القراءات الكتابية الطقسية
ملك ليس مثل الملوك (89)
ملك ليس مثل الملوك
الأب ميسر بهنام المخلصي
الأحد السابع من الصوم
((…. ولمَّا قَرُبوا مِن أُورشَليم، ووصَلوا إِلى بَيتَ فاجي عندَ جَبَلِ الزَّيتون، حِينَئذٍ أَرسلَ يسوعُ تِلميذَينِ وقالَ لهما : ((اِذهَبا إِلى القَريةِ الَّتي تُجاهَكُما، تَجِدا أَتانًا مَرْبوطةً وجَحْشًا مَعها، فحُلاَّ رِباطَها وَأتِياني بِهما. فإِن قالَ لَكما قائلٌ شَيئًا، فأَجيبا : ((الرَّبُّ مُحتاجٌ إِليهِما))، فيُرسِلُهما لِوَقتِه)). وإِنَّما حدَثَ هذا لِيَتِمَّ ما قيلَ على لِسانِ النَّبِيّ : ((قولوا لِبنتِ صِهيُون : هُوَذا مَلِكُكِ آتيًا إِلَيكِ وَديعًا راكِبًا على أَتان وجَحْشٍ إبنِ دابَّة)). فذَهبَ التِّلميذانِ وفعلا كَما أَمرَهما يسوع وأَتيا بِالأَتانِ والجَحْش. ثُمَّ وضَعا عَليهِما رداءَيهِما، فركِبَ يسوع. وكانَ مِنَ النَّاسِ جَمعٌ كَثير، فبَسَطوا أَردِيَتَهم على الطَّريق، وقَطَعَ غَيرُهم أَغصانَ الشَّجَر، ففَرشوا بِها الطَّريق. وكانتِ الجُموعُ الَّتي تَتقدَّمُه والَّتي تَتبَعُه تَهِتف : ((هُوشَعْنا لإبنِ داود ! تَباركَ الآتي باسمِ الرَّبّ ! هُوشَعْنا في العُلى !)) ولَمَّا دَخلَ أُورَشليم ضَجَّتِ المَدينةُ كُلُّها وسأَلت : ((مَن هذا ؟)) فَأَجابَتِ الجُموع : ((هذا النَّبِيُّ يسوع مِن ناصِرةِ الجَليل)). ثُمَّ دخَلَ يسوعُ الهَيكَل وطرَدَ جَميعَ الَّذينَ يَبيعونَ ويَشتَرونَ في الهَيكَل، فَقلَبَ طاوِلاتِ الصَّيارِفَة ومَقاعِدَ باعَةِ الحَمَام، وقالَ لَهم : ((مَكتوبٌ : ((بَيتي بيتَ صَلاةٍ يُدعى وأَنتُم تَجعَلونَه مَغارةَ لُصوص)). ودَنا إِليهِ عُميانٌ وعُرْجٌ في الهَيكَلِ فشَفاهم. فلَمَّا رأَى عُظَماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَةُ ما أَتى بِه مِنَ الأُمـورِ العَجيبة، ورَأَوا الأَطفالَ يَهتِفونَ في الهَيكَل : ((هُوشَعْنا لإبنِ داود !))، اِسْتــاءوا فقالوا لَه : ((أَتَسمَعُ ما يقولُ هؤُلاء ؟)) فقالَ لَهم يسوع : ((نَعَم، أَما قَرأتُم قَطّ :)) على أَلْسِنَةِ الصِّغارِ والرُّضَّعِ أَعددتَ لِنَفسِكَ تَسبيحًا ؟)) ثُمَّ تَركَهم وخَرجَ مِنَ المدينةِ إِلى بيتَ عَنْيا فَباتَ فيها…..)). (متى 29:20-22:21)
عيد السعانين، الإحتفال بدخول يسوع إلى أورشليم
ها إن زمن الفصح قد اقترب ويسوع في الطريق مع كثير من أهل بيته والحجاج صاعدين للإحتفال بهذا العيد. هذا ما تشدد عليه التوراة (خر 14:12، عدد 12:9-14) فالعيد فريضة إلهية أبدية، لكل من ينتمي لشعب الله والنازل الغريب بينهم. يبدو للوهلة الأولى أن العيد هو السبب الرئيسي لهذا الحج، وأن يسوع كعضو في جماعة الله عليه إتمام هذه الفريضة. ولكن من تبع يسوع عن قرب إستطاع أن ينزل معه إلى العمق ويفهم العلة الحقيقية لحج يسوع تجاه أورشليم. فهو يصعد إلى هناك لينتشل بموته على الصليب كل الذين قد غرقوا في بحر الشريعة وفي الأفكار المغلقة، يزيل كل ما يعيق لقاء الإنسان بالله. ليست القضية من بعد إنتماءً إلى جماعة محددة وتكوين شعب ذي خصوصية معينة. إصطدم يسوع أكثر من مرة مع رؤساء هذه الجماعة وقادتهم وفضح زيفهم. إنه يصعد ليعلن صراحة خبرًا طالما أشار إليه سابقًا بطريقة إستعارية وفي أماكن كثيرة أشار إليها الإنجيليون الأربعة بطريقة رمزية. ذلك الخبر هو ملوكية يسوع، تلك الصفة ذات السمات الكتابية محققًا فيها كل النبوءات التي تحلق بالإنسان صوب الله فيتحقق الخلاص المنشود.
يخبرنا يوحنا الإنجيلي عن ثلاث سفرات ليسوع إلى أورشليم، بينما يكتفي متى وباقي الإزائيين بسفرة واحدة في نهاية إنجيلهم فيها يكشف يسوع هويته الحقيقية ومضمون رسالته.
لفهم مضمون هذا الحج حسب إنجيل متى يمكننا تقسيم هذا النص إلى أربع محطات :
المحطة الأولى : في طريق أريحا، إلى أورشليم 29:20-34
المحطة الثانية : دخول يسوع إلى أورشليم 1:21-11
المحطة الثالثة : دخول يسوع إلى الهيكل 12:21-17
المحطة الرابعة : العودة من بيت عنيا إلى أورشليم 18:21-22
المحطة الأولى : تشكل هذه المحطة الوجه الآخر لطلب إبني زبدى (20:20-28) هما أيضًا أعميان لا يعرفان ما يطلبان. فهما يطلبان المجد حالاً، غير عارفين أن المجد طريق، يبدأ بالألم، ليصل إلى الكأس التي يشير إليها المسيح، هناك فقط يتحقق اللقاء الذي فيه يعيش التلميذ مجد الله. يبدأ يسوع بفتح عيون الأعميين، في إنجيل مرقس أعمى واحد (برتيماوس) (مر 47:10) يشدد متى على أعميين (هذا ما تتطلبه الشريعة اليهودية بخصوص الشهادة) يصرخان طلبًا في الشفاء. يحاول الجمهور عبثًا إسكاتهما لكن لا جدوى فقد وصل صوت المستنجدين إلى آذان المعلم، وهو يحقق لهما رغبتهما، عندها يتركان كل شيء ويتبعان يسوع. هكذا يضيف الإنجيل إلى قائمة الحجاج الكبيرة المكونة من الإثني عشر وجمع كبير قادمين من أريحا وغيرها من القرى والمدن، عرج وعميان، وبذلك يريد الملك المشيحي داود الجديد أن يمنح فرصة للذين منعهم داود الأول من دخول أورشليم (2 صم 6:5-8) لقد منع داود العمي والعرج من الدخول إلى المدينة المقدسة، وها هو إبن داود الملك الحقيقي يفتح الطريق لهؤلاء، وبذلك يشير إلى أن الملكوت هو مرافقة يسوع نحو المجد. بذلك يفتتح يسوع عهدًا جديـدًا لا يستطيع فيـه أحد أن يمنـع صـوت كائن من كان أن يبلغ قلب يسوع. ” أتيت إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون ” (يو 39:9).
هذه المقدمة تحيلنا إلى الهدف الرئيسي من رحلة يسوع إلى أورشليم.
المحطة الثانية : حيث ينطلق الجزء الثاني من القسم الأخير من إنجيل متى. بعدما كان الجزء الأول منه (16:16-34:20) الذي فيه أعلن يسوع لحلقة ضيقة من التلاميذ ملكه المشيحي المتحقق من خلال الصليب. إلا أنه يوسع هنا دائرة المستمعين من جهة وبطريقة مختلفة هذه المرة بعدما كان ملتزمًا الصمت والهدوء الذي يخبرنا عنه أشعيا (أش 2:42) ” لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته ” مخفيًا أنه المشيح مصرًا في تعليمه لتلاميذه أن لا يقولوا لأحد عنه أي شيء، وفي معجزاته كان يوصي أن لا يخبر صاحبها لأحد ما حصل عليه. كل هذا ينتهي في هذه المحطة فالمشيح يعلن عن نفسه أنه الملك الآتي وأن مسيرته المهيبة نحو أورشليم هي حسب وعود العهد القديم التي سوف تتحقق فيه. فهو إبن داود الذي يحقق نبوءة أشعيا (أش 10:62) ” إعبروا إعبروا بالأبواب، هيئوا طريق الشعب، مهدوا مهدوا السبيل، نقّوه من الحجارة، إرفعوا الراية للشعوب ” وكما أشار زكريا (9:9) ” إبتهجي جدًا يا بنت صهيون، واهتفي يا بنت أورشليم، هوذا ملكك آتيًا إليك بارًا مخلصًا وضيعًا، راكبًا على حمار وعلى جحش إبن أتان “. إنه الملك المشيحي المتواضع. فيه يُعاد الملك لداود.
إن التحضير الذي قام به يسوع مع تلاميذه (1-3) من إرسال التلاميذ إلي القرية للإتيان بالأتان والجحش، إنما هي تعابير مليئة بالمعاني في زمن يسوع وقد استشهد متـى بالنبي زكريا لبيان عمقها، يسوع يطالب بحقه في الملك باستعماله وسيلة النقل التي تحدث عنها النبي، وهذا معروف لمعاصري يسوع من اليهود. الأتان الذي لم يمتطه أحد يقود إلى التفكير في الحق الملكي، إنطلاقًا من سفر التكوين عند البركة اليعقوبية ليهوذا حيث يشير إلى أن عصا القيادة لن تبرح مكانها، (تك 11:49) فالحمار المربوط يحيل إلى من سيأتي وتطيعه الشعوب.
والنص الذي يورده متى والمقتبس من زكريا يكشف عن الملك الذي يكسر أقواس الحرب كما يشير أشعيا النبي، إنه ملك السلام، ملك الفقراء. ومملكته تمتد من البحر إلى البحر لتشمل العالم بأسره، لا يقوم يسوع على غرار الغيورين باستعمال العنف أو أي ثورة مسلحة ضد روما. إن سلطانه الوحيد يؤتي الخلاص.
هذا المشهد يذكرنا بتسنم الملك سليمان عرش داود أبيه، حيث يأمر داود الكاهن صادوق والنبي ناثان أن يأخذا الخدم ويُركِبا سليمان على بغلة أبيه وينزلاه إلى جيحون ليمسحه صادوق الكاهن وناثان النبي ملكًا على إسرائيل (1 مل 33:1-34). من جهة أخرى فرش الأردية تقليد في إسرائيل وما قام به التلميذان هو عملية تولية الملك. وجاءت ردة فعل الحجاج القادمين إلى أورشليم على فعل التلميذين، وهكذا قطعوا أغصان الشجر وفرشوا الطريق بها (8:21)، وهم يهتفون بكلمات من المزمور (118)، وهي صلاة ليتورجية خاصة بالحجاج إلى أورشليم. ” هوشعنا لإبن داود ! تبارك الآتي بإسم الرب ! هوشعنا في العلى ! ” (9:21).
في الأصل كانت كلمة أوشعنا تحمل معنى التوسل مثل (آه، ساعدني، خلصني) وقد كان الكهنة يرددون هذه الكلمة في اليوم السابع من عيد المظال، وهم يطوفون المذبح سبع مرات. ولكن شيئًا فشيئًا تحول عيد المظال إلى عيد فرح وهكذا أضحى هذا الهتاف يحمل معنى التهلل والإبتهاج. كما اكتسبت هذه الكلمة في الزمن المشيحاني بعدًا مدائحيًا، حيث حان وقت المشيح ليحقق ملك داود.
أما العبارة الثانية ” تبارك الآتي بإسم الرب ” فقد كانت تحية للحجاج القادمين إلى أورشليم، خاصة لدى دخولهم إلى الهيكل. ولكن مع الوقت اكتسبت معنى مشيحانيًا، وأصبحت تعني إسم مَن وعَدنا به الله. أي مديحًا ليسوع الذي يحيا بإسم الرب، فهو المنتظـر الذي تحـدثت عنـه جميـع النبـوءات. يتميـز متى في تـأكيده أن المشيح إبن داود هو يسوع فهو يشير إلى أن المدينة قد ارتجت وسألت ” من هذا ؟ ” فقالت الجموع : ” هذا يسوع النبي من ناصرة الجليل ” (10:21-11). نحن هنا أمام توازٍ مع قصة الطفولة حيث مـع المجـوس (3:2) يضطرب الملك هيرودس. من البداية سبب يسوع إرتجاج المدينة. يسوع هو الفاعل لكنه يظهر في المحيطين به وخاصة الأطفال وهذا ما تقدمه لنا المحطة الثالثة.
المحطة الثالثة : الأطفال أنفسهم يرددون كلمات المديح ” هوشعنا لإبن داود ” (15:21). هتاف الأطفال هذا إشارة إلى المزمور (3:8) القائل ” بأفواه الأطفال والرضع أسست لك تسبيحًا ” إنه جواب لطلب يسوع حينما قال ” دعوا الأطفال يأتون إلي ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله “، الأولاد هم المثل الذي يجب أن نقتدي به كي نتمكن من الدخول عبر ثقب الإبرة، كي نكون جزء من هذا الملكوت المسيحاني. كذلك يجعل يسوع الأطفال جوابًا عن تخاصم التلاميذ حول مركز الصدارة. الموضوع ليس متعلقًا بالأطفال وإنما بالصغار (المؤمنين) جماعة يسوع، ويسوع نفسه يتماهى في الصغر، فهو دائمًا واقف أمام أبيه مثل طفل صغير.
في هذه المحطة يدخل يسوع رواق الأمم، لا يريد مهاجمة الهيكل عندما يقوم بتطهيره من باعة الحمام والصيارفة. وإنما محاربة ما هو فاسد فيه. أي الخلط بين التجارة والهيكل، يهاجم النظام المتبع الذي اعتمدته الطبقة الأرستقراطية. من جهة أخرى بيان سلطة يسوع الملوكية على الهيكل. بل يصبح هو الهيكل الجديد ليس لإسرائيل فحسب بل لكل الأمم، وبذلك يقوم يسوع بإلغاء ساحة الأمم المخصصة للبيع والشراء، ويصبح هو المكان الذي يلتقي فيه الإنسان بالله، وهكذا يزيل كل فرق بين اليهودي والأممي في هذا السلطان. تفهم الكنيسة الأولى أن الهيكل الحقيقي وموضع الصلاة لجميع الأمم هو جسد يسوع القائم من بين الأموات.
المحطة الرابعة : ترتبط المحطة الرابعة إرتباطًا وثيقًا بالثالثة وبالإتجاه نفسه حيث تجنى الثمار من غنى تقديم المسيح ذاته كملك ذي سلطان. بالعودة إلى المحطة الأولى المفعمة بالثمر حيث يتبع الأعميان يسوع في طريقه عندما تنفتح أعينهما. بالمقابل هنالك مبصرون عميان ليس لهم ثمر عند لقائهم يسوع. لا يوجد وقت من بعد للتأخر إن الفاس على أصل الشجر، والشجر التي لا تثمر تقطع وتلقى في النار. نظرة أواخرية للملكوت المنتظر، الأطفال والعميان والعرج استطاعوا أن يقدموا حمدًا وشكرًا. أما المبصرون فهم عقيمون. الإيمان هو الفيصل الوحيد الذي تظهر ملامحه في تباعة المُلك المشيحي المتحقق أمام الله في شعبه.
الأب ميسر بهنام المخلصي
الأحد السابع من الصوم
((…. ولمَّا قَرُبوا مِن أُورشَليم، ووصَلوا إِلى بَيتَ فاجي عندَ جَبَلِ الزَّيتون، حِينَئذٍ أَرسلَ يسوعُ تِلميذَينِ وقالَ لهما : ((اِذهَبا إِلى القَريةِ الَّتي تُجاهَكُما، تَجِدا أَتانًا مَرْبوطةً وجَحْشًا مَعها، فحُلاَّ رِباطَها وَأتِياني بِهما. فإِن قالَ لَكما قائلٌ شَيئًا، فأَجيبا : ((الرَّبُّ مُحتاجٌ إِليهِما))، فيُرسِلُهما لِوَقتِه)). وإِنَّما حدَثَ هذا لِيَتِمَّ ما قيلَ على لِسانِ النَّبِيّ : ((قولوا لِبنتِ صِهيُون : هُوَذا مَلِكُكِ آتيًا إِلَيكِ وَديعًا راكِبًا على أَتان وجَحْشٍ إبنِ دابَّة)). فذَهبَ التِّلميذانِ وفعلا كَما أَمرَهما يسوع وأَتيا بِالأَتانِ والجَحْش. ثُمَّ وضَعا عَليهِما رداءَيهِما، فركِبَ يسوع. وكانَ مِنَ النَّاسِ جَمعٌ كَثير، فبَسَطوا أَردِيَتَهم على الطَّريق، وقَطَعَ غَيرُهم أَغصانَ الشَّجَر، ففَرشوا بِها الطَّريق. وكانتِ الجُموعُ الَّتي تَتقدَّمُه والَّتي تَتبَعُه تَهِتف : ((هُوشَعْنا لإبنِ داود ! تَباركَ الآتي باسمِ الرَّبّ ! هُوشَعْنا في العُلى !)) ولَمَّا دَخلَ أُورَشليم ضَجَّتِ المَدينةُ كُلُّها وسأَلت : ((مَن هذا ؟)) فَأَجابَتِ الجُموع : ((هذا النَّبِيُّ يسوع مِن ناصِرةِ الجَليل)). ثُمَّ دخَلَ يسوعُ الهَيكَل وطرَدَ جَميعَ الَّذينَ يَبيعونَ ويَشتَرونَ في الهَيكَل، فَقلَبَ طاوِلاتِ الصَّيارِفَة ومَقاعِدَ باعَةِ الحَمَام، وقالَ لَهم : ((مَكتوبٌ : ((بَيتي بيتَ صَلاةٍ يُدعى وأَنتُم تَجعَلونَه مَغارةَ لُصوص)). ودَنا إِليهِ عُميانٌ وعُرْجٌ في الهَيكَلِ فشَفاهم. فلَمَّا رأَى عُظَماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَةُ ما أَتى بِه مِنَ الأُمـورِ العَجيبة، ورَأَوا الأَطفالَ يَهتِفونَ في الهَيكَل : ((هُوشَعْنا لإبنِ داود !))، اِسْتــاءوا فقالوا لَه : ((أَتَسمَعُ ما يقولُ هؤُلاء ؟)) فقالَ لَهم يسوع : ((نَعَم، أَما قَرأتُم قَطّ :)) على أَلْسِنَةِ الصِّغارِ والرُّضَّعِ أَعددتَ لِنَفسِكَ تَسبيحًا ؟)) ثُمَّ تَركَهم وخَرجَ مِنَ المدينةِ إِلى بيتَ عَنْيا فَباتَ فيها…..)). (متى 29:20-22:21)
عيد السعانين، الإحتفال بدخول يسوع إلى أورشليم
ها إن زمن الفصح قد اقترب ويسوع في الطريق مع كثير من أهل بيته والحجاج صاعدين للإحتفال بهذا العيد. هذا ما تشدد عليه التوراة (خر 14:12، عدد 12:9-14) فالعيد فريضة إلهية أبدية، لكل من ينتمي لشعب الله والنازل الغريب بينهم. يبدو للوهلة الأولى أن العيد هو السبب الرئيسي لهذا الحج، وأن يسوع كعضو في جماعة الله عليه إتمام هذه الفريضة. ولكن من تبع يسوع عن قرب إستطاع أن ينزل معه إلى العمق ويفهم العلة الحقيقية لحج يسوع تجاه أورشليم. فهو يصعد إلى هناك لينتشل بموته على الصليب كل الذين قد غرقوا في بحر الشريعة وفي الأفكار المغلقة، يزيل كل ما يعيق لقاء الإنسان بالله. ليست القضية من بعد إنتماءً إلى جماعة محددة وتكوين شعب ذي خصوصية معينة. إصطدم يسوع أكثر من مرة مع رؤساء هذه الجماعة وقادتهم وفضح زيفهم. إنه يصعد ليعلن صراحة خبرًا طالما أشار إليه سابقًا بطريقة إستعارية وفي أماكن كثيرة أشار إليها الإنجيليون الأربعة بطريقة رمزية. ذلك الخبر هو ملوكية يسوع، تلك الصفة ذات السمات الكتابية محققًا فيها كل النبوءات التي تحلق بالإنسان صوب الله فيتحقق الخلاص المنشود.
يخبرنا يوحنا الإنجيلي عن ثلاث سفرات ليسوع إلى أورشليم، بينما يكتفي متى وباقي الإزائيين بسفرة واحدة في نهاية إنجيلهم فيها يكشف يسوع هويته الحقيقية ومضمون رسالته.
لفهم مضمون هذا الحج حسب إنجيل متى يمكننا تقسيم هذا النص إلى أربع محطات :
المحطة الأولى : في طريق أريحا، إلى أورشليم 29:20-34
المحطة الثانية : دخول يسوع إلى أورشليم 1:21-11
المحطة الثالثة : دخول يسوع إلى الهيكل 12:21-17
المحطة الرابعة : العودة من بيت عنيا إلى أورشليم 18:21-22
المحطة الأولى : تشكل هذه المحطة الوجه الآخر لطلب إبني زبدى (20:20-28) هما أيضًا أعميان لا يعرفان ما يطلبان. فهما يطلبان المجد حالاً، غير عارفين أن المجد طريق، يبدأ بالألم، ليصل إلى الكأس التي يشير إليها المسيح، هناك فقط يتحقق اللقاء الذي فيه يعيش التلميذ مجد الله. يبدأ يسوع بفتح عيون الأعميين، في إنجيل مرقس أعمى واحد (برتيماوس) (مر 47:10) يشدد متى على أعميين (هذا ما تتطلبه الشريعة اليهودية بخصوص الشهادة) يصرخان طلبًا في الشفاء. يحاول الجمهور عبثًا إسكاتهما لكن لا جدوى فقد وصل صوت المستنجدين إلى آذان المعلم، وهو يحقق لهما رغبتهما، عندها يتركان كل شيء ويتبعان يسوع. هكذا يضيف الإنجيل إلى قائمة الحجاج الكبيرة المكونة من الإثني عشر وجمع كبير قادمين من أريحا وغيرها من القرى والمدن، عرج وعميان، وبذلك يريد الملك المشيحي داود الجديد أن يمنح فرصة للذين منعهم داود الأول من دخول أورشليم (2 صم 6:5-8) لقد منع داود العمي والعرج من الدخول إلى المدينة المقدسة، وها هو إبن داود الملك الحقيقي يفتح الطريق لهؤلاء، وبذلك يشير إلى أن الملكوت هو مرافقة يسوع نحو المجد. بذلك يفتتح يسوع عهدًا جديـدًا لا يستطيع فيـه أحد أن يمنـع صـوت كائن من كان أن يبلغ قلب يسوع. ” أتيت إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون ” (يو 39:9).
هذه المقدمة تحيلنا إلى الهدف الرئيسي من رحلة يسوع إلى أورشليم.
المحطة الثانية : حيث ينطلق الجزء الثاني من القسم الأخير من إنجيل متى. بعدما كان الجزء الأول منه (16:16-34:20) الذي فيه أعلن يسوع لحلقة ضيقة من التلاميذ ملكه المشيحي المتحقق من خلال الصليب. إلا أنه يوسع هنا دائرة المستمعين من جهة وبطريقة مختلفة هذه المرة بعدما كان ملتزمًا الصمت والهدوء الذي يخبرنا عنه أشعيا (أش 2:42) ” لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته ” مخفيًا أنه المشيح مصرًا في تعليمه لتلاميذه أن لا يقولوا لأحد عنه أي شيء، وفي معجزاته كان يوصي أن لا يخبر صاحبها لأحد ما حصل عليه. كل هذا ينتهي في هذه المحطة فالمشيح يعلن عن نفسه أنه الملك الآتي وأن مسيرته المهيبة نحو أورشليم هي حسب وعود العهد القديم التي سوف تتحقق فيه. فهو إبن داود الذي يحقق نبوءة أشعيا (أش 10:62) ” إعبروا إعبروا بالأبواب، هيئوا طريق الشعب، مهدوا مهدوا السبيل، نقّوه من الحجارة، إرفعوا الراية للشعوب ” وكما أشار زكريا (9:9) ” إبتهجي جدًا يا بنت صهيون، واهتفي يا بنت أورشليم، هوذا ملكك آتيًا إليك بارًا مخلصًا وضيعًا، راكبًا على حمار وعلى جحش إبن أتان “. إنه الملك المشيحي المتواضع. فيه يُعاد الملك لداود.
إن التحضير الذي قام به يسوع مع تلاميذه (1-3) من إرسال التلاميذ إلي القرية للإتيان بالأتان والجحش، إنما هي تعابير مليئة بالمعاني في زمن يسوع وقد استشهد متـى بالنبي زكريا لبيان عمقها، يسوع يطالب بحقه في الملك باستعماله وسيلة النقل التي تحدث عنها النبي، وهذا معروف لمعاصري يسوع من اليهود. الأتان الذي لم يمتطه أحد يقود إلى التفكير في الحق الملكي، إنطلاقًا من سفر التكوين عند البركة اليعقوبية ليهوذا حيث يشير إلى أن عصا القيادة لن تبرح مكانها، (تك 11:49) فالحمار المربوط يحيل إلى من سيأتي وتطيعه الشعوب.
والنص الذي يورده متى والمقتبس من زكريا يكشف عن الملك الذي يكسر أقواس الحرب كما يشير أشعيا النبي، إنه ملك السلام، ملك الفقراء. ومملكته تمتد من البحر إلى البحر لتشمل العالم بأسره، لا يقوم يسوع على غرار الغيورين باستعمال العنف أو أي ثورة مسلحة ضد روما. إن سلطانه الوحيد يؤتي الخلاص.
هذا المشهد يذكرنا بتسنم الملك سليمان عرش داود أبيه، حيث يأمر داود الكاهن صادوق والنبي ناثان أن يأخذا الخدم ويُركِبا سليمان على بغلة أبيه وينزلاه إلى جيحون ليمسحه صادوق الكاهن وناثان النبي ملكًا على إسرائيل (1 مل 33:1-34). من جهة أخرى فرش الأردية تقليد في إسرائيل وما قام به التلميذان هو عملية تولية الملك. وجاءت ردة فعل الحجاج القادمين إلى أورشليم على فعل التلميذين، وهكذا قطعوا أغصان الشجر وفرشوا الطريق بها (8:21)، وهم يهتفون بكلمات من المزمور (118)، وهي صلاة ليتورجية خاصة بالحجاج إلى أورشليم. ” هوشعنا لإبن داود ! تبارك الآتي بإسم الرب ! هوشعنا في العلى ! ” (9:21).
في الأصل كانت كلمة أوشعنا تحمل معنى التوسل مثل (آه، ساعدني، خلصني) وقد كان الكهنة يرددون هذه الكلمة في اليوم السابع من عيد المظال، وهم يطوفون المذبح سبع مرات. ولكن شيئًا فشيئًا تحول عيد المظال إلى عيد فرح وهكذا أضحى هذا الهتاف يحمل معنى التهلل والإبتهاج. كما اكتسبت هذه الكلمة في الزمن المشيحاني بعدًا مدائحيًا، حيث حان وقت المشيح ليحقق ملك داود.
أما العبارة الثانية ” تبارك الآتي بإسم الرب ” فقد كانت تحية للحجاج القادمين إلى أورشليم، خاصة لدى دخولهم إلى الهيكل. ولكن مع الوقت اكتسبت معنى مشيحانيًا، وأصبحت تعني إسم مَن وعَدنا به الله. أي مديحًا ليسوع الذي يحيا بإسم الرب، فهو المنتظـر الذي تحـدثت عنـه جميـع النبـوءات. يتميـز متى في تـأكيده أن المشيح إبن داود هو يسوع فهو يشير إلى أن المدينة قد ارتجت وسألت ” من هذا ؟ ” فقالت الجموع : ” هذا يسوع النبي من ناصرة الجليل ” (10:21-11). نحن هنا أمام توازٍ مع قصة الطفولة حيث مـع المجـوس (3:2) يضطرب الملك هيرودس. من البداية سبب يسوع إرتجاج المدينة. يسوع هو الفاعل لكنه يظهر في المحيطين به وخاصة الأطفال وهذا ما تقدمه لنا المحطة الثالثة.
المحطة الثالثة : الأطفال أنفسهم يرددون كلمات المديح ” هوشعنا لإبن داود ” (15:21). هتاف الأطفال هذا إشارة إلى المزمور (3:8) القائل ” بأفواه الأطفال والرضع أسست لك تسبيحًا ” إنه جواب لطلب يسوع حينما قال ” دعوا الأطفال يأتون إلي ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله “، الأولاد هم المثل الذي يجب أن نقتدي به كي نتمكن من الدخول عبر ثقب الإبرة، كي نكون جزء من هذا الملكوت المسيحاني. كذلك يجعل يسوع الأطفال جوابًا عن تخاصم التلاميذ حول مركز الصدارة. الموضوع ليس متعلقًا بالأطفال وإنما بالصغار (المؤمنين) جماعة يسوع، ويسوع نفسه يتماهى في الصغر، فهو دائمًا واقف أمام أبيه مثل طفل صغير.
في هذه المحطة يدخل يسوع رواق الأمم، لا يريد مهاجمة الهيكل عندما يقوم بتطهيره من باعة الحمام والصيارفة. وإنما محاربة ما هو فاسد فيه. أي الخلط بين التجارة والهيكل، يهاجم النظام المتبع الذي اعتمدته الطبقة الأرستقراطية. من جهة أخرى بيان سلطة يسوع الملوكية على الهيكل. بل يصبح هو الهيكل الجديد ليس لإسرائيل فحسب بل لكل الأمم، وبذلك يقوم يسوع بإلغاء ساحة الأمم المخصصة للبيع والشراء، ويصبح هو المكان الذي يلتقي فيه الإنسان بالله، وهكذا يزيل كل فرق بين اليهودي والأممي في هذا السلطان. تفهم الكنيسة الأولى أن الهيكل الحقيقي وموضع الصلاة لجميع الأمم هو جسد يسوع القائم من بين الأموات.
المحطة الرابعة : ترتبط المحطة الرابعة إرتباطًا وثيقًا بالثالثة وبالإتجاه نفسه حيث تجنى الثمار من غنى تقديم المسيح ذاته كملك ذي سلطان. بالعودة إلى المحطة الأولى المفعمة بالثمر حيث يتبع الأعميان يسوع في طريقه عندما تنفتح أعينهما. بالمقابل هنالك مبصرون عميان ليس لهم ثمر عند لقائهم يسوع. لا يوجد وقت من بعد للتأخر إن الفاس على أصل الشجر، والشجر التي لا تثمر تقطع وتلقى في النار. نظرة أواخرية للملكوت المنتظر، الأطفال والعميان والعرج استطاعوا أن يقدموا حمدًا وشكرًا. أما المبصرون فهم عقيمون. الإيمان هو الفيصل الوحيد الذي تظهر ملامحه في تباعة المُلك المشيحي المتحقق أمام الله في شعبه.