لا تنسَ الربَّ إلَهكَ (55)
(تثنية الإشتراع 11/8-20)
الاب البير هشام نعوم
الأحد الأول من الصليب والرابع من إيليا
القراءة الأولى
تنبَّهْ لِئلا تنسى الربَّ إلهَكَ، غيرَ حافظٍ لوصايـاه وأحكامِهِ وفرائضِهِ التي أنــا آمُرُكَ بها اليوم، مخافةَ أنّكَ، إذا أكلتَ وشبِعتَ وبنيتَ بيوتًا جميلة وسـكنتَها، وكثُرَ بقرُكَ وغنمُكَ وفِضّتُكَ وذَهبُكَ وكلُّ ما لكَ، يشـمخُ قلبُكَ فتنسى الربَّ إلهَكَ الذي أخرجَكَ من أرضِ مِصرَ، من دارِ العبودية، والذي سـيّركَ في البريّة العظيمة الرهيبة، حيثُ الحيّاتُ اللاذعةُ والعقارب والعَطَش، وحيثُ لا مـاءَ فَجَّرَ لكَ المـاء من صخرةِ الصَّوَّان، وأطعَمَكَ في البريّة المنَّ الذي لم يعرفهُ آباؤكَ، ليُذللَكَ ويمتحِنَكَ، ليُحسِنَ إليكَ في آخرتِكَ، ولِئلا تقولَ في قلبِكَ : إنَّ قوّتي وقدرةَ يدي صَنَعتـا لي هذه الثروة. بل تذكرُ الربَّ إلهَكَ، فإنـه هـو الذي يعطيكَ قوةً لتصنع بهـا الثروة، لكي يُثبِّت عهـدَه الذي أقسمَ به لآبائِكَ كمـا في هذا اليوم. وإن نسـيتَ الربَّ إلهَكَ وسِـرتَ وراءَ آلهةٍ أخرى وعَبدتها وسـجدتَ لها، فأنا شـاهدٌ عليكـم اليوم بأنّكم تهلِكون هلاكًا. كالأمـم التي يُهلكُهـا الربُّ من أمامِكـم، هكـذا تهلِكون أنتم أيضًا لأنّكم لم تسـمعوا لصوتِ الربِّ إلهِكم.
(تثنية الإشتراع 11/8-20)
) الإطار التاريخي الذي ورد فيه نـــَص (تثنية الاشتراع 11/8-20)
كتاب تثنية الإشـتراع، الذي اخترنا منه نصًّا لمقالنا في هـذا العدد، هو السـفرُ الخامس والأخير من أسفار التوراة (وتسبقهُ أسفار التكوين والخروج والأحبار والعدد) والتي تشكّل أول أسفار الكتاب المقدس. ومحتوى هذا السـفر أكثر تماسكًا بكثير من باقي أسفار التوراة، وهو مجموعة واسعة دوِّنت فيها مواعظ صادرة عن موسى الذي
رافق الشعب بإرشاداته وإنذاراته ومواعده منذ أن وطأت أقدام الشعب أرضَ الميعاد وحتى سـاعة الجلاء إلى بابل. ولا نجد في هـذا الكتـاب سـيرًا وتطوّرًا للأحداث التاريخية. ففي الصفحة الأولى منه يضعنا الكاتب في عِِبر الأردن، في أرض موآب حيثُ ” شرعَ موسى في شـرح هذه الشـريعة “ (5/1)، وفي الصفحة الأخيرة نجد أنفسـنا مع الكاتب في ذات المكان حيثُ يوافي موسى الأجلُ ” فماتَ هناكَ موسى، عبدُ الربِّ، في أرضِ موآب… “ (5/34). أمـا عن المرحلة التاريخية التي مرّ بهـا تأليف هذا السفر، فيساعدنا آباء الكنيسـة على اكتشافها من خلال رواية سفر الملوك الثاني، الفصل الثاني والعشرين منه، والتي تقول إنهم عثروا في هيكل أورشليم، في السـنة الثامنة عشرة لمُلك يوشـيا، أي في السنة 622 ق.م، على سـفر الشـريعة (آية 8 و11)، أو سفر العهد (2/23 و21). فجدّد الملك العهد متأثرًا بما جـاء في هذه الشريعة بعد أن جمع الشـعب لهذا الغرض. ويُلاحَظ أن برنامج هذا الإصلاح الذي نجده في (2 مل 4/23-20) يطابق المقتضى الأساسي الوارد ذكره في تثنية الإشتراع.
2) التحليل الكتابي – البيبلي
هذا النَص يقع ضمن الفصول 1-30، التي تأتي في شكل خطاب ألقاه موسى على الشعب، وكأنّها وصية روحية تركها قبل وفاته، وهي تُلفت الإنتباه بوحدتهـا الأدبية وإبداعهـا الفكري. ونصّنا هذا قريب من أسـلوب العظـة التي فيها يتكلم موسى من بداية الفصل عن امتحـان الله لشـعبه في البريّة، وعن التجارب التي وقعوا فيهـا في أرض الميعـاد وكيف وقف الله إلى جانبهم وأثبتَ لهم أنه الإله الأمين لوعوده، فعلى الشـعب في المقابل ألاّ ينسى الربّ وخلاصـه، ويعتبر كلّ شيء يأتي من قوة يديه، بل هو من قوة الله الذي لم ينسَ شـعبه، ليس في وقتِ التجاربِ فحسب بل بالأحرى في كل لحظة.
3) الإطار الليتورجي
أ) علاقة هذا النَص مع النصوص الكتابية الأخرى
يحثُّ الرسولُ بولس أهلَ فيلبي في رسالته إليهم (27/1-11/2) بأن يسيروا ” سيرةً جديرة ببشارة المسيح “ (27/1) وأن يبقوا ثابتين بروحٍ واحد ويجاهدون بنفسٍ واحدةٍ في سبيل الإيمان، غير خائفين من خصومهم، ففي ذلك دلالة على خلاصهم وعلى هلاك أعدائهم. ويردف الرسول أن هذا ” من فضل الله، لأنه أنعم عليكم، بالنظرِ إلى المسـيح، أن تتألّموا من أجله، لا أن تؤمنوا به فحسب… “ (آية 28 و29). وبذلك يدفعنا بولس مع أهل فيليبي إلى اعتبار كلّ شيء نِعمَة من الله، ليس فقط الإيمـان به، بل حتّى التألم في سـبيله، وهـذا يجعلنـا لا ننسى الربّ إلهنـا حتى في وقت المِحن ومواجهة خصومنـا في هذا العالم، ونكون على رأي واحد ومحبة واحدة وقلب واحد وفكرٍ واحـد، غير مفضّلين أنفسـنا على الآخرين، بل كلّ شيء بالمسـيح وبتشجيع المحبة وبالمشاركة في الروح وبالحنـان والرأفة، وبالشـعور الذي كان في المسـيح نفسه، إذ ” مع أنه في صورة الله، لم تَعُد مساواته لله غنيمة، بل تجرّد من ذاته مُتّخذًا صورةَ العبد… “ (آية 6 و7) أي مع أنه ابنٌ لله، لم يعتبر هذا امتيازًا جعله ينسى أباه، بل نسى ذاته فـ ” رفعه الله إلى العُلى ووهب له الاسم الذي يفوق جميع الأسماء، كيما تجثو لاسمِ يسوع كُلُّ رُكبةٍ في السموات وفي الأرض وتحتَ الأرض، ويشهدُ كلُّ لسانٍ أن يسوع المسيح هو الربّ تمجيدًا للهِ الآب “ (آية 9-11).
وفي طريق تحقيق يسـوع لملكوته على الأرض، وهو أن يصير الله ملكًا على قلوب البشر، فلا ينساه إنسانٌ بل يذكر عجائبه التي صنعها ويصنعها معه ومع إخوته البشر كلّ يوم، يروي لنا الإنجيلي متّى قصّة رسالة يسوع في الجليل (12/4-16/5)، حيث جـاء أولاً إلى بلاد زبولون ونفتالي وسـكن فيها ليتمّ ما قال النبي أشـعيّا : ” الشـعبُ المقيـمُ في الظلمـة، أبصـرَ نورًا عظيمًا… “ (آية 16) ومن كـانَ في الظلمـة وأبصرَ النور، هو مدعوٌ ألاّ ينسى إلهَ النور الذي أنقذه من ليل الظلمة وأسـكنه في نهارٍ يشعُّ منه نور الخير. ثمّ اختارَ يسوع تلاميذَ ليعلّمهم ويدرّبهم ليكونوا شهودًا لهذا النور الإلهي، ويصف متّى تركهم لأعمالهم وعوائلهم ونسـيانهم ذاتَهم في سبيل تذكّر نِعمَة الله عليهم، التي لا تُنسى، فعاشـوا فيها حتّى النهاية. وعمل يسـوع كل أعمال الخير أينما حلّ حتى شـاع ذكرَه، فأتته وتبعته من مختلف الأماكن جموعٌ كبيرة من الشعب، وآمنت به لأنها تذكرت أعمال الربّ لها ولن تنساها.
ب) علاقة هذا النَص بالصلاة الطقسية
يذكر البيت الأول من صلاة الـ (موةبا) لهـذا الأحـد الأول من الصـليب والرابع من إيليـا، التغيّرات التي حلّت على الأرض بموتِ ربّنـا على الصليب، إذ شاركت الطبيعةُ الخلائقَ في تأثّرهـا بهذا الحدث العظيم. وهذه ترجمة لنَص الصلاة التي نجدها في كتاب الحوذرا (المجلّد الثالث، ص رؤى، 295).
” الصليب غافر الكل، الذي صُلِبَ في الجلجلة في أورشـليم مدينة القداسة. أسّس سـلطانَهُ في عُلى وعُمق أربع جهـات الخليقـة. وتعجبت الخلائق بتحوّلهـا غيـر المصنوع، السماء اظلمَّ نورها في وسط السـماء، والأرضُ تزعزعت ….. وأجسادُ القديسين قامتْ وبُعِثَت ودخلتِ المدينة و….. للظلام وبشّـروا بالملك المسـيح، الذي غلبَ بموتِهِ سلطانَ الموت وخلّص العالم مع مرسليه، بذبيحة جسده التي صارت من أجلِ جميعِنا “.
إن هذه الصلاة التي استقت فحواها من الإنجيل المقدّس، تُظهر الطبيعة في علاقة مع خالقها بتفاعلها مع حدثِ موت المسـيح على الصليب، لأنها لم تنسَه قط. كما أن القديسين الذين عاشـوا وهم يذكرون كلّ حينٍ ربّهم، قامت أجسـادُهم ودخلت المدينة المقدسة، وبشّروا بحياتهم التي ذكرت صنائع الرب معها. فمن يذكر ولا ينسى أعمال الرب، فهو يخلُص.
4) رسالة هذا النــــَص إلى عالمنا المعاصر (تأوين)
دعونا نقفْ معًا وقفةَ صدقٍ مع ذاتنا، ولنتذكر الآن الأوقات التي نسينا فيها الربّ إلهنا ولأي سببٍ نسـيناه أو تناسـيناه. ربما أسبغَ علينا عطاياه يومًا، فأحببناه ونسينا محبتنا له ؟! أو نسبنا أيضًا مصدر هذه العطايا إلى قوتنا وتضحياتنـا، ليمنحنـا هذا الشعور إثباتًا لذاتنا ونُظهر فيه قداسة سيرتنا أمام أنفسـنا وأمام الربّ، بدلاً من نسبة هذه العطايا إلى مانحها الحقيقي وهو الله، وتذكّر نِعمَه الغزيرة التي يغدقهـا علينـا، تمامًا كما يذكر سـفر تثنية الإشـتراع في النَص الذي اخترنـاه.