هذه الموهبـة تسـاعدنا ان نميّز الخير من الشـر، وان نرى طريق الخلاص بوضـوح، لنسلك فيـه، كما يقول القديس بولس ” اسـلكوا سـبيل الروح… فإذا كنا نحيا حياة الروح، فلنسر سيرة الروح… “ (غلاطية 16/5-25).
تجعلنا هذه الموهبة ان نقوم بكافة أعمالنا اليومية إرضاءً لله.
4- موهبة القوة : من خلال موهبة القوة يمنحنا الروح القدس قوة الله لنبقى أَمنين له في كل الحالات والظروف، ولكي نجابه صعوبات الحياة.
لكي نتمكن من تكميل إرادة الله دومًا والبقـاء أمينين لدعوتنـا المسيحية، التي هي القداسة، نحتاج إلى قوة الروح القدس.
إن موهبـة القوة تمنح الشجاعة للشهداء الذين يتقبلون الموت محبةً بالمسـيح، وتمنح القوة لكل المؤمنين ليحملوا صلبان الحيـاة بصبر ورباطة جأش إلى نهاية المطاف. ترسـم موهبة القوة الإبتسامة على وجه مريض مصاب بمرض خطير، وتسند أمانة الزوجين، وتعلمنا الهدوء والسكينة في حالات الغضب.
5- موهبـة المشورة : من خلال هذه الموهبة يلهمنا الروح القدس ما الذي يجب قوله وما الذي يجب السـكوت عنه، ما الذي يجب علينا فعله وكيف يجب علينا القيام بـه، ما الذي يجب علينـا اختياره وما الأمر الذي يجب علينا التخلّي عنه، ليس نظريًا ولكن في الأوضاع الواقعية والعملية في الحياة.
تحفزنا الهامـات الروح القدس باسلوب هـادئ وبدون عنف لنقوم بالأعمـال الصـالحة ؛ وطالما نستسلم لإلهامـات الله ونطيع توجيهـاته الحكيمة سوف نرى الحقائق بوضوح ونشعر بالراحة والطمأنينة.
6- موهبـة الفهم : هناك الكثير من الأولاد والكثير من الرجال ومن النساء محدودي المعرفة حسب مقاييس البشر، إلاّ انهم يتمتعون بذكاء روحي كبير ؛ لأن تواضعهم وشعورهم بحاجاتهم إلى الله يجعلهم مستعدين لتلقي أنوار الروح القدس ويستوعبون الحقائق السماوية التي لا يفهمها الحكماء والعلماء (متى 25/11).
لقد أعلنت الكنيسـة القديسة ترازيا الطفل يسـوع ” معلمة “ الكنيسة الجامعة رغم كونها لم تتلق علومها في كليات لاهوتية شهيرة.
يمكن ان يكون الإنسـان ذا ذكاء لامع وعالمًا مشهورًا ولاهوتيًا كبيرًا، ويتمتع بالوقت نفسـه بالتواضع، ويكون من جملة النـاس الصغـار الذين ينيرهم الروح القدس، الذي يتكلـم عنهـم المسـيح فـي صـلاته قائلاً ” أحمـدك يا أبـتِ، ربَّ السـماوات والأرض، لأنك أَخفيت هذه الأشـياء على الحكمـاء والأذكيـاء وكشفتهـا للصغـار “ (متى 25/11).
7- موهبـة الحكمـة : ان موهبة الحكمة هي قمة الخيرات الإلهية، لانهـا تساعدنا أن نحب الله بدرجة تجعلنا أن نميل لفعل الخير، وذلك محبةً بالله.
ليس هذا الأمر امتيازًا لكبار المتصوفين واللاهوتيين، انها دعوة كل واحد منا، يمنحنـا الروح القدس موهبة الحكمة لنتذوق منذ الآن السعادة في العيش متحدين بالله، الأمر الذي نعيشه في الأبدية السعيدة.
كيف يمكننا تلقي مواهب الروح القدس
يمكننـا تلقـي مواهـب الروح القـدس مـن خـلال الوسائل الآتية :
1- من خلال الصلاة : دون شك ان الله ليس بحاجة إلى صلاتنا ليعلم مـا الذي نحتاجه لكي يمنحنا أياه، اننا نحـن الذيـن نحتـاج إلـى الصـلاة ؛ فصـلاة الطلب تنمي فينـا الرغبة في تلقي مواهب الروح القدس، وتجعلنا متيقظين ومنتبهين لما يريده الله منا.
لنتأمل مـريم العذراء والرسـل خلال الأيـام التي سبقت حلول الروح القدس عليهم، كانوا مختلين في العليّة يسـتعدون لتلقي مواهـب الروح القدس من خلال الصلاة، كما يقول كتاب أعمال الرسل ” كانوا كلهم بقلب واحد مثابرين على الصلاة “ (أعمال 14/1).
2- الطـاعة لإلهامات الروح القدس : تنتج الصلاة الطاعة لإلهامات الروح القدس، كلمـا ازدادت أمانتنا واستعدادنا لإتباع إلهامـات الروح القدس، بقـدر ذلك ينيـر الروح طريقنـا، ويحدث هذا ليس في منعطفات حياتنا الكبيرة، حينما يتوجب الأمر ان نتخذ قرارات مصـيرية، ولكن في كل يوم وفي كل لحظة من نهارنا وفي كافـة أمـور حياتنـا، حتـى الصغيرة منها.
3- مـن خلال ممارسـة فضيلـة المحبـة : نحظـى بالهامـات الروح القدس حينما نقوم بأفعـال المحبـة، لنتذكر نشـيد المحبـة الرائـع الذي وضعه القديس بولس بهذا الشأن وبه نختم إفتتاحية هذا العدد :
” إطمحـوا إلى المواهـب العُظمى، وها إني أَدلكـم على الطريق الفضـلى : لو تكلمتُ بلغات النـاس والملائكـة، ولم تكن لي المحبـة، فما أنا إلاّ نحـاس يطنُّ أو صُنجٌ يَرنُّ … ولـو فرقتُ جميع أموالي لإطعام المساكين … ولم تكن لي المحبة، فما يجديني ذلك نفعًا.
المحبـة تصبر، المحبة تخدم، ولا تحسد ولا تتباهى ولا تنتفخ من الكبرياء، ولا تفعل ما ليس بشـريف ولا تسعى إلى منفعتهـا … المحبة لا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحق، وهـي
تعذِرُ كل شيء … وترجو كل شيء وتتحمل كل شيء … “ 
(1 قورنتس 31/12، 1/13-13).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى