القراءات الكتابية الطقسية
ملك ليس مثل الملوك (90)
ملك ليس مثل الملوك
الأب فادي نظير جورج
الأحد الثاني من الرسل
ودَعاهُ أَحَدُ الفِرِّيسيِّينَ إِلى الطَّعامِ عِندَه، فدَخَلَ بَيتَ الفِرِّيسيّ وجَلَس إِلى المائدَة. وإِذا بِامرأَةٍ خاطِئَةٍ كانت في المَدينة، عَلِمَت أَنَّه على المائِدَةِ في بيتِ الفِرِّيسيّ، فجاءَت ومعَها قاروةُ طِيبٍ، ووَقَفَت مِنْ خَلْفُ عِندَ رِجْلَيه وهيَ تَبْكي، وجَعَلَت تَبُلُّ قَدَمَيه بِالدُّموع، وتَمسَحُهُما بِشَعْرِ رَأسِها، وتُقَبِّلُ قَدَمَيه وتَدهُنُهما بِالطِّيب. فلَمَّا رأَى الفِرِّيسيُّ الَّذي دَعاهُ هذا الأَمر، قالَ في نَفْسِه : ((لو كانَ هذا الرَّجُلُ نَبِيّاً، لَعَلِمَ مَن هِيَ المَرأَةُ الَّتي تَلمِسُه وما حالُها : إِنَّها خاطِئَة)). فأَجابَه يسوع : ((يا سِمعان، عندي ما أَقولُه لَكَ)) فقالَ : ((قُلْ يا مُعلِّم)). قال : ((كانَ لِمُدايِنٍ مَدينان، على أَحدِهما خَمسُمِائةِ دينارٍ وعلى الآخَرِ خَمسون. ولَم يَكُنْ بِإِمكانِهِما أَن يُوفِيا دَينَهُما فأَعفاهُما جَميعًا. فأَيُّهما يَكونُ أَكثَرَ حُبّاً لَه ؟)) فأَجابَه سِمعان : ((أَظُنُّه ذاك الَّذي أَعفاهُ مِنَ الأَكثرَ)). فقالَ له : ((بِالصَّوابِ حَكَمتَ)). ثُمَّ التَفَتَ إِلى المَرأَةِ وقالَ لِسِمعان : ((أَتَرى هذهِ المَرأَة ؟ إِنِّي دَخَلتُ بَيتَكَ فما سكَبتَ على قَدَمَيَّ ماءً. وأَمَّا هِيَ فَبِالدُّموعِ بَلَّت قَدَمَيَّ وبِشَعرِها مَسَحَتهُما. أَنتَ ما قَبَّلتَني قُبلَةً، وأَمَّا هي فلَم تَكُفَّ مُذ دَخَلَت عَن تَقبيلِ قَدَمَيَّ. أَنتَ ما دَهَنتَ رأسي بِزَيتٍ مُعَطَّر، أَمَّا هِيَ فَبِالطِّيبِ دَهَنَتْ قَدَمَيَّ. فإِذا قُلتُ لَكَ إِنَّ خَطاياها الكَثيرَةَ غُفِرَت لَها، فلأَنَّها أَظهَرَت حُبّاً كثيرًا. وأَمَّا الَّذي يُغفَرُ له القَليل، فإِنَّه يُظهِرُ حُبّاً قَليلاً))، ثُمَّ قالَ لَها : ((غُفِرَت لَكِ خَطاياكِ)). فأَخَذَ جُلَسـاؤُه على الطَّعـامِ يَقـولـونَ في أَنفُسِهم : ((مَن هـذا حَتَّى يَغفِرَ الخَطايا ؟)) فقالَ لِلمَرأَة : ((إِيمانُكِ خَلَّصَكِ فاذهَبي بِسَلام)). (لوقا 36:7-50)
تركيب النصّ
يمكن توضيح مسار النصّ بثلاثة مشاهد تنتهي بخاتمة :
المشهد الأوّل (36-39) : يعرض الدعوة إلى العشاء. مثول المرأة غير المتوقّع بسبب تصرّفاتها المُشينة، الذي يبلغ القمّة بحكم الفرّيسي السلبي.
المشهد الثاني (40-43) : يسوع يدعو الفرّيسي إلى أن يُعطي تقييمًا لِمَثَل المدينَين المُسامَحَين.. فيحكم حكمًا ضروريًا تقريبًا ويجد تأكيدًا إيجابيًا من يسوع.
المشهد الثالث (44-47) : يقلب يسوع، في تطبيقه المَثل على حالة المرأة الخاطئة والفرّيسي، الحُكم الذي أطلقه الفرّيسي سابقًا. لأن ذروة هذا المشهد وكلّ سياق النصّ سوف يظهران في الآية 47 التي تستخلص النتائج من تصرّف المرأة.
الخاتمة (48-50) : تُضيف تكملة ثانويّة، لأن النصّ قد بلغ ذروته قبلاً.
سياق النص
من الضروري إبراز العلاقة الموجودة بين المشهد الحالي والنصوص القريبة. ففي (30-29:7)، ركّز لوقا على موقفين مختلفين من عماد يوحنّا المعمدان : موقف الخطأة الذين اعترفوا بعدل الله واعتمدوا، وموقف رؤساء الشعب الذين لم يقبلوا العماد وحاولوا إبطال المخطّط الإلهي. وبالتالي (31:7-35)، اللعنة التي نزلت على أولئك الذين لم يقبلوا عماد يوحنّا ولا عمل يسوع، علاوة على التأكيد أن الحكمة قد برّرها أبناؤها. يشبّه لوقا الموقفين إزاء الوحي بتصرّفات الخاطئة وسمعان الفرّيسي. وقد يكون هذا هو السبب الذي من أجله أدخل الإنجيلي في هذه اللحظة، قصّة المرأة الخاطئة. فقد كان لوقا على علم كيف أن الخطأة فهموا افتقاد الله لهم في عمل يسوع المسيحاني، في حين رفضها الفرّيسيّون ورؤساء الشعب وتشكّكوا منها.
تفسير النصّ
” ودَعاهُ أَحَدُ الفِرِّيسيِّينَ إِلى الطَّعامِ عِندَه “. الحدث الذي نحن بصدده يفتقر إلى التفاصيل. لا نعرف شيئًا عن سوابق الحدث، الأمر الذي يستحيل معه معرفة كيف تمّت الدعوة إلى الطعام، وكيف وصلت المرأة الخاطئة إلى بيت سمعان.
أما شخصيّات الحدث (الفرّيسي والخاطئة) فقد قُدمت بشكل عام جدًا، بحيث يمكن أن نتـوقّع منهما التصرّفات الأكثـر إختلافًا. لا يذكر النصّ سبب الدعـوة. نعلم أنه بسبب العقليّة الفرّيسيّة، قبول نبي دخول البيت كان يعتبر ثوابًا. لذا قد يكون سبب الدعوة هو لاكتساب هذا الثواب. أو قد يكون السبب اهتمام الفرّيسي في التحقّق بنفسه من شخصيّة المسيح. بيد أنّنا نبقى دومًا على مستوى الفرضيّات.
” فدَخَلَ بَيتَ الفِرِّيسيّ وجَلَس إِلى المائدَة “. يقبل يسوع الدعوة، كما كان يقبل أن يجلس على المائدة مع الخطأة.
” وإِذا بِامرأَةٍ “. لقد عكّر دخول شخصيّة جديدة جوّ الجلسة الهادئ. والتعبير (وإِذا بِامرأَةٍ) يسمح لنا أن نتخيّل المشهد الذي فيه يحدّق كل الجلساء بأعينهم إلى المرأة التي أصبحت مركز الإهتمام. لا نعلم ما الذي دفعها إلى ملاقاة يسوع، مُخترقة بذلك المحرّمات المتمثّلة في دخولها إلى بيت الفرّيسي، الأمر الذي يظهر أن تلك المرأة كانت تملك شجاعة كبيرة.
” خاطِئَةٍ كانت في المَدينة “. لا يُذكر إسم المرأة بل سُمعتها : إنها خاطئة، ومن الممكن جدًا أن تكون فاجرة. ولا شك أنها إمرأة معروفة، لذا يشكّل وجودها في وليمة رسميّة أمرًا مُزعجًا : فقد سبّبت إزعاجًا واضحًا.
” ووَقَفَت مِنْ خَلْفُ عِندَ رِجْلَيه “. يتعرّض النصّ بقوّة إلى تصرّف المرأة. إن ما قامت به هو ثمرة العفويّة التي لا يمكن أن تنبع إلا من عرفان جميل فيّاض. تنهمر دموع الندامة بعفويّة وتبلّ رجلي يسوع. ثم تقبّلهما : كان تقبيل الرجلين حركة يقوم بها شخص تجاه مَن خلّص حياتَه. وأخيرًا تفكّ شعرَها لكي تمسح رجلي يسوع : إن فكّ الشعر بالنسبة لامرأة متزوجة كان، في ذلك الوقت، علامة عار وإذلال كبيرين. وهنا تُذكر المسحة التي قد توجّهنا إلى التفكير المادّي (بثمن الطيب) كل شيء إذًا يدلّ عند المرأة على مجانيّة غير محدودة.
كل شيء حدث في سكوت تام من قِبَل المرأة ويسوع. وقد نُعجب من أن يسوع لم يقم بأيّة ردّة فعل تجاه عمل المرأة. والسكوت الذي قَبِل به تلك الحركات من الخاطئة، التي كانت على ما يبدو مثيرة للتساؤل، يحمل على الإعتقاد أنه كان موافقًا. لقد كان صمتُه بمثابة (نعم) للمغفرة. لذا لا نراه يحوّل نظره عنها. وصمتُه هذا حمل الفرّيسي على أن يُطلق حُكمَه عليه أكثر من المرأة.
” لو كانَ هذا الرَّجُلُ نَبِيّاً “. يبقى إنزعاج الفرّيسي داخليًا. فهو الآن يعلم أن يسوع ليس نبيًا. إن التعبير التشكّكي (لو كانَ هذا الرَّجُل نَبِيًا) يُعيدنا إلى مشهد (تجربة يسوع) (لو 3:4-9) وإلى استهزاء رؤساء الشعب به على الصليب (لو 35:23-37). وكلا الحالتين، ما يمنع قبول المسيح هو وجود صورة مُسبقة عن النبي – المسيح. إن الفرّيسي متأكد من أن النبي يعرف قلوب الأشخاص، ويحافظ على وصايا الشريعة التي تمنع مخالطة الخطأة. وعلى هذا الإفتراض حكم على يسوع، وحرم نفسه من رؤية عظمة المصالحة الإلهيّة التي يقدّمها المسيح إلى الخطأة التائبين. ومع حكم الفرّيسي ينتهي الجزء الأوّل.
” يا سِمعان، عندي ما أَقولُه لَكَ… “. يبدأ الجزء الثاني باستلام يسوع الكلام، متوجّهًا إلى مُستضيفه بالإسم وطالبًا منه بلطف السماح له بأن يقول له شيئًا. وكان جواب الفرّيسي، الذي يُستشف منه الإحترام والإستعداد الأكيد للإستماع.. هو القبول. يجيب يسوع عن الفكرة التي كانت تُشغل بال الفرّيسي. وبتلك الطريقة، يُظهر يسوع للفرّيسي أنه يعرف ما يجول في قلوب الناس. لم يكن قصد يسوع في إجابته الدفاع عن هويّته النبويّة، بل فهم وقبول معنى الحدث. والمَثل الذي يستخدمه يسوع يخدم هذا الهدف بفعّاليّة.
” كانَ لِمُدايِنٍ مَدينان… فأَيُّهما يَكونُ أَكثَرَ حُبّاً لَه ؟”. يروي يسوع المثل الذي تتمثّل قمّته في عفو المُداين غير المتوقّع عن الدين الكبير والصغير على السواء. ونرى في هذا العفو صورة عن مغفرة الله الكبيرة للخطأة. وفي كلامه عن المَدينَين المختلفَين يتكيّف يسوع مع عقليّة الفرّيسي الذي يميّز بين الأبرار والخطأة، أو بين الخاطئين الكبار والصغار. ثم قام يسوع، كما هي العادة في المجادلات اليهوديّة، باستنباط الخُلاصة من فم مُحاوريه : السؤال الختامي عن أيّ منهما أكثر حبّاً للمداين ؟
” ثُمَّ التَفَتَ إِلى المَرأَةِ وقالَ لِسِمعان “. يأخذ يسوع هنا موقف الحَكم بين الفرّيسي والمرأة. يلتفت إليها، لكنّه يتحدّث إلى سمعان، ويطبّق المَثل واضعًا أحدهما مقابل الآخر للتقييم.
” أنت لم (تفعل)… وأمّا هي… “. ما يقوله يسوع ليس توبيخًا للفرّيسي، فهو في الواقع لم يكن مُلزمًا بمثل تلك الحركات، واستقباله ليسوع كان متطابقًا مع الواجب الذي كان يقدّم للضيف. ومع ذلك، فإن المقارنة مع حركات المرأة تُظهر (اعتياديًا) مثلَ ذلك الإستقبال بالمقارنة مع الحبّ الكبير الذي عبّرت عنه.
” فإِذا قُلتُ لَكَ إِنَّ خَطاياها الكَثيرَةَ غُفِرَت لَها، فلأَنَّها… “. يبدو جواب يسوع الختامي عن كلام الفرّيسي مُصاغًا بشكل معكوس. ففي المَثل، تبدو المغفرة سابقة للحبّ، بينما في التطبيق، الحبّ هو السابق. والخاتمة التي يريدها يسوع من المَثل تنطبق على المَثل كما تنطبق على القسم الأوّل من الحدث. الهدف هو تأكيد وجود حركة دوريّة بين المحبّة والمغفرة : فالتصرّف الأوّل الذي يعبّر عن المحبّة هو قبول ضمني للمغفرة. ومجرّد الحصول على المغفرة يزيد قوّة المحبّة من جديد. فمن جهة، الصفح الذي هو بحد ذاته نعمة محضة، يُقبل فقط حيث تنفتح حريّة الإنسان على المحبّة. ومن جهة أخرى، فإن الصفح، ولأنه نعمة، يقوّي حريّة الإنسان كي تنفتح أكثر على المحبّة.
” ثُمَّ قالَ لَها… “. وفي النهاية يتوجّه يسوع مباشرةً إلى المرأة. وبزيادة واضحة من يد الإنجيلي، يذكر في الآية 48 مغفرة الخطايا. فقد كانت المغفرة موجودة ضمنيًا في قبول المسيح لما قامت به المرأة الخاطئة. والآن تُضاف الحركة إلى الكلام : (مغفورة لكِ خطاياكِ). إن استعمال صيغة الفعل المبني للمجهول يجعلنا نُدرك أن مبادرة المغفرة تعود إلى الله. ولكن هذه الدعوة تتحقّق الآن في شخص يسوع. وهذا ما فهمه جيّدًا الجلساء على الطعام الذين تساءلوا عن هويّة يسوع، خصوصًا فيما يخص غفران الخطايا.
” مَن هذا حَتَّى يَغفِرَ الخَطايا ؟”. لا يبدو السؤال الذي يوجّهه الجلساء ذا لهجة قاسية كالتي نلاحظها في (لو 5:21). فهو سؤال مفتوح يدعو كل واحد إلى إعطاء جواب شخصي ومسؤول عنه، آخذًا موقفًا تجاه شخص المسيح وتجاه الوحي الذي يتحقّق فيه. يسوع هو الذي يغفر الخطايا أيضًا – الأمر الخاص بالله – ويغفرها لتلك المرأة التي أحبّت لكي تستطيع أن تحبّ أكثر.
” إِيمانُكِ خَلَّصَكِ “. وهي الجملة الختاميّة التي تفسّر كل المسيرة – الحركات والتصرّفات – كطريق إيمان يقود إلى حالة الخلاص.
” فاذهَبي بِسَلام “. إن التحيّة التي يصرف بها يسوع المرأة الخاطئة لها نكهة ليتورجيّة (مرقس 34:5). فالجماعة التي تسمع هذا الكلام تعرف أن ربّها يغفر لها، وأنه يمكنها أن تنصرف بسلام. ولكن في لوقا، المهتمّ دومًا بالفعل (أذهب)، يمكن أن تكتسي بُعدًا جديدًا. فالخلاص، الحاصل في الحاضر من خلال مغفرة الخطايا، ليس أمرًا جامدًا بل متحرّك. فحالما يحصل المؤمن على المغفرة، عليه أن يضع نفسه في الطريق على خُطى معلّمه الذي يسير هو أيضًا نحو الصليب ونحو مجد القيامة.
الخلاصة
موقف المرأة هو نتيجة الحبّ الإلهي الذي تلقته. فلقد غفر لها الله خطاياها العديدة، كما دلّ سلوكها على ذلك بشكل بديهي. فالحبّ هو الجواب البشري عن غفران الله الديون والخطايا. فعلى مثال العشارين والخطأة، اعترفت هذه المرأة بأن الله عادل هو، وإنه قبل توبتها وندامتها.
لأوّل مرة يخاطب يسوع إمرأة ويعلن لها الغفران، وأنها تتمتع به منذ الآن. ذلك لأن الحبّ الذي أظهرته تجاه يسوع يوضّح وضع ثقتها به بشكل تام، وبالله الذي أرسله. والصورة التي كوّنتها عن الله كانت صائبة، في حين كان للفرّيسي تصوّر خاطئ. وهكذا صار إيمان المرأة نقطة إنطلاق لمسيرة إهتداء عند أقدام يسوع، وكان هذا الإيمان سببًا لخلاصها.
الأب فادي نظير جورج
الأحد الثاني من الرسل
ودَعاهُ أَحَدُ الفِرِّيسيِّينَ إِلى الطَّعامِ عِندَه، فدَخَلَ بَيتَ الفِرِّيسيّ وجَلَس إِلى المائدَة. وإِذا بِامرأَةٍ خاطِئَةٍ كانت في المَدينة، عَلِمَت أَنَّه على المائِدَةِ في بيتِ الفِرِّيسيّ، فجاءَت ومعَها قاروةُ طِيبٍ، ووَقَفَت مِنْ خَلْفُ عِندَ رِجْلَيه وهيَ تَبْكي، وجَعَلَت تَبُلُّ قَدَمَيه بِالدُّموع، وتَمسَحُهُما بِشَعْرِ رَأسِها، وتُقَبِّلُ قَدَمَيه وتَدهُنُهما بِالطِّيب. فلَمَّا رأَى الفِرِّيسيُّ الَّذي دَعاهُ هذا الأَمر، قالَ في نَفْسِه : ((لو كانَ هذا الرَّجُلُ نَبِيّاً، لَعَلِمَ مَن هِيَ المَرأَةُ الَّتي تَلمِسُه وما حالُها : إِنَّها خاطِئَة)). فأَجابَه يسوع : ((يا سِمعان، عندي ما أَقولُه لَكَ)) فقالَ : ((قُلْ يا مُعلِّم)). قال : ((كانَ لِمُدايِنٍ مَدينان، على أَحدِهما خَمسُمِائةِ دينارٍ وعلى الآخَرِ خَمسون. ولَم يَكُنْ بِإِمكانِهِما أَن يُوفِيا دَينَهُما فأَعفاهُما جَميعًا. فأَيُّهما يَكونُ أَكثَرَ حُبّاً لَه ؟)) فأَجابَه سِمعان : ((أَظُنُّه ذاك الَّذي أَعفاهُ مِنَ الأَكثرَ)). فقالَ له : ((بِالصَّوابِ حَكَمتَ)). ثُمَّ التَفَتَ إِلى المَرأَةِ وقالَ لِسِمعان : ((أَتَرى هذهِ المَرأَة ؟ إِنِّي دَخَلتُ بَيتَكَ فما سكَبتَ على قَدَمَيَّ ماءً. وأَمَّا هِيَ فَبِالدُّموعِ بَلَّت قَدَمَيَّ وبِشَعرِها مَسَحَتهُما. أَنتَ ما قَبَّلتَني قُبلَةً، وأَمَّا هي فلَم تَكُفَّ مُذ دَخَلَت عَن تَقبيلِ قَدَمَيَّ. أَنتَ ما دَهَنتَ رأسي بِزَيتٍ مُعَطَّر، أَمَّا هِيَ فَبِالطِّيبِ دَهَنَتْ قَدَمَيَّ. فإِذا قُلتُ لَكَ إِنَّ خَطاياها الكَثيرَةَ غُفِرَت لَها، فلأَنَّها أَظهَرَت حُبّاً كثيرًا. وأَمَّا الَّذي يُغفَرُ له القَليل، فإِنَّه يُظهِرُ حُبّاً قَليلاً))، ثُمَّ قالَ لَها : ((غُفِرَت لَكِ خَطاياكِ)). فأَخَذَ جُلَسـاؤُه على الطَّعـامِ يَقـولـونَ في أَنفُسِهم : ((مَن هـذا حَتَّى يَغفِرَ الخَطايا ؟)) فقالَ لِلمَرأَة : ((إِيمانُكِ خَلَّصَكِ فاذهَبي بِسَلام)). (لوقا 36:7-50)
تركيب النصّ
يمكن توضيح مسار النصّ بثلاثة مشاهد تنتهي بخاتمة :
المشهد الأوّل (36-39) : يعرض الدعوة إلى العشاء. مثول المرأة غير المتوقّع بسبب تصرّفاتها المُشينة، الذي يبلغ القمّة بحكم الفرّيسي السلبي.
المشهد الثاني (40-43) : يسوع يدعو الفرّيسي إلى أن يُعطي تقييمًا لِمَثَل المدينَين المُسامَحَين.. فيحكم حكمًا ضروريًا تقريبًا ويجد تأكيدًا إيجابيًا من يسوع.
المشهد الثالث (44-47) : يقلب يسوع، في تطبيقه المَثل على حالة المرأة الخاطئة والفرّيسي، الحُكم الذي أطلقه الفرّيسي سابقًا. لأن ذروة هذا المشهد وكلّ سياق النصّ سوف يظهران في الآية 47 التي تستخلص النتائج من تصرّف المرأة.
الخاتمة (48-50) : تُضيف تكملة ثانويّة، لأن النصّ قد بلغ ذروته قبلاً.
سياق النص
من الضروري إبراز العلاقة الموجودة بين المشهد الحالي والنصوص القريبة. ففي (30-29:7)، ركّز لوقا على موقفين مختلفين من عماد يوحنّا المعمدان : موقف الخطأة الذين اعترفوا بعدل الله واعتمدوا، وموقف رؤساء الشعب الذين لم يقبلوا العماد وحاولوا إبطال المخطّط الإلهي. وبالتالي (31:7-35)، اللعنة التي نزلت على أولئك الذين لم يقبلوا عماد يوحنّا ولا عمل يسوع، علاوة على التأكيد أن الحكمة قد برّرها أبناؤها. يشبّه لوقا الموقفين إزاء الوحي بتصرّفات الخاطئة وسمعان الفرّيسي. وقد يكون هذا هو السبب الذي من أجله أدخل الإنجيلي في هذه اللحظة، قصّة المرأة الخاطئة. فقد كان لوقا على علم كيف أن الخطأة فهموا افتقاد الله لهم في عمل يسوع المسيحاني، في حين رفضها الفرّيسيّون ورؤساء الشعب وتشكّكوا منها.
تفسير النصّ
” ودَعاهُ أَحَدُ الفِرِّيسيِّينَ إِلى الطَّعامِ عِندَه “. الحدث الذي نحن بصدده يفتقر إلى التفاصيل. لا نعرف شيئًا عن سوابق الحدث، الأمر الذي يستحيل معه معرفة كيف تمّت الدعوة إلى الطعام، وكيف وصلت المرأة الخاطئة إلى بيت سمعان.
أما شخصيّات الحدث (الفرّيسي والخاطئة) فقد قُدمت بشكل عام جدًا، بحيث يمكن أن نتـوقّع منهما التصرّفات الأكثـر إختلافًا. لا يذكر النصّ سبب الدعـوة. نعلم أنه بسبب العقليّة الفرّيسيّة، قبول نبي دخول البيت كان يعتبر ثوابًا. لذا قد يكون سبب الدعوة هو لاكتساب هذا الثواب. أو قد يكون السبب اهتمام الفرّيسي في التحقّق بنفسه من شخصيّة المسيح. بيد أنّنا نبقى دومًا على مستوى الفرضيّات.
” فدَخَلَ بَيتَ الفِرِّيسيّ وجَلَس إِلى المائدَة “. يقبل يسوع الدعوة، كما كان يقبل أن يجلس على المائدة مع الخطأة.
” وإِذا بِامرأَةٍ “. لقد عكّر دخول شخصيّة جديدة جوّ الجلسة الهادئ. والتعبير (وإِذا بِامرأَةٍ) يسمح لنا أن نتخيّل المشهد الذي فيه يحدّق كل الجلساء بأعينهم إلى المرأة التي أصبحت مركز الإهتمام. لا نعلم ما الذي دفعها إلى ملاقاة يسوع، مُخترقة بذلك المحرّمات المتمثّلة في دخولها إلى بيت الفرّيسي، الأمر الذي يظهر أن تلك المرأة كانت تملك شجاعة كبيرة.
” خاطِئَةٍ كانت في المَدينة “. لا يُذكر إسم المرأة بل سُمعتها : إنها خاطئة، ومن الممكن جدًا أن تكون فاجرة. ولا شك أنها إمرأة معروفة، لذا يشكّل وجودها في وليمة رسميّة أمرًا مُزعجًا : فقد سبّبت إزعاجًا واضحًا.
” ووَقَفَت مِنْ خَلْفُ عِندَ رِجْلَيه “. يتعرّض النصّ بقوّة إلى تصرّف المرأة. إن ما قامت به هو ثمرة العفويّة التي لا يمكن أن تنبع إلا من عرفان جميل فيّاض. تنهمر دموع الندامة بعفويّة وتبلّ رجلي يسوع. ثم تقبّلهما : كان تقبيل الرجلين حركة يقوم بها شخص تجاه مَن خلّص حياتَه. وأخيرًا تفكّ شعرَها لكي تمسح رجلي يسوع : إن فكّ الشعر بالنسبة لامرأة متزوجة كان، في ذلك الوقت، علامة عار وإذلال كبيرين. وهنا تُذكر المسحة التي قد توجّهنا إلى التفكير المادّي (بثمن الطيب) كل شيء إذًا يدلّ عند المرأة على مجانيّة غير محدودة.
كل شيء حدث في سكوت تام من قِبَل المرأة ويسوع. وقد نُعجب من أن يسوع لم يقم بأيّة ردّة فعل تجاه عمل المرأة. والسكوت الذي قَبِل به تلك الحركات من الخاطئة، التي كانت على ما يبدو مثيرة للتساؤل، يحمل على الإعتقاد أنه كان موافقًا. لقد كان صمتُه بمثابة (نعم) للمغفرة. لذا لا نراه يحوّل نظره عنها. وصمتُه هذا حمل الفرّيسي على أن يُطلق حُكمَه عليه أكثر من المرأة.
” لو كانَ هذا الرَّجُلُ نَبِيّاً “. يبقى إنزعاج الفرّيسي داخليًا. فهو الآن يعلم أن يسوع ليس نبيًا. إن التعبير التشكّكي (لو كانَ هذا الرَّجُل نَبِيًا) يُعيدنا إلى مشهد (تجربة يسوع) (لو 3:4-9) وإلى استهزاء رؤساء الشعب به على الصليب (لو 35:23-37). وكلا الحالتين، ما يمنع قبول المسيح هو وجود صورة مُسبقة عن النبي – المسيح. إن الفرّيسي متأكد من أن النبي يعرف قلوب الأشخاص، ويحافظ على وصايا الشريعة التي تمنع مخالطة الخطأة. وعلى هذا الإفتراض حكم على يسوع، وحرم نفسه من رؤية عظمة المصالحة الإلهيّة التي يقدّمها المسيح إلى الخطأة التائبين. ومع حكم الفرّيسي ينتهي الجزء الأوّل.
” يا سِمعان، عندي ما أَقولُه لَكَ… “. يبدأ الجزء الثاني باستلام يسوع الكلام، متوجّهًا إلى مُستضيفه بالإسم وطالبًا منه بلطف السماح له بأن يقول له شيئًا. وكان جواب الفرّيسي، الذي يُستشف منه الإحترام والإستعداد الأكيد للإستماع.. هو القبول. يجيب يسوع عن الفكرة التي كانت تُشغل بال الفرّيسي. وبتلك الطريقة، يُظهر يسوع للفرّيسي أنه يعرف ما يجول في قلوب الناس. لم يكن قصد يسوع في إجابته الدفاع عن هويّته النبويّة، بل فهم وقبول معنى الحدث. والمَثل الذي يستخدمه يسوع يخدم هذا الهدف بفعّاليّة.
” كانَ لِمُدايِنٍ مَدينان… فأَيُّهما يَكونُ أَكثَرَ حُبّاً لَه ؟”. يروي يسوع المثل الذي تتمثّل قمّته في عفو المُداين غير المتوقّع عن الدين الكبير والصغير على السواء. ونرى في هذا العفو صورة عن مغفرة الله الكبيرة للخطأة. وفي كلامه عن المَدينَين المختلفَين يتكيّف يسوع مع عقليّة الفرّيسي الذي يميّز بين الأبرار والخطأة، أو بين الخاطئين الكبار والصغار. ثم قام يسوع، كما هي العادة في المجادلات اليهوديّة، باستنباط الخُلاصة من فم مُحاوريه : السؤال الختامي عن أيّ منهما أكثر حبّاً للمداين ؟
” ثُمَّ التَفَتَ إِلى المَرأَةِ وقالَ لِسِمعان “. يأخذ يسوع هنا موقف الحَكم بين الفرّيسي والمرأة. يلتفت إليها، لكنّه يتحدّث إلى سمعان، ويطبّق المَثل واضعًا أحدهما مقابل الآخر للتقييم.
” أنت لم (تفعل)… وأمّا هي… “. ما يقوله يسوع ليس توبيخًا للفرّيسي، فهو في الواقع لم يكن مُلزمًا بمثل تلك الحركات، واستقباله ليسوع كان متطابقًا مع الواجب الذي كان يقدّم للضيف. ومع ذلك، فإن المقارنة مع حركات المرأة تُظهر (اعتياديًا) مثلَ ذلك الإستقبال بالمقارنة مع الحبّ الكبير الذي عبّرت عنه.
” فإِذا قُلتُ لَكَ إِنَّ خَطاياها الكَثيرَةَ غُفِرَت لَها، فلأَنَّها… “. يبدو جواب يسوع الختامي عن كلام الفرّيسي مُصاغًا بشكل معكوس. ففي المَثل، تبدو المغفرة سابقة للحبّ، بينما في التطبيق، الحبّ هو السابق. والخاتمة التي يريدها يسوع من المَثل تنطبق على المَثل كما تنطبق على القسم الأوّل من الحدث. الهدف هو تأكيد وجود حركة دوريّة بين المحبّة والمغفرة : فالتصرّف الأوّل الذي يعبّر عن المحبّة هو قبول ضمني للمغفرة. ومجرّد الحصول على المغفرة يزيد قوّة المحبّة من جديد. فمن جهة، الصفح الذي هو بحد ذاته نعمة محضة، يُقبل فقط حيث تنفتح حريّة الإنسان على المحبّة. ومن جهة أخرى، فإن الصفح، ولأنه نعمة، يقوّي حريّة الإنسان كي تنفتح أكثر على المحبّة.
” ثُمَّ قالَ لَها… “. وفي النهاية يتوجّه يسوع مباشرةً إلى المرأة. وبزيادة واضحة من يد الإنجيلي، يذكر في الآية 48 مغفرة الخطايا. فقد كانت المغفرة موجودة ضمنيًا في قبول المسيح لما قامت به المرأة الخاطئة. والآن تُضاف الحركة إلى الكلام : (مغفورة لكِ خطاياكِ). إن استعمال صيغة الفعل المبني للمجهول يجعلنا نُدرك أن مبادرة المغفرة تعود إلى الله. ولكن هذه الدعوة تتحقّق الآن في شخص يسوع. وهذا ما فهمه جيّدًا الجلساء على الطعام الذين تساءلوا عن هويّة يسوع، خصوصًا فيما يخص غفران الخطايا.
” مَن هذا حَتَّى يَغفِرَ الخَطايا ؟”. لا يبدو السؤال الذي يوجّهه الجلساء ذا لهجة قاسية كالتي نلاحظها في (لو 5:21). فهو سؤال مفتوح يدعو كل واحد إلى إعطاء جواب شخصي ومسؤول عنه، آخذًا موقفًا تجاه شخص المسيح وتجاه الوحي الذي يتحقّق فيه. يسوع هو الذي يغفر الخطايا أيضًا – الأمر الخاص بالله – ويغفرها لتلك المرأة التي أحبّت لكي تستطيع أن تحبّ أكثر.
” إِيمانُكِ خَلَّصَكِ “. وهي الجملة الختاميّة التي تفسّر كل المسيرة – الحركات والتصرّفات – كطريق إيمان يقود إلى حالة الخلاص.
” فاذهَبي بِسَلام “. إن التحيّة التي يصرف بها يسوع المرأة الخاطئة لها نكهة ليتورجيّة (مرقس 34:5). فالجماعة التي تسمع هذا الكلام تعرف أن ربّها يغفر لها، وأنه يمكنها أن تنصرف بسلام. ولكن في لوقا، المهتمّ دومًا بالفعل (أذهب)، يمكن أن تكتسي بُعدًا جديدًا. فالخلاص، الحاصل في الحاضر من خلال مغفرة الخطايا، ليس أمرًا جامدًا بل متحرّك. فحالما يحصل المؤمن على المغفرة، عليه أن يضع نفسه في الطريق على خُطى معلّمه الذي يسير هو أيضًا نحو الصليب ونحو مجد القيامة.
الخلاصة
موقف المرأة هو نتيجة الحبّ الإلهي الذي تلقته. فلقد غفر لها الله خطاياها العديدة، كما دلّ سلوكها على ذلك بشكل بديهي. فالحبّ هو الجواب البشري عن غفران الله الديون والخطايا. فعلى مثال العشارين والخطأة، اعترفت هذه المرأة بأن الله عادل هو، وإنه قبل توبتها وندامتها.
لأوّل مرة يخاطب يسوع إمرأة ويعلن لها الغفران، وأنها تتمتع به منذ الآن. ذلك لأن الحبّ الذي أظهرته تجاه يسوع يوضّح وضع ثقتها به بشكل تام، وبالله الذي أرسله. والصورة التي كوّنتها عن الله كانت صائبة، في حين كان للفرّيسي تصوّر خاطئ. وهكذا صار إيمان المرأة نقطة إنطلاق لمسيرة إهتداء عند أقدام يسوع، وكان هذا الإيمان سببًا لخلاصها.