الافتتاحية

ليتكلّل موتنا بالنجاح العدد (55)

                                                                   ليتكلّل موتنا بالنجاح

عنوان غريب ولكن مهِم

” ليتكلّل موتنـا بالنجاح “ عنوان غريب وغير مألوف، نادرًا مـا نجد مضمونه معالجًا في الكتب أو على صفحـات المجلات، وقليـلاً مـا يتطرق إليـه الخطبـاء والوعّاظ.
إعتـاد الناس أن يتحدثوا عن ” النجاح في الحيـاة “ و” النجاح في الدراسـة “ و” النجاح في المهنـة “ و” النجاح في الحياة الزوجية والعائلية “ ؛ لا بل نجـد في المكتبات مؤلفات تدّعي تقديم وصفـات جاهزة وفعّالة لتحقيق هذه النجاحات وعرض الوسـائل التي تعينهم لينجحوا في حياتهم، ولا نجد كتبًا أو مقالاتٍ تعلّم الناس كيف ينجحون في ميتتهم.
إن موضوع ” النجـاح في الموت “ في غاية الأهميـة، لأنه إذا تمكن المرء أن يحقق كل هذه النجاحات، المذكورة في أعـلاه، خلال حياته الأرضية، حينمـا يحل الموتُ، ينتزع كل هذه النجاحات، ويختم المرء وجـوده على هـذه الأرض بالفشـل الذريع، وهذا الأمر يمثل مصيبة أدهى من الفشل.
أما إذا فشـل الإنسـان في أمور حياته الأرضية، فيحلّ الموت محررًا من هـذا الفشل، وقد يلجأ المرء نفسه إلى وضع حدٍ لهذا الفشل بالإنتحار.
لذا من الأهمية بمكـان أن يعرف الإنسـان، إضافةً إلى كيفية النجـاح في أمور حياته الأرضية، أن يكلّل آخـر مرحلة مـن مراحل حياتـه الأرضيـة، أي الموت، بالنجاح ؛ إذ بهذا يكلّل سائر مراحل حياته الأرضية بالموفقية، لأنه لا فائدة ان ينجح في أمور حياته الأرضية إذا ما ختمها بالفشل.
كيف ذلك ؟
تطمح هذه الإفتتاحية إلى الإجابة عن هذا السؤال بالرغم من صعوبته.
أهمية الحديث عن الموت
لا يخرج ” الموت “ من دائرة إهتمامات معاصرينا. فلقد جرى مؤخرًا استفتاءٌ في بلد أَورپي حول هـذا الموضوع، وطُرح على العديد من الناس السـؤال الآتي : ” لو تمكنتَ أن تسـأل الله عن أَمر ما، أيَّ سؤال كنتَ ترغب أن تطرحه عليه ؟ “ كانت نتيجة الإستفتاء كالآتي : 31% من الناس الذين أُستطلعت آراؤهم أَجابوا، أنهم كانوا يطرحون السؤال الآتي على المولى : ” ما الذي يحدث بعد الموت ؟ “.
يعني هـذا الجواب ان موضوع ” الموت “ يثير إهتمـام معاصرينا كثيرًا، وان موضوع ” الميتة الصالحة “ ما زال معاصرًا، يسترعي إهتمام البشـر الذين يعيشون في عصرنا، حتى الذين هم بعيدون عن القضايا الإيمانية.
يحاول البشـر بكل جهدهم تحاشي التفكيـر في موتهم والتهرّب من الحديث عن موت الآخرين، إلى درجة، أنهم عندمـا لا يجدون بدًّا من الحديث عنه، يسـتعملون عبارات مُخفّفة، فيقولون عن أحـد الأقارب أو الأصدقـاء إنه ” تُوفِّيَ “ أو” إنتقل “ أو” رحلَ “ أو” تركنا “… إلخ ؛ لانّ إسـتعمال عبارة ” مات فلان “ قد تبدو خشنة أو قليلة الذوق.
حينما تعرض وسـائل الإعلام المرئية مشـاهد الموت بسـبب الحوادث الطبيعية كالزلازل أو الفيضانات، أو بسبب أعمال العنف كانفجار العبوات الناسفة أو السيارات المفخخة أو الإعدامات أو الإغتيالات، تحاول هذه الوسـائل، بعد ذلك، تغيير أَجـواء الكآبة بتقديم برامج مسلّية، كمباريات كرة القدم، أو الأغاني أو المسـرحيات الهزلية، وغير ذلك ؛ لأن مشاهد الموت تسبب للإنسان القلق والخوف والإضطراب.
لماذا يشعر الإنسان بالرعب إزاء ظاهرة الموت ؟
هناك أسباب عديدة لذلك، نذكر بعضًا منها :
– الخوف من الآلام التي تسبق الموت أو ترافقه، أي النزاع.
– الآلام المعنوية بسبب فقدان الأحبة والإنجازات التي حققها الإنسان بتعب طيلة سنين عديدة.
– الخوف لدى غير المؤمن بالقيامة أن يبتلعه العدم، فلا يعود له وجود بعد ذلك.
– الخوف لدى المؤمن بالقيامة، لأنه يجهل نوع الحيـاة التي تنتظره، وكأنه يقفز في المجهول.
– الخوف لدى المؤمن بالقيامة، من الدينونة التي تنتظره بسـبب الأخطاء والآثام التي ارتكبها.
إن الخوف من الموت أَمرٌ طبيعي لا يجوز إدانته، إن يسـوع نفسه انتابه الخوف في بستان الزيتون حين قربت سـاعة رحيله إلى الآب، كمـا يؤكّد الإنجيل المقدس قائلاً : ” ثم جاء يسوع معهم (أي مع رسـله) إلى ضيعة يقال لها جتسـمانية، فقال لتلاميذه : ” امكثوا هنـا، ريثمـا أمضي وأصلّي هناك “… وجعل يشـعر بالحزن والكآبة فقـال لهم : ” نفسي حزينةٌ حتى الموت… “، ثم قـال ” يا أبتِ، إن أمكن الأمـر فلتبتَعد عني هـذه الكأس، لكن لا كمـا أشـاء، بل كمـا تشـاء أنت “ (متى 36/26-39) ” وصـار عرقـه كقطـرات دمٍ متخثّـر تتسـاقط على الأرض “ (لوقا 44/22).
بالرغم من أن الموت أمرٌ طبيعي بيولوجي، فإنه يبقى عنفًا ضد الطبيعة البشرية وحدثًا مأساويًا.
الموت مرحلة من مراحل الحياة الأرضية
الموت مرحلة من مراحل حيـاة الإنسـان الأرضية، لا يمكنـه التهرب منهـا، ولا يمكن فصلهـا عن المراحل الأخرى ؛ الموت حدث بيولوجي، لا يمكن فهمه إلاّ ضمن دورة الحياة : الولادة، الطفولة، النمو، الترعرع، الشيخوخة فالموت.
الموت إذن من ضروريات الحياة، نفهم ضرورته حينما نضع أمامنا خطاب قداسة البابا بندكتوس السـادس عشـر للشـبيبة، الذي ألقاه في روما بتاريخ 2008/3/10، والذي ورد في باب ” صوت الراعي “ مـن العـدد الحالي ذي الرقم 55 من مجلة ” نجم المشرق “، إذ قال :
” لنحاول أن نتخيل أن الطب تمكّن من إيجـاد الوصفة الطبية ضد الموت… من السهل أن نتخيل ما قد يحصل لو كانت حياة الإنسان البيولوجية بلا نهاية، لو كانت خالدة : لكنّا وجدنا أنفسنا في عالم عجوز، عالم مليء بالعجائز، عالم لا يفسح مجالاً للشباب، لا يترك فسحة لتجدد الحياة. نفهم هكذا أن ليس هذا نوع الخلود الذي نتوق إليه ؛ ليست هذه إمكانية الإرتواء من نبع الحياة التي نتشوق إليها… “.
فعلاً، لو ألغى الله سُنة الموت من حياة الإنسان، لكان عمر معظم البشر يتجاوز آلاف السنين : ألف، عشرة آلاف، أو عشرين ألف سنة… إلخ، ولكان الإنسان نفسه يرجو الله ألاّ يلغي شريعة الموت.
لا يقتصر الموت على حيـاة الإنسـان وحده، بل يشـمل كافّة الكائنات الحية : النبات، الحيوان… إلخ.
ولكن الفارق بين الإنسان وبين سائر الكائنات الحية، هو انه لا يموت كما يموت 
النبات أو الحيوان ؛ تموت هـذه الأخيرة من غير أن تعي أنها تموت، أما الإنسـان فيعيش ويعي موته الشخصي ؛ قبل حدوث الموت، يعرف انه سوف يموت يومًا ما، وحينما يتقدم في السـن يعي ان نهاية حياته الأرضية بدأت تقترب، وإذا مـا أصيب بمرض عضال، يخمّن الأطبـاء كم بقي له من الزمن ليمكث على قيد الحيـاة، وقد يقولون له ذلك، فهكذا يشعر المرء شعورًا مرهفًا بمأساة الموت، وقد يحاول أن يُبعد موعده قدرَ الإمكان.
هكذا يعرف الكائن البشري وحده انه سوف يموت ؛ من خلال عقله وذكائه، أي أن الموت بالنسبة إليه ليس حدثًا بيولوجيًا فحسبُ، بل روحيًا أيضًا، فلقد اشتركت فيه قواه الروحية : إذ فكّر فيه طويلاً، وخاف منه، ويتلقاه بوعي، فإمـا يقبل هذا

إذ أقترب من الأبدية أرى الموت شبيهًا بالحركة التي يقوم بها الطفل حينما يلقي بنفسه بين أذرع أبيه.

من تأملات الأخت عمّانوئيل

 الواقع بالإستسلام لله ويقبله من يد الله بطيبة خاطر، أو أن يثور ضده، بِلا فائدة.
بالإختصـار نقول : ان موت الكائنات غير العاقلة هو مجرد موت بيولوجي، أما موت الإنسان فهو موت بيولوجي وموت روحي.
مفهوم الحياة ومعنى الموت
إن مفهوم الحياة نفسها مرتبط إرتباطًا وثيقًا بمعنى الموت ؛ فإذا اعتقد البعض ان لا معنى للموت لأنه انغماس في العدم، فلا معنى للحياة البشرية على هذه الأرض، فما معنى الخير الذي يقدمـه الإنسـان للآخرين في هذه الحالة ؟ وما معنى النزاهة التي إتصفت بها واجبات مهنتـه ؟ وما معنى التضحيات التي فرضهـا على نفسـه لإنجاز المَهمات التي أوكلت إليه ؟ وما معنى الآلام التي احتملهـا في هذه الدنيا ؟
لا يمكن للعقل البشري أن يقدم لنا شرحًا عن مفهوم الموت، ولا عمّا سيحدث لنا بعد الموت، لأن هذه الأمور لا تخضع للخبرة البشـرية ليتمكن من تحليلهـا ؛ إنما مفهوم الموت يُطلعنا عليه الوحي الإلهي الذي ورد في الأسـفار المقدسة وفي التقليد الرسولي.
برغمِ هذا، لنحاول أن نتلمّس مفهوم الحياة والموت عبر خبرة الإنسان الحياتية.
يشعر الإنسان شعورًا عميقًا أنه خُلق للسعادة، ولسعادة خالدة، ويقضي طيلة حياته بالبحث عن هذه السـعادة. نتسـاءَل هل ان هذه السـعادة التي يلهث وراءَها يمكن للأشياء التي حصل عليها أن تحققها له ؟
قال المغنّي الشـهير فريدي ميركوري (Freddy Mercury) من فرقة روك كوين (Rock Queen) ذائعة الصيت، والذي توفي عام 1991 من مرض السيدا، في إحدى أغنياتـه : ” Does any body Know what we are living  for ? هل هنـاك امـرؤٌ ما يعرف لماذا نعيش ؟ “.
تنعّم فريدي ميركوري بكل ملذات هذه الدنيـا، وحاز على الشـهرة العالمية التي يحلم بها الناس وحصل على المال الكثير، وحينما بلغ غروب شمس حياته الأرضية قال لصحفي : ” في إمكانك الحصول على كل ما تريد في هذه الدنيا، وتبقى معزولاً عن البشـر ؛ إنها الوحدة والعزلة الأكثر مرارة. إنّ النجاح الباهر الذي حققتُهُ جعل منّي صنمًا معبودًا، وجلب لي المال الكثير، ولكنه منعني وحال دون أن أحصل على الشيء الوحيد الذي نحن جميعًا في أمسّ الحاجة إليه، ألا وهي صداقة تدوم “.
هكذا وجد فريدي ميركوري الجواب عن سؤاله : ” هل هناك امرؤٌ يعرف لماذا نعيش ؟ وفهم أن السـؤال الحقيقي الذي كان يجب أن يطرحه كان : ” هل هنـاك شخص ما يعرف لمن نعيش ؟ “.
فهل يمكننا أن نجد معنى حقيقيًا لحياتنـا من دون الأصدقاء ؟ سـبق الفيلسـوف اليوناني أرسطو وأجاب عن هذا السؤال بالنفي. لأن الصداقة الحقيقية مع شخص ما وحدها تستطيع أن تمنح لنا السعادة، ولا يمكن لأموال الدنيا كلها أن تمنحنا إياها.
ولكن كيف للصداقة البشرية أن تدوم وللسعادة التي تمنحها أن تستمر، إذا كان الموت يفصلنا عن أصدقائنا المخلصين في نهاية المطاف ؟
حياتي هي المسيح
لا تقوم السـعادة الحقيقية إذن على شيء ما، ولكن على علاقة بشخص يمكنه أن يمنح هذه السعادة. فهم القديس بولس أن الشـخص الوحيد الذي في وسـعه أن يمنح السعادة الدائمة والأبدية هو المسـيح، وعبّر عن ذلك بعبارته الرائعة ” الحياة عندي هي المسيح “ (فيليبي 21/1).
تُعطي هذه الآية، التي قالها القديس بولس، المعنى المسيحي للحياة. إن أَصالة هذه العبارة تكمن في التأكيد أن ” معنى الحيـاة “ لا يقوم على الحصول على شيء مـا ولكـن على شـخص ؛ إنها لا تتحقق بالحصـول على الخير الفلاني ولا على اللذة الفلانية ولا على الغنى ولا على السلطة ولا على المجد، ولكن على العلاقـة الشـخصيـة الواقعية بيسوع المسيح، أي على الصداقة مع الله في المسيح يسوع، وبواسطة يسـوع الحي، القائم من بين الأموات، وكانت قيامته تلك لأجل ذاته ولأجلنا أيضًا. هكذا تنتصر صداقتنـا مـع المسيح على الموت، هكذا يكون الموت بالنسـبة إلى المسـيحي هـو خاتمـة الحيـاة الأرضية وبداية الحياة الأبديـة في الملكـوت، حيث يصبح الله كل شيء، كما يقول القديس يوحنـا الرسـول فـي سـفر الرؤيا :
” وسمعتُ صوتًا جديدًا من العرش يقول : ” هوذا مسكن الله مع الناس، فيسكن معهم وهم سيكونون شعوبه وهو سيكون ” الله معهم “. وسيمسح كل دمعة من عيونهم، وللموت لن يبقى وجود بعد الآن، ولا للحزن ولا للصراخ ولا للألم يبقى وجود بعد الآن، لأن العالم القديم قد زال “ (رؤيا يوحنا 3/21-4).
إن رسـالة القديس بولس إلى أهل فيليبي من النصوص الكتابية التي تعبّر عن المعنى المسيحي للحياة الأرضيـة وللموت وللحياة الجديدة مــا بعد الموت بقوله : 
” الحياة عندي هي المسيح، والموت ربحٌ… فلي رغبة في الرحيل لأكون مع المسيح، وهذا هو الأفضل جدًا جدًا… “ (فيليبي 21/1-23).
كيف يمكننا ان نكلــّــل موتنا بالنجاح ؟
يجيب القديس بولس عن هـذا السـؤال في كلامه المذكور آنفًا، نورده كاملاً كما خطه بيده : ” الحياة عندي هي المسيح، والموت ربحٌ، ولكن إذا كانت حياة الجسد تمكنني من القيام بعمل مثمر، فإني لا أدري ما أَختـار، وأنا في نزاع بين أمرين : فلي رغبة في الرحيل لأكون مع المسيح، وهذا هو الأفضل جدًا جدًا، غير أن بقائي في الجسد أشد ضرورة لكم “ (فيليبي 21/1-24).
يعلمنـا القديس بولس أن موتنا يتكلّل بالنجاح، إذا ما قمنا خلال حياتنا الأرضية بعمل مُثمر، أي تكميل وصايا الله وتطبيق إرادته القدوسـة، وبخاصّة الوصية الأولى ” أحبب الرب الهك من كل قلبك… “ والوصية الثانية ” أحبب قريبك حبك لنفسك… “ ؛ فالوصية الثانية تعبير حقيقي عن الأولى كما يقول القديس يوحنا الرسول : ” إذا قال أحدٌ : ” إني أحب الله “ وهو يبغض أخاه كان كاذبًا، لأن الذي لا يحب أَخاه وهو يراه لا يستطيع أن يحب الله وهو لا يراه “ (1 يوحنا 20/4).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى