القراءات الكتابية الطقسية

من اجل اسم يسوع (53)

من اجل اسم يسوع
(أعمال 34/5-42)

الاب البير هشام نعوم
الأحد الثالث من القيامة
القراءة الثانية
” فقامَ في المجلِس فريسيٌّ إسمُه جملائيل، وكان من معلِّمي الشريعة، وله حُرمةٌ عِندَ الشَّـعبِ كُلِّه. فأمرَ بإخراجِ هـؤلاءِ الرِّجالِ وقتـًا قليلاً، ثمّ قال لهم : ” يا بني إسرائيل، إيّاكم وما توشِكونَ أن تَفعلوهُ بهؤلاءِ النـّاس. فقد قامَ ثودَسُ قبلَ هذهِ الأيّام، وادّعى أنه رجلٌ عظيم، فشايَعَه نحو أربَعِمِائةِ رَجُلٍ، فقُتِل وتَبدّدَ جميعُ الذين انقادوا لَه، ولم يبقَ لهم أثر. وبعد ذلك قامَ يهوذا الجليليُّ أيّـامَ الإحصـاء، فاسـتدرجَ قومـًا إلى اتّباعِه، فهَلَكَ هـو أيضـًا وتشــتـّت جميعُ الذينَ انقادوا لَه. وأقولُ لكم في صَدَدِ ما يجري الآن : كُفُّوا عن هؤلاءِ الرِّجال، واتْركوهم وَشـأنَهم، فَإن يكُنْ هـذا المقصدُ أو العَملُ من عنـدِ النـاس فإنــَّه سـيَنتَقِض، وإن يكُـنْ مـن عنـدِ الله، لا تسـتطيعوا أن تَقْضـوا عليهـم. ويُخشـى علَيكم أن تَجِدوا أنفُسَكم تُحارِبونَ الله “. فأخَذوا برأيِهِ ودَعَوا الرُّسلَ فضَربوهم بالعِصيّ ونَهوهُم عن الكَلامِ على إسـمِ يسـوع، ثمَّ أَخلَوا سـبيلَهم. أمّا هم فانصَرَفوا من المَجلسِ فَرحينَ بأنّهم وُجِـدوا أهـلاً لأن يُهانوا مـن أجْل الإسْم. وكانوا لا يَنفكّونَ كلّ يومٍ في الهيكل وفي البُيوت يُعلِّمون ويُبَشِّـرونَ بأنَّ يسوعَ هو المسيح.
 (أعمال الرسل 34/5-42)

) 1لإطار التاريخي الذي ورد فيه نــــَص (أعمال الرسل 34/5-42) :
سنتناول هذه السـنة في باب ” القراءات الكتابيّة الطقسيّة “ القراءات المستمدَة من سفر أعمال الرسل الذي وضعَه الإنجيلي لوقا، صاحب الإنجيل الثالث أيضًا، وروى فيه أحداثًا يعرفهـا معرفة جيّدة، تُقدّر قيمتُهـا التاريخية بنـاءً على قيمة الإطار الذي ترد فيه. فما يعطيه لنـا التاريخ العام وعلم الآثار من جهة، وأخبار العهد الجديد من جهةٍ أخرى، ولا سيّما التي يقدّمها لنا الرسول بولس في رسائله،
تجعلنا نستنتج صحّة هذه المعلومات التي يقدّمها لنا هذا السفر الذي يتحدّث عن الأعمال التي قام بها الرسل القدّيسون بعدما صعد ربّنا يسوع المسيح إلى السماء، إذ بشّروا باسـمه في أرجاء المعمورة، وحملوا رسـالته المقدسة إلى كل إنسـانٍ التقوا به في طريق حياتهم، وتحمّلوا صعوباتٍ شتى في سـبيلها. وسيظل التاريخ شاهدًا لهذه الأعمال العظيمة التي سجّلوها لنا في هذا السـفر على لسان الإنجيلي لوقا، ومنها ما يرويه لنا اليوم هذا النَص.
2) التحليل الكتابي – البيبلي :
مـن هـو جملائيل المذكـور في النَص ؟ إنـه معلّم شـاول الطرسـوسي (مار بولس)، كما يشهد تلميذه بذلك في خطبته إلى أهل أورشليم عندما كان يدافع عن نفسه إذ قال : ” أنا رجلٌ يهودي… وتَلَقّيتُ عندَ قدمَي جِملائيل تربيةً مُوافِقَةً كُلّ الموافَقَة لشريعة الآباء… “ (أع 3/22). ونفهم من دفاعه عن الرّسل هنا أنّه كانَ فرّيسيًا ميّالاً إلى التحرّر في تفسيره الشريعةَ، ولذلك حذّرَ الجميع من محاولة إيذائهم بعد أن كان المجلس مزمعًا برئيس كهنته وأعضائه الآخرين أن يقتلوهم، لأنهم عصوا أوامرهم بالتبشير بإسم يسـوع المسـيح، ولكن اللهَ أحقُّ بالطاعةِ من النـاس بالنسـبة إلى الرُّسـل كمـا شهدوا بذلك مع بطرس أمام المجلس مما أثار غضبَ الجميع. (راجع أعمال الرسل 12/5-33).
وأعطى جملائيل لجميع من كانوا في المجلس مَثلَين لحَرَكتين قام بهما شـخصان، إلاّ أن الفشــل كـان حليفهمـا لأنهمـا لم يكونا من الله. أولهما رجلٌ إسمُهُ ” ثودَس “ إدّعى إنه عظيمٌ فتبعـه أربعمائـة رجـلٍ ورافقوه، إلا أنّهم قُتِلـوا وتبـددوا ولم يبقَ منهم أحـد. ويقـول المؤرّخ اليهودي المعروف فلافيوس يوسـيفوس إن ثودس هـذا كان يدّعي النبوّة، ووعد أنصارَه هؤلاء بعبور نهر الأردن على اليابسة، تمامًا كما فعل يشـوع الذي حرّر أرضَ الميعاد.
أمـا الثاني فهو يهوذا الجليلي الذي تبعه أيضًا قومٌ نتيجة عصيانه، فهلِكَ هو وقومه بعد ذلك ولم يبقَ لهم أثر. وقد ورد ذكر هذا العصيان عند يوسيفوس نفسه ويقول إنه نتج عن الإحصاء مباشرةً (سنة 4 قبل الميلاد أو سنة 6 بعد الميلاد). وقـد بزغت حركـة الغيوريين، التي كانت موجودة أيضًا أيام يسـوع، من هذا العصيان، إلا أن هذه الحركة لم تفشل تمامًا.
ويبغي جملائيل من ذكر هذين المَثَلين أمام المجلس إصدار الحكم العادل على رسل المسـيح، لأنه لو كان عملهم بالتبشـير بإسم المسـيح من عند الناس، فإنه سينتهي يومًا ما كما أنتهت الحركتان اللتان تزعمّهما ثودس ويهوذا، أمّا لو كان من الله فلا يمكن لأحد أن ينهيه، وهل يستطيع أحد أن يحارب الله ؟ ففهم أعضاء المجلس رأيَه وأخذوا به، فعاقبوا الرسلَ ومنعوهم من الكلام بإسم يسـوع وأطلقوا سراحهم. وكان الرّسل فرحين بأنهم ” وُجِدوا أهلاً لأن يُهانوا من أجل الإسم “ خصوصًا وأن اليهـود كانوا يطلقون تسـمية ” الإسـم “ على الله وحده، وعندما يطلقونها الآن على يسوع، فهذا يعني الإعتراف بألوهيته وربوبيته.
3) الإطار الليتورجي
أ) علاقة هذا النـــَص مع النصوص الأخرى.
يقدّم لنـا هذا الأحد أيضًا مقدمة رسـالة مار بولس إلى أهل أفسس (1/1-14) التي يوجهها الرسول إلى ” القديسين المؤمنين الذين في المسيح يسـوع “ (آية 1)، ثمّ يتكلّم عن التدبير الإلهي لخلاص البشرية جمعاء. وبكلامه هذا يتفّق مع الرسل القديسين الذين واجهوا الإهانة وشتى أنواع الصعوبات من أجل إسم المسيح يسوع لأنه ” أطلعنـا على سرّ مشيئته أي ذلك التدبير الذي ارتضى أن يُعدَّه في نفسه مُنذ القِدم ليسير بالأزمنة إلى تمامهـا… “ (آية 9 و10). فالثقة بهذا التدبير الرائع الذي يتكلّم عنه مار بولس لمؤمني أفسـس هو نفسه قوّى إيمان الرسل، وجعلهم مسـتعدين للموت، وأن يخرجوا من المجلس بعـد الضرب بالعصي فرحين لأنهم صاروا مؤهّلين لأن يُهانوا من أجل إسم يسوع. وهذا ما كان يدفعهم أيضًا للتعليم والتبشير في الهيكل كل يوم بأن يسوع هو المسيح.
ويسوع نفسه، أساسُ إيماننا، نسمعه اليوم على لسان الإنجيلي يوحنّا (1/14-14) يقول : ” لا تضطرِب قلوبُكم، إنكم تؤمنونَ بالله فآمنـوا بي أيضًا “. هو الطريق والحق والحيـاة، ومن رآه فقـد رأى الآب لأنّه في الآب والآبُ فيه، كما أجاب يسـوع لتوما ولفيلبس. مَن منّا لا يضطرم قلبُهُ عندما يسمعُ كلام يسـوع هذا ؟! فكيف بالرسـل الذين حملوه في قلوبهم وحياتهم، واثقين أنّ من آمنَ به يعمل هو أيضًا الأعمـال التي يعملها، بل يعمل أعظم منهـا، كما صرّح ربّنا نفسه بذلك. فلنسأل بإسم يسـوع اليوم لأنه قال : ” إذا سألتموني شيئًا بإسمي، فإنّي أعمله “ (آية 14).
ب) علاقة هذا النـــَص بالصلاة الطقسية
تشارك صلاتنا الطقسية الرسلَ القديسين في هذا الإيمان بيسوع المسيح، فنقرأ في كتاب الصلاة القانونية للكهنة ” الحوذرا = كتاب الصلاة الفرضية “ في ترتيلة الأسرار (دأْذِزًا) لهذا الأحد الثالث من القيامة هذه الكلمات المعبّرة عن إيمـان الكنيسة، إذ تقول : ” نحنُ نكرزُ بالمسيح، الذي ماتََ من أجل خطايانا كما هو مكتوب، مصلوبًا : صُلِبَ المسـيحُ وماتَ وقُبِرَ، وقـامَ وبُعِث ملكُ المجد العظيم، وصعِـد إلى السـماء وملَكَ فـوق الكل، وهـو مزمعٌ بأن يأتي ليدينَ الأحيـاء والأموات “ (الحوذرا، المجلد الثاني، ص461، ةسا).
إنه إيمانُ الكنيسة عِبر كل القرون، وهو يذكّرنا بخطابات الرسل الذين بشّروا بإسم المسـيح مصلوبًا وقائمًا من بين الأموات، وهو سيدُ الحياة والموت وصاحبُ الدينونة، أي إنه أساس حياتهم كلها. ونحنُ اليوم في صلاتنا الطقسية هذه نشارك الرسل وآباء كنيستنا في الإيمان بإسم يسوع ربّنا.
4) رسالة هذا النــــَص لعالمنا المعاصر (تأوين)
مـا هي الرسـالة التي يقدّمهـا هذا النَص من سفر أعمال الرسل لعالمنــا المعاصر ؟! ليست سوى رسالة الشهادة ليسـوع المسـيح الحي الذي وضعنا فيه إيماننا، وبه رجاؤنا وعليه اتكالنا. ليس يسـوع الذي مثل ثودس أو يهوذا الجليلي اللذين لم يكونا من الله فادّعيا العظمة وجمعا وراءهما قومًا من الناس، إلا أنهما فشـلا في النهاية فشلاً ذريعًا، ولم تسـتمر رسالتهما لأنها لم تكن لخير البشرية والجماعة، ولا بحسب إرادة الله، بل يسـوع الذي تحمّل رسلُهُ القدّيسون صعوباتٍ جمّة من أجل إسـمه، ولكنها لم تُزِدهم سوى إيمانًا وفرحًا وشجاعةً، لأنهم كانوا واثقين بأنّ من وضعوا فيـه إيمـانهم هـو إله الخير الحقيقي الذي لا ينتهي ولا يفشل، وهو مستحقٌ كما هو واجبٌ على من آمن به أن يؤدّي له الشهادة في كل زمانٍ ومكـان. وهذا هو الذي جعلهم ” فرحين “ حتى ” بأنّهم وُجِـدوا أهلاً لأن يُهانوا من أجل الإسم “.
هذه الفرحة، فرحة القلب، هي أعظم شـهادة قدّمها الرسل ونقدّمها نحنُ أيضًا لإسم يسوع.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى