الافتتاحية

مريم أم الرحمة العدد (87)

مريم أم الرحمة
   لا تتكلم الأسفار المقدسة ولا الكنيسة بأسلوب تجريدي عن الرحمة الإلهية ؛ إن لاهوت الكتاب المقدس ولاهوت آباء الكنيسة هو لاهوت إستعارة.
   إنها تقدم لنا صورة واقعية عن مريم العذراء كمرآة للرحمة الإلهية ونموذجٍ للرحمة الإنسانية والمسيحية. إن مريم هي النموذج والصورة الأصلية للكنيسة وللرحمة المسيحية. إن هذه القناعة متجذّرة بعمق في إيمان الكنيسة وضميرها منذ القرون الأولى وإلى يومنا هذا.
   هل بإمكاننا أن نهمل بسهولة الإستشهادات العديدة التي صدرت عن المسيحيين عبر القرون كلها، الذين وجدوا العون والسند اللذين كانا بحاجة إليهما إبان الشدائد بسهولة، وهذه ليست مجرد مشاعر تقوية.
يجب أن نؤكد أمرًا هامًا، أن مريم تظهر في الإنجيل المقدس، لا بل أن لها مكانة متميزة.
   نجد في العهد الجديد نصين يمثلان أساسًا راسخًا للروحانية المريمية : البشارة في البدايـة (لـوقا 26:1-38)، وفـي النهاية مشهـد مريـم واقفة إزاء الصليب (يوحنا 26:19… إلخ).
ينقلنا المشهد الثاني الوارد لدى يوحنا الإنجيلي إلى عرس قانا في مستهل حياة يسوع العامة (يوحنا 1:2-12).
   من ناحية الأهمية، فإن المشاهد المريمية بليغة، إذ تؤطر مجمل الإنجيل، وتعطي لمريم مكانة بارزة في تدبير الخلاص فتبين الأسطر القليلة الموجودة في الأسفار المقدسة، التي تتحدث عن مريم العذراء، أن لها مكانة بارزة وفريدة في تاريخ علاقات الله معنا نحن البشر.
   يعطي لوقا أَهمية لاهوتية خاصة لتاريخ البدايات، التي تعلن كل المواضيع الهامة الواردة في الإنجيل. في نشيد ” تعظّم نفسي الرب ” تختصر مريم تاريخ الخلاص كله، وتشرحه كتاريخ الرحمة الإلهية.
” ورحمته من جيلٍ إلى جيلٍ للذين يتقونه ” (لوقا 50:1)
   باختيار مريم ودعوتها لكي تصبح أم المخلص، دخل تاريخ الخلاص مرحلة النهاية والحاسمة. إذ قام الله، بدافع رحمته اللامتناهية، بالخطوة الحازمة، من أجل خلاص شعبه، لا بل البشرية كلها.
   إختار الله مريم للإشتراك بعمل الخلاص العظيم هذا : ” فقد نالت حظوة عند الله ” (لوقا 30:1). يعني هذا أنها لا شيء بحد ذاتها، ولكن كل ما نالته كان بنعمة الله. إنها ليست إلاّ ” خادمة الرب ” (لوقا 38:1). يعود كل المجد لله وحده، إذ بالنسبة له كل شيء ممكن (لوقا 37:1.. إلخ) ولا شيء يعود لها، لذلك أَنشدت :
” تعظم نفسي الرب وتبتهج بالله مخلصي… لأن القدير صنع إليَّ أمورًا عظيمة، قدوسٌ إسمه ” (لوقا 46:1-49)
   إنها إستسلام كلي لله، آلة متواضعة للرحمة الإلهية. لأن مريم ليست إلاّ نعمة، فإنها تحيا من الإيمان حسب. إنها آلة الرحمة الإلهية ؛ من خلال عبارة ” نعم “، جوابها الإيماني، أَعطته لإعلان الملاك، الذي فاجأها ولم تستوعبه في بداية الأمر، إذ يفوق إدراكها، تقبلته بطاعة، إذ دعت نفسها ” خادمة ” الرب.
   عبرت مريم بهذا عن قبولها واستعدادها الحسن، ورغبتها الشديدة أن تشترك في عمل الخلاص، هكذا أَعطت المجال لله أن يجترح المعجزة. وبنعمة الله تمكنت أن تقول ” نعم “، أي قبولها لكل ما يفوق إدراك الإنسان.
بطاعتها، سمحت مريم مجيء الله في العالم، وأَصبحت هكذا حواء الجديدة.
   في حين أن حواء الأولى جلبت للبشرية الألم والشقاء من خلال عدم طاعتها، مريم من خلال طاعتها الإيمانية، وبإسم البشرية كلها، قطعت العقدة التي ربطتها حواء ؛ لذلك تسمى مريم أُم كل الأحياء.
من خلال طاعتها، أصبحت مريم خادمة الرحمة الإلهية، إختارها الله وغمرها بالنعمة.
   إن اختيار الله لمريم، وهي الخليقة البشرية، مجرد شابة بسيطة، كأداة لرحمته، جعلها قادرة على الإشتراك بعمله الخلاصي ؛ العمل الذي تحقق بفضله وحده، لأن الله وحده بإمكانه أن يحققه، وهذا تعبير رائع لرحمته العظيمة يفوق كل ما بإمكاننا تخيله أو توقعه بشريًا.
   من خلال إختيارها، غمرها بالنعم، ومن خلال طاعتها سمحت بتجسد الكلمة، أصبحت مريم حاملة المسيح، تابوت العهد الجديد وهيكل الروح القدس واقعًا حقيقيًا.
   إختصرت مريم تاريخ شعب العهد القديم، وحملت بذار شعب العهد الجديد، جرى هذا قبل دعوة الرسل ودخولهم مسرح الأحداث.
   تجسد مريم الناس البسطاء الذين لا يصنعون ضجيجًا، تمثل مريم الكنيسة برحمة الله، قبل إنزال أسس هذه الكنيسة وقبل وجود أي هرمية كنسية. إنها تمثل الكنيسة من طبيعتها الأعمق، هي التي أُختيرت لتخدم مخططات الله، هي التي لا تحيا إلاّ بنعمة الله.
   قامت مريم هي الأخرى بحجها الإيماني. لقد احتملت مريم صعوبات جمة على غرار أبناء وبنات شعبها : كان عليها أن تتحمل ولادة يسوع في مغارة، الهرب إلى مصر، البحث عن ولدها في أورشليم… وأخيرًا شجاعتها وصمودها إزاء الصليب.
   عاشت مريم الليل المظلم بجانب إبنها وقاسمته آلام (الصليب) ولم تتهرب، كما نقرأ في الإنجيل بصراحة : ” وكانت واقفة إزاء الصليب ” (يوحنا 25:19)
   وأَخيـرًا حملت جثمان إبنها الميت على ركبتيها، كمـا بيّنته تماثيل ولوحات عدة عن ” الرحمة Pietà ” ؛ إنها تعبّر عن أقسى آلام يمكن لوالدة أن تتحملها.
   في نشيدها ” تعظم نفسي الرب ” (لوقا 46:1-56) لم تكتفِ مريم بإعلان مسبق لتطويبات خطبة يـسـوع علـى الجبـل (متى 2:5-12) : تطويبة الفقراء، تطويبة الباكين، تطويبة المضطهدين، بل عاشتها كلها هي نفسها.
   في ختام الإنجيل الرابع تنغلق الحلقة. إن مريم التي نجدها في مستهل تدبير الخلاص في كتاب العهد الجديد، تحتل مكانة مرموقة في تاريخ الخلاص.
إن يسوع من على الصليب أعطى مريم ليوحنا أَمًا، وأعطى تلميذه يوحنا لمريم إبنًا (يوحنا 26:19… إلخ).
   يتسم هـذا المشهد بمعنى عميـق. كان يـوحنا التلميذ الذي كان يسـوع يحبـه (يوحنا 26:19) ؛ لذا يعتبر يوحنا في الإنجيل الرابع نموذج سائر التلاميذ. يعني هذا أن يسوع عهد تلاميذه كافة لمريم في شخص يوحنا، وسلم تلاميذه كافة لمريم أمًا. يمكننا أن نفهم كلمة يسوع تعبيرًا عن وصيته وإرادته الأخيرة، إنها تعبر عن أمر هام وحاسم لمستقبل الكنيسة.
هكذا أصبحت مريم جزءًا هامًا من إنجيل الرحمة الإلهية، وستبقى إلى الأبد شاهدة ووسيلة للرحمة الإلهية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى