الافتتاحية

كيف رأى الرسلُ يسوعَ القائمَ من بين الاموات ؟ العدد (49)

كيف رأى الرسلُ
يسوعَ القائمَ من بين الاموات ؟ 

الايمان بقيامة يسوع

نحتفل بعيد القيامة المجيد هذا العام في مطلع الأسبوع الثاني من شهر نيسان. إن قيامة يسوع من بين الأموات هي البند المركزي من قانون الإيمان المسيحي.
يستند هذا الإيمان إلى ما ورد في الأسفار المقدسة مرارًا عديدة، مؤكدةً أن يسوع ” من بعد تألمه أرى نفسه حيًّا “ (أعمال 3/1).
لا بُدَّ ان نتساءل : كيف رأى الرسـل والمؤمنون الأولون يسـوعَ القائمَ من بين الأموات ؟ هل شاهدوه كما كانوا يشاهدونه خلال حياته الأرضية، حينما كان يسير في طرقات فلسطين، وحينما كان يعظ في المجامع والسـاحات أو عندما كان يتناول الطعام معهم ؟ وهل رأوه كما كانوا يرونَ سـائر الناس الذين يلتقونهم خلال حياتهم اليومية في البيوت وفي الأماكن العامة ؟
نود الردَّ على هذه التساؤلات في إفتتاحية هذا العدد الأول من أعداد سنة 2007.

حقيقة رؤية الرسل ليسوع المسيح القائم من بين الأموات
بعد مـوت يسـوع المسـيح وقبـل ظهوراته، نرى الرسل خائفين ومختبئين، كما يشهد الإنجيلي يوحنا قائلاً : ” وفي مساء ذلك اليوم، يوم الأحد، كان التلاميذ في دارٍ أُغلقت أبوابها خوفًا من اليهود “ (يوحنا 19/20).
ولكن بعد ظهورات يسوع لهم، نراهم يعلنون إيمانهم بقيامـة يسـوع بشجاعة ويشهدون لها بحماسـة، محتملين الآلام والسجن حتى الموت. لقد أظهر يسـوع نفسه حيًّا لهم بعد قيامتـه، واختبروا أنه حيّ وحاضر بينهم، وسمعوه يرسلهم إلى التبشير، وراحوا يعلنون ما اختبروه.
قد يُقدِم شخص ما على الهوس لأمر غيـر حقيقي تخيّله، ولكـن لا يُعقل ان يُقـدِم الرسـل كلهم والتلاميـذ وسـائر المؤمنيـن به كلّهم على الشـهادة وسط العذابات وحتى الموت، إن لم يكونوا قد اختبروا هذا الأمر اختبارًا أكيدًا، يستحق الموت من أجل إعلانه، وبالفعـل ختموا كلهـم هـذه الشـهادة بدمائهـم، وهـذه الشهادة المختومة بالدم ضمان لمصداقيتها وتستحق كل الثقة.
لا نجد في الأسفار المقدسة وصفًا لحدث القيامة، يقتصر التلاميذ على تأكيد وقوع هذا الحدث كحقيقة ثابتة اختبروها ويشهدون لها حتى المـوت، كما يقـول القديس بولس في رسالته الأولى لأهل قورنثس التي كتبها عام 56م :
” سـلّمتُ إليكم قبـل كل شـيء ما تسلمتُه أنا أيضًا، وهو أنَّ المسـيح ماتَ من أجـل خطايانا كما وردَ في الكتب، وأنه قُبِرَ وقامَ في اليوم الثالث كما وردَ في الكتب، وأنه تراءى لصخر فالإثني عشـر، ثم تراءى لأكثر من خمسـمائة أخ معًا لا يـزال معظمهم حيًّا وبعضهم ماتوا، ثـم تراءى ليعقـوب، ثمَ لجميـع الرسل، حتى تراءى آخر الأمر لي أيضًا أنا السقط “ (1 قورنثس 3/15-11).
هل كانت رؤية الرسل ليسوع مشاهدة مادية ؟
لم تكن ظهـورات يسـوع لتلاميـذه ترائيات مادية، فلم يكن بإمكان الرسل أن يروا يسـوع القائم من بين الأموات بأعين الجسد، كما كانوا يشاهدون الناس الذين يلتقونهم خلال حياتهم اليومية، ولا كما كانوا يرون يسوع سابقًا خلال حياته الأرضية. لم تكـن هذه الرؤية مشـاهدة مادية يمكن إلتقاطها بآلة تصويـر، ولم يكن بإمكان إنسان غير مؤمن أن يشاهد يسوع الحي القائم من بين الأموات.
حينما يظهر يسوع للرسل، مجتمعين كانوا أو على إنفراد، فإنهم لا يعرفونـه للوهلة الأولى، فلقد ظنت مريمُ المجدلية أنه البستاني الذي كان يحـرس المقبـرة (يوحنا 15/20)، وظنّ الرسل أنهم رأوا روحًا (لوقا 37/24)، وكذلك الأمر بالنسبة إلى تلميـذَي عماوس (لوقا 16/24) ؛ فلم تكـن معرفـة يسـوع التاريخية كافيـة ليتعرفوا إليه.
إذن كان على المسـيح أن يعـرّف نفسه لهم بنفسه، لأن أبعاد الفصح تفوق أذهان الرسل وقابلياتهم البشرية، فلكي يتمكنوا من معرفته كانوا في حاجة إلى علامـات يعطيها يسـوع لهـم، وهـذه العلامات كانت تزوّدهم بإستنارة روحية تفتح أذهانهم لكي يروا يسـوع حاضرًا أمامهم.
إن عبارة الإنجيلي يوحنا عن نفسه تختزل هذه الحقيقة : ” فرأى وآمن “ (يوحنا 8/20)، فماذا كانت العلامـات التي رآها وجعلته يؤمن ؟ حينما دخل القبر، كان جسد يسوع غائبًا، وكانت اللفائف ممدودة، والمنديل الذي كان حول رأسه على شكل طوق، كل شيء في مكانه عدا جثمان يسـوع، رأى يوحنـا هـذه العلامات فآمـن، وكذلك عرفـه تلميـذا عماوس حينما ” أخذ الخبـز وبارك ثم كسـرَه وناولهمـا، فانفتحـت أعينهمـا وعرفاه… “ (لوقا 30/24-31).
ولكـن لفهم هـذه العلامـات، كـان ضـروري توفّرَ قلـبِ مريم المجدليـة المحِب، وذهـنِ يوحنـا المتأمِل وعقـلِ تلميـذَي عماوس المُنتبه.

تحول جوهري في حالة يسوع بعد القيامة
ليست قيامة يسـوع المسيح من بيـن الأموات عودة إلى الماضي، فليست هي إسـتعادة لحياته الأرضية السابقة، ولكنها فصحٌ، أي عبور، كما تعني هذه الكلمة، أي إنتقال من نمط الحياة الأرضيـة التي يحدّها الزمان والمكان، إلى حياة المجـد التي تتخطى قيود الحياة الزمنيـة، إذ لم يعد جسده الممجد محصـورًا في المكان والزمان، ولكن بإمكانه أن يكون حاضرًا في أي مكان وأي زمان يشاء (متى 9/28، 16-17 ؛ لوقا 15/24، 36 ؛ يوحنـا 14/20، 19، 26 ؛ 4/21).
هناك فرق جوهري بين قيامة يسوع المسيح من بين الأمـوات وبين قيامـة الأشخاص الذين أنهضهم يسوع من رقاد المـوت، أي قيامـة ابـن أرملة نائيـن (لوقا 11/7-17) وقيامـة ابنـة يائيـرس (متى 18/9-26)، وقيامـة لعازر (يوحنـا 1/11-44) ؛ إن قيامة هؤلاء هي نـوع من الإنعـاش، إنها عـودة إلى الحيـاة الأرضية السـابقة، إذ عليهم أن يرجعوا ويموتوا ثانيةً، بينما يسـوع لن يمـوت أبدًا، كما يقول القديـس بولـس : ” ان يسوع القائم من بيـن الأموات لن يموت بعدُ ولن يتسلط عليه الموت “ (رومية 9/6).
ففي اللحظة التي دخـل فيها يسـوع المجدَ الأبدي، غاب عن أعيننا البشرية الأرضية الزمنية، لذا لم يعـد في إمكان مريم المجدلية أن تلمسـه (يوحنا 17/20)، فحينما قال لها يسـوع خلال ظهوره لها ” لا تلمسيني “، أراد أن يعبّـر لها عن التغيير الذي طرأ عليه بالنظر إلى إنتقاله إلى الآب، وهذا سيؤدي إلى نوع جديد من العلاقات معنا، لذا لم يعد في إمكان البشر لمسه أو رؤيته بالنمط نفسه الذي كان التلاميذ ومعاصروه يرونه به خلال حياته الأرضية.
ما معنى هذه المشاهدة ؟
لم يكن إيمان الرسل ناتجًا عن وهم، أي إنهـم تخيّلوا يسـوع قائمًا من بيـن الأموات، فآمنوا بما تخيلوه، وانتهى بهم الأمر أن يروا ما تخيلوه.
تؤكد الوقائع عكس ذلك، فإنهم شكّوا بقيامة يسوع إزاء الوقائع، أي أمام القبر الفارغ (يوحنـا 6/20-7) وأمـام شـهادة النسوة (مرقس 11/16 ؛ لوقا 11/24) وأمام ظهورات يسوع لهم (لوقا 37/24) ؛ وذلك لأن قيامة يسوع من بين الأموات حدث فريد في التاريخ، لم يسـمع أحد بحدوث نظيره فيما مضى، فكيف كان في إمكان الرسل أن يتخيلوه ؟
لقد آمن الرسل بقيامة يسوع لأنهم رأوه حيًا وسمعوه يتحدث إليهم، وموقف توما أبلغ مثال على ذلك، فإنه لم يؤمـن بيسـوع القائم إلاّ بعدما رآه، لذلك قـال له يسـوع : ” لأنك رأيتنـي آمنـتَ “ (يوحنا 29/20).
هناك تفسـير لترائي الله لإبراهيـم، نقرأه في كتابات الفيلسوف اليهودي فيلون الإسكندري (13ق.م.-54م)، يقول فيـه : ” ليس إبراهيم هو الذي رأى الله، بل إن الله هو الذي أرى نفسه لإبراهيم “(*).
كذلك الأمر بالنسـبة إلى ظهـورات يسوع القائم من بين الأموات، إذ لم يكن الرسـل هم الذين شاهدوا يسـوع، ولكن المسيح هو الذي أظهر ذاته لهم وجعلهم يرونه ويسمعونه، كما تقول الآية الآنفة الذكر ” من بعد تألمّه أرى نفسـه حيًّا “ (أعمال 3/1). أظهر يسوع الحي نفسه لمن شاء، وأسـمع صوته لمن شـاء، وحجب هذه الرؤية وهذا السماع عن من شاء، كما قال القديـس بطرس : ” …. وآتاه (الله) أن يُظهِر نفسه، لا للشعب كله، بل لشـهود قد اصطفاهم الله من قبـل… “ (أعمال 37/10-43) ؛ وفي ظهوره للقديس بولس على طريق دمشـق، يقول سـفر أعمال الرسل، إن مرافقي بولس ” سمعوا صوتًا، لكنهم لم يروا أحدًا “ (أعمال 7/9).
إستمرار وتجدّد
إن يسـوع القائم من بيـن الأموات، والواقف أمام الرسـل ليس يسوعًا آخر، ولقاؤه لا يحدث في الحُلم وفي المنام، لذا يشير إلى أوصافه الجسدية وإلى جروحه ليؤكد لهم إنه هو نفسه : ” أنظروا يديَّ ورجلـيَّ، إنـي أنـا هـو بنفسـي… “ (لوقا 39/24) ؛ إن معنى عبارة ” الجسد “ في الكتاب المقدس لا تعني الجسم المادي، بل الشخص كله، وهذا يعني أن يسوع أراد أن يؤكد حضوره الحقيقي بين الرسل والمؤمنين به عِبر الأجيال ؛ ولكن اسلوب حضوره قد تغيّر، فإنه حضـور يتخطّى المكان والزمان.
التطويبة الأخيرة : أما بالنسبة إلينا، فإن يسـوع يهنّئنـا قائلاً لنا التطويبـة الأخيرة الواردة في الإنجيل، لأننا نؤمن مـن دون أن نرى، قائـلاً : ” طوبـى للذين يؤمنون ولم يروا “ (يوحنا 29/20). فـلا يقـوم الإيمان بعـد اليـوم علـى المشاهدة، بل على شهادة الذين عاينوا، وبهذا الإيمان يدخل المسيحيون في اتحاد وثيق بالمسيح القائم من بيـن الأموات، مختبريـن حضـوره من خلال خبـرة روحيـة، وعلامـات حضـوره هـي : الأسـفار المقدسـة، الكنيسـة المقدسـة وأسرارها السبعة. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى