ما الجنّةُ… وما النارُ ؟ العدد (45)
المسيحُ بكرُ الراقدين
نحتفـل خلال هذه الأيـام بالحدث المركـزي والمُؤَسِـس للديانة المسيحية، ألا وهو قيامة سـيدنا يسـوع المسـيح مـن بين الأمـوات ودخوله المجـد السماوي.
إن قيامة يسوع المسيح تعنينـا جميعًا، لأنها الضمـان الأكيـد لقيامتنـا نحـن أيضًا والتحاقنا به في السماء إذا كنا مـن الصالحيـن، كما يقـول القديـس بولـس : ” فإذا كان الروح الذي أقام يسوع من بين الأموات حالاًّ فيكم، فالذي أقام يسوع المسيح من بين الأموات يُحيي أيضًا أجسـادكم الفانية بروحـه الحال فيكم “ (روميـة 11/8)، ” …ان المسيح قد قام من بين الأموات وهو بكر الراقدين… “ (1 قورنثس 20/15) ؛ ولقد سبق يسـوع أنْ أكّد لنا ذلك بقوله : ” إفرحـوا بأن أسـماءَكم مكتوبةٌ في السماوات “ (لوقا 20/10)، وتحدّث عن مصير البشـر بعد الموت قائلاً : ” الذين عملوا الصالحات يقومون للحياة، والذين عملوا السيئات للدينونة “ (يوحنا 29/5).
لا بُدَّ اننا نتساءَل بمناسبة عيد قيامة يسوع المسيح من بين الأموات : ما هو المجد السماوي الذي ينتظر الصالحيـن، وما هي الجحيم التي سيُقذف الطالحـون فيها ؟ وغالبًا ما نطرح هذا السؤال عينه على أنفسنا حينما يجتاز أَحد الأقارب أو الأصدقاء عتبة الموت.
نحاول في هذه الإفتتاحية الإجابة عن هذا السؤال.
مشاهد من الجحيم ومن الجنّة
سـرد لي صديق عزيز قصـةً رمزية شيّقة، ذات معانٍ لاهوتية سـامية، من شأنها تسليط أَضواء كاشفة على مفهوم الجحيم والجنة بأسلوبٍ سلس وبسيط، قال : ” وافت المنيةُ أَحدَ الأبـرار الصديقين بعد حياة قضاها بممارسـة الأعمال التقوية كالصلاة والصوم، وأعمال البِر والإحسان كمسـاعدة المحتاجين والفقراء والتخفيف عن آلام المتضايقين، فحضـر ملاك الرب ليرافقه إلى الجنة.
وبينما كانا متجهين نحو دار النعيم، أستوقف قديسُنا الملاكَ، وطلب منه قائلاً : ” قبلما تُدخلني الجنة، أرجو ان نقـوم بزيارة مثوى الأشـرار، لأطّلع على حالة الهالكين في الجحيم “. إستجاب الملاك لطلب القديـس، واتّجه به صـوب جهنم، وحين بلغ بابها أدخله فيها ؛ فماذا شاهد فيها ؟
شاهد البارُّ في الجحيم : جُنيْنةً غنّاء، تجري من تحتها الجداول، غنيّة بأنـواع الأشجار ومزينة بأصناف الورود والأزهار ؛ مُدَّت في وسطها مائدة عامرة بكل ما لَذَّ وطاب من الأطعمة والفواكه ؛ وشـاهد الهالكين جالسين حولها لتناول الطعام ؛ إلاّ أن أوجههم كانت شاحبة تعلوها مسحة من الكآبة والتعاسة ؛ لأن الإرادة الإلهية كانت قد قررت، ان يتناول هؤلاء طعامهم بملاعق طويلة جدًا، فكلما حاول أحدهم تناول الطعام من الصحون الموضوعة أمامه، كان يُصاب بخيبة الأمل، إذ لم يكن في إمكانه إيصال الطعام إلى فمه، فيمكث جائعًا متحسّرًا.
بعد مشـاهدة الجحيم، انتقل قديسـنا إلى الجنّة، فدخلها ؛ فما الذي رآه فيها ؟ شاهد منظرًا مشابهًا للمشـهد الذي رآه في الجحيم : عاين بسـتانًا رائعًا، ومائدة الطعام. ولكن الفرق الذي رآه بين الحالتيـن : كان لدى الأبرار المتَحلّقينَ حـول المائدة، وجوهٌ تشعّ صحةً وبهجة وسعادة. إن القانون – الذي سنّته الإرادة الإلهية لتناول الطعام بملاعق طويلة – كان يسـري على أَهـل الجنة أيضًا، فأين كانت تكمن سعادتهم إذن ؟ كان سر فرحهم يكمن في الأمر الآتي : كان كل واحد من الأبرار يفكّر في قريبه الجالـس أمامه، قبل أن يفكر في نفسـه، فلم يكن يحاول إطعام نفسه، بل كان يحمل الطعام بالملعقة الطويلة، ويطعم رفيقه الجالس أمامه ؛ هكذا كان الأبرار يأكلون كلهم ويشبعون من نِعم الله.
فهم قدّيسنا أن سعادة السـماء تقوم على المحبة السـائدة بين أهلها، وتعاسـة الهالكين كان سببها الأنانية ومحبة الذات السائدة في جهنم. ومن لا يحب قريبـه، لا يمكن ان يحب الله، كما قال القديس يوحنا : ” إذا قال أحدٌ : ” إني أحبُ الله “ وهو لا يحب أخاه، كان كاذبًا، لأن الذي لا يحب أخاه وهو يراه، لا يستطيع ان يحب الله وهو لا يراه “ (1 يوحنا 20/4).
طُوبى لمن يسمع كلام الله ويحفظه
ربط يسوع تحقيق سعادة الإنسـان الحقيقية بطاعة الله وحفظ وصاياه قائـلاً : ” طوبى لمن يسمع كلام الله ويحفظه “ (لوقا 28/11).
قدّم يسوع في خطبته على الجبل منهاج السعادة الحق، التي تقوم على تطبيق الفضائل الإنجيلية التي تأمر بمحبة الله ومحبة البشر، منها البِر والقداسة وطهارة القلب، الرحمة إزاء القريب والإحسـان إليه، الوداعة في التعامل معه، وإحـلال التفاهم بين المتخاصمين، فهنّأ من يطبـق هذه الوصايا قائلاً : ” طوبى للودعـاء فإنهم يرثون الأرض… طوبى للجياع والعطاش إلى البِر فإنهم يشـبعون، طوبى للرحماء فإنهم يُرحمون، طوبى لأطهار القلوب فإنهم يشاهدون الله، طوبى لفاعلي السلام فإنهم أبناء الله يُدعون… (متى 1/5-12).
أما الذي لا يحفظ هـذه الوصايا، ويرتكـب خطايا تناقضها، أي بدلَ أعمـال القداسة يرتكب أعمال الفجـور، وبدلاً من الرحمة يقوم بأعمال العنف والإعتـداء على الآخرين، وبدلَ الوداعة والتواضع يتكبّر على الآخرين ويهينهم، وبدلاً مـن نشر المحبة والتسامح يتعامل مع الآخرين بالحقد والإنتقام والخصام ؛ فلا بُدَّ هذا ان يحصد البؤس والتعاسة والحزن.
نلمس هذا الأمر لمـسَ اليد في العوائل ؛ فالعائلـة التي تخيّم عليها مشـاعر المحبة والتفاني المتبادل، يعيـش أعضاؤها بالهدوء والسـعادة والطمأنينة في كل الظروف ؛ أما العائلة التي يسود أعضاءها مشـاعر الأنانية وحب الذات والبحث عن المصالح الخاصة، فيخيّم عليها الخصام والإنقسامات. ان أفراد النموذج الأول يتذوقون سعادة السماء منذ هذه الحياة الدنيا، وأعضاء الأسرة من النموذج الثاني يعيشون في الجحيم منذ الآن.
إن ما نشاهده في الأسرة البشرية الصغيرة يتكرر في الأسرة البشرية الكبيرة، أي في المجتمع البشري ؛ فحيثما المحبة فهناك العدالة، وحيث توجد العدالة فهناك الرفاه والسعادة والوئام، وحيث تسـود الأنانية والمصالح الذاتية الضيّقـة، فهناك الخصام والإقتتال والحروب والتعاسة.
فالسماء والجحيم تبدآن من الدهر الحاضر.
الجنة والجحيم في الحياة الأخرى إمتداد للحالة الأرضية
ستكون حالة الإنسـان بعد الموت تتويجًا للنهج الذي سـار عليه على الأرض، وخاتمة لسلسلة من القرارات التي يكون قد اتخذها، وللأعمال التي يكون قد قام بها.
لذا أكّد يسوع وحذّرنا أننا سنُحاسَب في غـروب حياتنا على محبة الآخريـن، قائلاً للصالحين : ” تعالـوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المُعد لكم منذ إنشـاء العالم، لأني جعتُ فأطعمتموني، وعطشتُ فسقيتموني… كنتُ مريضًا فعُدتموني… كلّما صنعتُم شيئًا من ذلك لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه “. ثم يقول للأشرار : ” إليكم عنّي أيها الملاعين،… لأني جعتُ فما أَطعمتموني، وعطشتُ فما سـقيتموني… كنـتُ مريضًا وسـجينًا فما زرتموني… كـل ما لم تصنعوه لواحد من هؤلاء الصغار فلي لم تصنعوه “، فيذهب هؤلاء إلى العـذاب الأبدي، والأبرار إلى الحياة الأبدية “ (متى 31/25-46).
ان الذين تجاوبوا ومحبة الله لهم، أي أحبوا الله من كل قلوبهم، وبرهنوا على ذلك من خلال تطبيـق وصاياه، كما قال يسـوع : ” إذا كنتم تحبونـي، حفظتم وصاياي “ (يوحنا 15/14)، والذيـن أحبوا اخوتهم البشر من كل قلوبهم، لأن محبة الله ومحبة القريب أعظم وصايا الله. قال يسـوع : ” أحبب الربّ إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك، تلك هي الوصية الكُبرى والأولى، والثانية التي تشبهها : أحبب قريبـك حبك لنفسـك “ (متى 35/22-40) ؛ إن هـؤلاء سينضَمّون إلى الله ويحيون من حياته، وهذا ما نسميه ” السماء “ أو ” الجنة “.
أما الذين أبعدوا ذواتهم عن الله وعن القريـب بإرتكابهم الخطايا، وماتـوا من دون ان يتوبوا، فإنهم يبقـون منفصلين عن الله على الدوام باختيارهم الحر ؛ إن حالة الإقصاء الذاتي عن الشركة مع الله ومع الطوباويين هي ما نسمّيه ” جهنم “. يقوم عذاب جهنم في الإنفصـال الأبدي عن الله الذي فيه وحده يستطيع الإنسـان الحصول على الحياة والسعادة اللذين لأجلهما خُلق، وإليهما يتوق.