الافتتاحية

لا استحي من صليبي العدد (91)

لا استحي من صليبي
الأب ألبير هشام نعوم

   أكتب إفتتاحية هذا العدد من مجلة ” نجـم المشرق ” بدلاً عن سيادة المطران جاك إسحق، رئيس التحرير، بسبب ظروفه الصحية، نتمنى له الشفاء العاجل بالسلامة.
   عندما كنتُ طالبًا في إحدى جامعات روما، أتذكّر جيدًا في أولى أيام دراستي، عندما كان الأستاذ يحاول التعرّف علينا وعلى البلد الذي أتينا منه، تعجّب زملائي الطلاب، وهم من جنسيات مختلفة، أني كاهن من العراق، وأخذوا يسألونني بعد المحاضرة : وهل يوجد مسيحيون في العراق ؟ وهل أنتم مسيحيون بالأصل ؟ يواجه جماعتنا في المهجر أسئلةً من هذا النوع، وهي تشير إلى وجود ضبابية لدى دول الغرب في إدراك الوجود المسيحي في البلدان العربية التي تسودها أغلبية مسلمة.
   ويتبع سؤال مهم آخر، سُئلت عنه مراتٍ عديدة : وهل تستطيعون أن تعيشوا إيمانكم بحرّية ؟ ويعتبر الصليب واحدًا من التعابير التي نستخدمها للإجابة عن هذا السؤال : فنحن نعلّق الصليب على المرآة الداخلية لسياراتنا، ويلبس النساء والبنات الصليب على صدورهن، وتضع بعض البيوت صلبانًا منيرة على السطوح ليلة عيد الصليب، ولا زالت صلبان الكنائس تنير سماء بغداد وأماكن أخرى… إلخ.
   وأول ما قام به أبطالُ الإيمان، كهنة وشباب مؤمنون، بعد طرد داعش من قراهم، هو إعادة الصليب فوق قبب كنائسهم، ونصب صلبان أخرى على التلال، دلالة على الرغبة في استعادة الوجود المسيحي هناك.
   كان الصليب ولا يزال ” علامة ” تشير إلى المسيحي، كما رافق الله شعبه من خلال علامات : قوس قزح علامة على العهد الأبدي الذي قطعه الله مع شعبه من خلال نوح بعد انتهاء الطوفان (تكوين 12:9-17)، عمودا الغمام والنار اللذان رافقا الشعب خلال مسيرته إلى أرض الميعاد (خروج 21:13-22)… إلخ. وعندما ولد يسوع في مغارة بيت لحم، قال الملاك للرعاة : ” إليكم هذه العلامة : ستجدون طفلاً مقمطًا مضجعًا في مذود ” (لوقا 12:2) فأصبح الطفل يسوع هو ” العلامة ” لوجود الله معنا (عمانوئيل)
   ولكن، كل علامة خارجية لا بدّ أن يرافقها فعلٌ داخلي يتوافق معها ؛ فالصليب مصدر فخر للمسيحي كما يقول مار بولس : ” أمّا أنا فمعاذَ الله أن أفتخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح !” (غلاطية 14:6)، لذلك لا يستحي من البشارة باسم المسيح، كما يقول في رسالته إلى أهل روما : ” فإني لا أستحيي بالبشارة، فهي قدرة الله لخلاص كلّ مؤمن ” (16:1)
   وهنا أدعو قرائي الكرام ليراجعوا حياتهم معي في ضوء هذا السؤال : هل نستحي من مسيحيتنا وصليبنا ؟ إن منطق المسيحية يخالف منطق العالم في جوانب عديدة ؛ فالعالم يسوده منطق الأقوى بينما تبنّت المسيحية منطق الأكثر خدمة إلى درجة النـزول لغسل الأرجـل، العالـم يسعى أن ” يمتلك ” أكثر أما المسيحية فتسعى أن ” تكون ” أكثر، العالم يجد سعادته في إشباع رغباته والمسيحية تجد كمالها في تحقيق هدف الملكوت، العالم يرفض الألم ويخلقه في آخرين أما المسيحية فتعيش الألم وتسحبه من الآخرين لتتبناه فيها وتحوّله إلى حياةٍ جديدة… هذه الإختلافات وغيرها، هل تجعلنا نستحي من مسيحيتنا ؟ هل نستحي من العالم ؟ هل نستحي أن نخالف منطقه ؟
   إن المسيحي إنسان ذو شخصية قويّة مختلفة عن العالم، ولا بدّ أن يكون مختلفًا لكي يكون مسيحيًا، فحتّى نظرته إلى الحياة تختلف : فبينما ينظر العالم بيأس إلى مستقبله بسبب الأزمات والصراعات، يرى المسيحي العالم مكانًا لا يزال المسيح يولد ويحقق فيه خلاصه، لأنه ببساطة يرى بعيون الله الذي خلق هذا العالم ورأى جميع ما صنعه ” فإذا هو حسن جدًا ” (تكوين 31:1)
   يصل منطق المسيحي أحيانًا إلى درجة الجنون، وهذه قمة الحبّ الذي عاشه المسيح على الصليب، كما يقول رسول الأمم : ” فإن لغة الصليب حماقة عند الذين يسلكون سبيل الهلاك، وأما عنـد الذين يسلكـون سبيـل الخلاص، أي عندنا، فهي قدرة الله ” (1 كور 18:1).
فلنبحث عن ما هو أساس خلاصنا : صليب ربّنا !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى