الافتتاحية

ما علاقة سر التوبة والمصالحة بالعائلة ؟ العدد (39)

                                                                   

التوبة والمصالحة في العائلة

  ما علاقة سر التوبة والمصالحة بالعائلة ؟
كلّفني أحدُ الآبـاء الكهنة، راعي إحدى الخورنـات في بغداد، أن أُلقي حديثًا عنوانه ” سـر التوبة والمصالحـة في العائلة “ فـي تجمّع أُسَـري، ضَمَّ بعض العوائل في رعيّته.

إستغربتُ بادئ الأمر عنوان هذا الحديث، إذ لم أرَ بوضوح العلاقة بين سر التوبة والمصالحة من جهة، وبين العائلة من جهة أخرى. لأن سر المصالحة هو الممارسة التوبوية التي نقوم بها في الكنيسة، حيث نَختلي بأنفسنا لفحص ضميرنا، ثم نقترب من منبر الإعتراف للإقرار بذنوبنا أمـام الكاهن، ونتلقّى القانون والحلّة من خادم الله ؛ أما العائلـة، فهي هذه الخليّة الصغيـرة في المجتمـع البشـري، المتكونة عادة من أب وأم وأولاد، حيث يتقاسمون حلو الحياة ومرّها.
ولكن حينما فكرتُ مليًا في الأمر، تجلّت لي العلاقة الصميمة بين سر التوبة وبين العائلة المسـيحية، وذلك من خلال أبعاده اللاهوتية والحياتيـة. بل ادركتُ أيضًا ان العائلة هي المكان الذي يبدأ فيه الإنسان بممارسـة سر المصالحة، وان العائلة هي المدرسة الأولى التي نتعلم فيها مفهوم التوبة والمصالحة، ونتدرب على تطبيق مراحلها. كيف ذلك ؟
لا وجود لعائلة خالية من الخلافات

لا نسـتغربن من وجود الخلافات والنزاعات في كل العوائـل، لأن هذا الأمر نراه في العائلة المقدسة نفسها، هذه العائلة المتكونة من يسوع المسيح ومن والدته مريم العذراء ومربّيه القديس يوسف، لان عائلة يسوع، إلى جانب سموّ أفرادها، كانت عائلة بشرية شبيهة بعوائلنا تمامًا، متكونة من بشر وليس من ملائكة، وهذا يعني انهم كانوا معرّضين مثلنا إلى اختلاف في وجهات النظر ؛ يكفي ان نتذكر المشكلة التي أثارها يسـوع الصبي، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، أثناء حج العائلة إلى أورشليم (لوقا 41/2-52)، إذ بقي يسوع في الهيكل دون ان يُعلِم والدته مريم العذراء ومربيه القديـس يوسف، وحينما لم يجداه أثنـاء طريق العودة، قلقا أشد القلق، كأيّ أم وكأي أب، وفتّشا عنه باضطراب، إلى ان وجداه بعد ثلاثة أيام من البحث والتفتيش، وحينما وجداه في الهيكل، بادرت والدته بعتابه قائلةً : ” يا بُنيَّ، لِمَ صنعتَ بنا ذلك ؟ فأنا وأبوك كنا نبحث عنك متلهّفَين “، وجاء جواب يسوع بشـكل عتاب أيضًا : ” ولِمَ بحثتُما عني ؟ ألم تعلمـا انه عليَّ ان اكون في بيت ابي ؟ “، فلم يفهما ما قال لهما. إن اختلاف وجهة النظر والعتاب لم ينتج عنهما عراك أو قطيعة، ولم يُعكّرا صفوَ العلاقـات العائلية، إذ يؤكـد الانجيلي لوقا ما يأتي : ” ثم نزل معهما، وعاد إلى الناصرة، وكان طائعًا لهما “.
فإذا حدث هذا الأمر في العائلة المقدسة نفسها، كم بالأحرى ومن الطبيعي ان تحدث الخلافات في عوائلنا نحن الخطأة ؟
ولمـاذا يحدث هذا ؟ لأن أفراد العائلة يحبّون بعضهم بعضًا، ولأن مفـردات الحياة اليومية تعرض هذه المحبة للإحتكاكات ؛ ولأن أفراد العائلة يلتقون بعضهم يوميًا، فمن الصعوبة إخفاء الإنزعاجات التي تسببها هذه الإحتكاكات طويلاً.

تحتاج العائلة إلـى ممارسة التوبة والمصالحة
لتتمكـن مـن مـواصــلة مسـيرتهــا بســـلام

كيف يمكننا معالجة نتائج هذه الإحتكاكات والصدامات ؟
يمكننا القول ان التعبير عن الأشـياء غالبًا ما يكون خيرًا من الكبت والصمت اللذين قد يخلقان جوًّا ثقيلاً في الأسـرة. إن مريم العـذراء خير مثال نقتدي به، فهي لم تصمت إزاء ما اعتبرته إسـاءة إليها وإلى مار يوسـف، بل عبّرت عن شعورها بصراحة، ويمكن للصراحة ان تفيد أحيانًا اكثر من الصمت الثقيل، على شرط ان تنتهي المشاحنات بين أفراد الأسرة بالتسامح والغفران.
لا يجوز الإستهانة بالإحتكاكات الصغيرة وإهمالها، بل يجب معالجتها بالغفران وتطهير الذاكرة منها بالتسـامح، إذ يمكن لهذه النزاعات الصغيـرة، إذا تراكمت، ان تصبح خطرة على العائلة، تمامًا مثل الشجار الكبير، إذ يجوز، إذا تكدست، ان تؤدي إلى الانقسـامات المأسـاوية والقطيعـة بين الزوجيـن أو بين الأولاد وبين الأقارب.
يجب معالجة المشـاكل الكبيرة والصغيرة يوميًا من خلال الغفران والاعتذار، وليس من مصلحة العائلة ترك معالجة نتائج النزاعات إلى اليوم التالي، كما يطلب القديـس بولس بقوله : ” إغضبـوا، ولكن لا تَخطَأُوا، ولا تَغرُبَــنَّ الشمـسُ على غَيظِكم “ (أفسس 26/4) ؛ تنفيذًا لتوجيه القديـس بولـس، قرر أعضاء العديـد من الجمعيات الكهنوتية والرهبانيـة، الاّ يَدَعوا مشـكلة ما بين عضوين من أعضائها دون حل إلى اليوم التالـي، فعلى أحد الطرفيـن ان يذهب ويعتـذر من الأخ قبل الركون إلى النوم. إذا ما عمل أفراد الأسـرة بوصية رسول الأمم، واقتدوا بمثال هؤلاء المكرّسين، ومارسوا روح سـر التوبة والمصالحـة يوميًا، أَمكن للعائلة ان تواصل مسيرة الحياة بسلام وطمأنينة وفرح.

يجب ان نكون فاعلي السلام في العائلة

يسـتطيع كل فرد من أفـراد العائلة ان يكون فاعل سـلام أو عنصرًا معمِّقًا للشقاق ؛ وفي اعادة العلاقات المنقطعـة بين اثنين، أو إلقاء الزيت والبانزين على النار ؛ وبإمكـان التعليقات في غيـر مكانها وأحكـام متسرّعة وعبارات النميمة والإفتراء ان تضخّم حجم النزاعات العائلية، فلا يجوز ان يبقى سائر أفراد الأسرة مشاهدين ومتفرّجين على ما يجري من خلافات، بل عليهم مساعدة المتخاصمين بتهدئتهم ومن ثم بحثّهم على ممارسـة التسـامح والغفـران والمصالحـة، وبهذا يسـتحقون تهنئة يسـوع حين قـال : ” طوبى لفاعلي السـلام، فإنهم أبنـاء الله يُدعون “ (متى 9/5).
ولكن لنتمكن من نشـر السلام في العائلة، علينا ان نبدأ بأنفسنا، ان نعيش في السلام، ان نتحرر من الأحقاد المعشّشة في نفوسنا.
ليس هذا الأمر هينًا في كل الحالات، فمثلاً من الصعب لوالدة جرحتها خيانات صهرها نفسيًا، ان تطلب من ابنتها لتسامح زوجها، طالما يسيطر عليها الغضب.
حينما يصعب علينا الحصول على السلام وعلى ممارسة التسامح، علينا اللجوء إلى الصلاة، فالصلاة وحدها تساعدنا لاستعادة صفوَ نفوسنا، فالله وحده في إمكانه أن يهدّئ عواصفنا الداخليـة، ففي الصلاة نتبنّى نظرة الله ومشاعره الحنونة تجاه الآخريـن، لأن نظـرة الله لا تتوقف أمـام مظاهر الإنسـان السـطحية وضعفه وأخطائه، بل تخترق أعماقه، لترى جمال نفسه وسـموّها التي خلقها، فلا يتوقف نظره أمام هذه المشاكل الصغيرة.
ولا ننسى ان المصالحة مع القريب علامـة على المصالحة مع الله، فلا يمكن ان نهتدي إلى الله من دون ان نتصالـح مع القريب. إن الله محبـة، وحين توجد المحبة في الأسرة، فالله يستقر فيها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى