القراءات الكتابية الطقسية
قضية وصليب العدد (27)
قضية وصليب
الاب يوحنا عيسى
داس الثلاثاء الاول بعد عيد القيامة
فأجابَهُ أحدُهُما، واسمُه كَليوباس : (( أأنـتَ وحدَكَ
غريبٌ في أورشـليم فلا تَعرِفُ ما حـدَثَ فيهـا هـذِهِ
الأيّام ؟! )) فقالَ يسوع (( ماذا حدَث ؟ )) قالا لَه : (( ما حدَثَ ليَسوع الناصري وكانَ نبيًّا قديرًا في القولِ والعَمَلِ عِندَ الله والشَّعبِ كُلّهِ، كيفَ أسلَمَهُ رُؤساءُ كَهَنتِنا وزعماؤُنا للحُكمِ علَيهِ بالمـوتِ، وكيفَ صَلبـوهُ وكُنّا نأملُ أنْ يكونَ هو الذي يُخلّصُ إسـرائيلَ. ومعَ ذلِكَ، فهذا هو اليومُ الثالـثُ لتِلكَ الأحـداث التي وقعَت. لكنَّ بعضَ النساءِ منْ جَماعَتِنا حَيَّرننا، لأنّهُنَّ زُرنَ القبرَ عِندَ الفجـرِ، فما وجَدْنَ جسَدَهُ، فرَجِعْنَ وقُلْنَ إنّهُنّ شاهَدْنَ ملائِكَةً ظهَروا لهُنَّ وأخبروهُنَّ بأنّهُ حَيٌّ. فذهب بَعضُ رفاقِنا إلى القبرِ، فوجَدوا الحالَ على ما قالتِ النِّساءُ. وأمّا هوَ، فما رأوهُ )).
فقالَ لهُما يَسوعُ : (( ما أغباكُمـا وأبطأكُمـا عَـن الإيمانِ بكُـلِّ ما قالـهُ الأنبياءُ ! أمَا كانَ يَجبُ على المَسيحِ أنْ يُعانيَ هذِهِ الآلامَ، فيَدخُلَ في مَجدِهِ ؟ )) (لوقا 18/24-26).
لقاء وحوار بين مجهول وبين هذيـن التلميذين بشأن الأمور التي حدثت ليسوع المسيح في أورشليم.
وفيما يُسمّي الإنجيلي التلميـذ الأول باسمه الخاص كليوباس، لا يأتي على ذكر التلميذ الآخر. فقد يكون كل واحد منا : أنا وأنتَ وأنتِ.
وفي هذا المقطع نفسـه، يعبّر هذان التلميذان، في البدايـة، عن إيمانهمـا ورجائهما بيسوع المسـيح قبل القيامة، إذ رأوا فيه ذاك النبي القدير بالقول والعمـل وذاك المحرر القومي، الأرضي والسياسي للشعب اليهودي الرازح تحت نير الإحتلال الروماني.
ولكن سـرعان ما خابت آمالهمـا العريضة والكبيرة المعلّقة عليه، بعد أن كابد آلام الصليب ولاقى هذا الموت المريع، المـوت على الصليب، غير مصدّقين أقاويل النسـوة اللواتي قلن إنه حيّ وأكّدها بعض التلاميذ، إذ لو كان المسـيح حيـًا لرآه التلاميذ، تلك كانت المعضلة الكبرى التي واجهها التلاميذ والرسل.
وفيما يؤكد المسيح على وجوب مكابدته هذه الآلام طريقًا إلى المجد، تبـرز بجلاء، في هذا المقطع، صورتـان عن المسيح، الصورة التي حملهـا اليهود والرسل والتلاميذ على حد سواء، صورة مسيح قومي، أرضي وسياسي، مسيح يحرر اليهود من ربقة الاستعمار الروماني ويخضع لهم كل ممالك الدنيـا كي يسـودوا عليها، والصورة التي رسمها المسيح عن ذاته، صورة مسيح متألم ولكن ممجد، هذه الصورة التي شق على الكنيسة قبولها ردحًا طويلاً من الزمن.
* * *
وهنا يطرح المرء هذا السؤال الرئيسي والأساسي : ولكن لماذا الألم في حياة المسيـح. وهو البـار والقـدوس ؟ هل كان الألـم من أجـل الألـم أم انه هـو الذي بحث عنه كمتعة ليس غير؟
من الواضح أن المسـيح لم يشـأ ولم يبحث عن الألـم بل تحاشاه وتجنّبه، إذ إنه شر ويظل كذلك.
ولكن إذ أتاه نابعًا من قضيتـه أو مفروضًا عليه بسببها، فقد قبلـه وحملـه وتحمّله بفـرح الحـب، فـرح صليـب الحـب، إذ كـان حامـل قضيـة ذلك أن كل حامـل قضية هو حتمـًا حامل صليـب، سـواء كانت هذه القضيـة موضـوعًا ذات محتـوى إنسـاني أو اجتماعي أو ديني كتحريـر شعب ما.
ومن أجل هذه القضية، أرسـله الله أبوه وكرّس لها كل طاقاتـه وحياتـه، وقد ظل أمينًا لها إبّان كل التجارب والملمّـات والشدائـد التـي تعـرّض لها، والتي لم تثنه ولم تزعزعه عن أمانته لرسالته، بل انتصر وتغلـب عليها مثـل تجربة المـال والسـلطة والجاه وغيرها.
وما قضية المسيح سوى قضية ملكـوت الله، طريقًا إلى خلاص الإنسان وتحريـره وخلقه من جديد عبر الإيمان والتوبة والولادة الجديدة، لكيما يغدو ابنـًا له وأخًا ليسوع المسيح وعضوًا حيًا وفعالاً في هذا الملكوت حيث سعى المسيح إلى إشراك الناس فيه من خلال نشـره بالتعليم والعمل المقـرون بغفران الخطايا مسـتخدمًا لذلك سلطته التي منحها إياه الله أبـوه، ألا وهي سـلطة التعليم والعمل وغفران الخطايـا … بذلك صار المسيـح واحدًا والواحد كثيرين، شـأن كل أصحـاب القضيّة الذيـن يحاولون إشـراك الآخرين فيها.
إلا أن هذا الملكوت لا يمكن فهمه بمثابة سيادة دنيوية أو أرضية، وإنما بمثابة حكـم أو سيادة إلهية على البشر، من خلال سيادة وانتصار قيم الحب والعدل والحق والسلام والأخوة والرحمة والحنان. فحيث هذه القيم، يسود الملكوت، وحيث يسود الملكوت، هناك يسود الله. يكتب القديس بولس إلى أهل رومية قائلاً : (( فما ملكوت الله طعام وشراب، بل عدل وسلام وفرح في الروح القدس )) (روم 17/14).
* * *
لئن كان طقسنا الكلداني لا يذكر صراحة، لا في صلاة عيد الصليب
ولا في أسابيع الصليب الأربعة، ملكوت الله بمثابة قضية المسيح، إلا أنه
يشير بقوة، في العديد من النصوص، إلى أن صلب المسيح وموته كانا
من أجـل قضيـة، ألا وهي قضيـة خـلاص الجميـع (الحوذرا الجزء الثالث ص 318)، خـلاص كل الخـلائق (الحوذرا الجزء الثالث ص 545)، وخلاصنـا (الحوذرا الجزء الثالث ص 333)، وقد صار المسيح ذبيحة عوضًا عن جنسنا (الحوذرا الجزء الثالث ص 312).
ومن المعروف أن لفظة الملكوت و(( الحياة )) التي يسـتعملها يوحنـا وكـذلك لفظـة (( البِر )) الواردة لدى بولس، هذه الألفاظ الثلاث مرادفة للفظة (( الخلاص )).
وفي الوقت الذي يؤكّد على عمل الصليب الخلاصي الذي حققه في الماضي، فهو يشدد أيضًا على هذا العمل في الحاضر.
وفي هذا الصدد لدينا العديد من النصوص التي تتحدث عما أنجزه المسيح عبر الصليب من أجل العـالم والكنيسة ومن أجلنـا. إذ به، قتل الموت، وأبطـل الخطيئـة وسلطان المـوت، وكذلك الحروب والاضطـرابات، وأقـام جنسـنا، وصالح العالم مع مرسله، وخلص الكنيسة وصنع السلام وحرر المسكونة وحررنا من استعباد الشيطان، وغلب الموت وخلصنـا منه، وفدى العالم من الموت وغفر ذنوبنـا، وطرد وبدّد الظلمة وبذلك نقلنا من حال إلى حال، من حال الظلمة إلى حال النور.
إلا أن عمل الصليب الخلاصي ليس عملاً من أعمال الماضي فحسب، وإنما هو عمل آني وحاضر، إذ به تتم الغلبة على الشياطين ويسقطون، وبه تبطل قوة الضلال ونتغلب على الشيطان ويبطل.
* * *
إذا كانـت قضيـة المسـيح قضيـة ملكـوت الله ونشـره على هذه الأرض، هذه القضية التي من أجلها عاش وحمل صليب الحب ومات، فإننا نشاهد إنتقالاً واضحًا في التركيز من ملكوت الله إلى المسيح، وذلك منذ فجر الكنيسة الأولى، إذ راح المسيحيون الأولون يبشّـرون ويعلنون ويشـهدون للمسيح الناهض، الحي والحاضـر في كنيسته. وهما سّيان، فالتبشير بالمسيح تبشير بملكوت الله.
ولا يمكن أن تكون قضّية المسيحيين اليوم، والحالة هذه، سوى المسيح
القضية، هذه القضية التي يتطلب حملها، ولا شك، الصليب، إذ لا قضية من دون صليب كما إنه لا صليب من دون قضية، فالقضيـة والصليـب وجهـان ترابطـان إرتبـاطًا عميـقًا ووثيقًا.
ولما كنا أصحـابَ وحاملي هذه القضيـة، فلا بد أن نحمل هـذا الصليب بمعنـاه السـلبي والإيجابي أي البـذل والهـوان والإضطهاد والعذاب والألـم وكذلك النكران والتضحية إلى حد بذل الذات، طريقـًا الى الخلاص والبناء.
ففي الحب يكمن الخلاص بمعناه الشمولي، ولا خلاص خارجًا عنه سواء كان على الصعيـد الإيماني أو على صُعـدٍ أخرى. كما إنه به بنيت وما زالت تبنى الجماعـات المسيحية، شأن الأمم والشعوب والأوطان، على أيدي كل أولئك الذين حملوا وما زالـوا يحملون الحب الحقيقي، الصافي والشامل، على غرار الحب الذي حمله يسوع المسيح والذي قال عنه : (( ما من حب أعظـم من هذا : أن يضحّي الإنسان بنفسه في سـبيل أحبائه )) (يوحنا 13/15). إن بذل الذات هذا هو، ولا شك، أسمى أنواع الحب وعند حدوده تقف حدود الحب.
فلا الأنانية ولا النزعة المادية، التي أخذت تسود عالمنا وتطغي على مجتمعنا، أقامتا يوما أو هما قادرتان على بناء كنيسة أو مجتمع أو وطن ما.
ومن حسن الحظ إن المقدّرين اليوم أيضًا سواء في الكنيسة أو المجتمع ليسوا الأنانيين أو الماديين، وإنما كل أولئـك الذين يحملـون مثل هذا الحب في قلوبهـم، إلى جانب صفات إنسانية أخرى.
وكي نكون أصحـاب هذه القضية حقـًا ونستحقهـا فعلا، علينا أن نعرفها ونكتشفها بعمق، ليتسنى لنا حملها إلى الآخرين سعيًا إلى نشـرها وإشراكهـم فيها، وبالتالي حمل فـرح صليـب الحب الذي تتطلّبه هذه القضيّة.
الاب يوحنا عيسى
داس الثلاثاء الاول بعد عيد القيامة
فأجابَهُ أحدُهُما، واسمُه كَليوباس : (( أأنـتَ وحدَكَ
غريبٌ في أورشـليم فلا تَعرِفُ ما حـدَثَ فيهـا هـذِهِ
الأيّام ؟! )) فقالَ يسوع (( ماذا حدَث ؟ )) قالا لَه : (( ما حدَثَ ليَسوع الناصري وكانَ نبيًّا قديرًا في القولِ والعَمَلِ عِندَ الله والشَّعبِ كُلّهِ، كيفَ أسلَمَهُ رُؤساءُ كَهَنتِنا وزعماؤُنا للحُكمِ علَيهِ بالمـوتِ، وكيفَ صَلبـوهُ وكُنّا نأملُ أنْ يكونَ هو الذي يُخلّصُ إسـرائيلَ. ومعَ ذلِكَ، فهذا هو اليومُ الثالـثُ لتِلكَ الأحـداث التي وقعَت. لكنَّ بعضَ النساءِ منْ جَماعَتِنا حَيَّرننا، لأنّهُنَّ زُرنَ القبرَ عِندَ الفجـرِ، فما وجَدْنَ جسَدَهُ، فرَجِعْنَ وقُلْنَ إنّهُنّ شاهَدْنَ ملائِكَةً ظهَروا لهُنَّ وأخبروهُنَّ بأنّهُ حَيٌّ. فذهب بَعضُ رفاقِنا إلى القبرِ، فوجَدوا الحالَ على ما قالتِ النِّساءُ. وأمّا هوَ، فما رأوهُ )).
فقالَ لهُما يَسوعُ : (( ما أغباكُمـا وأبطأكُمـا عَـن الإيمانِ بكُـلِّ ما قالـهُ الأنبياءُ ! أمَا كانَ يَجبُ على المَسيحِ أنْ يُعانيَ هذِهِ الآلامَ، فيَدخُلَ في مَجدِهِ ؟ )) (لوقا 18/24-26).
لقاء وحوار بين مجهول وبين هذيـن التلميذين بشأن الأمور التي حدثت ليسوع المسيح في أورشليم.
وفيما يُسمّي الإنجيلي التلميـذ الأول باسمه الخاص كليوباس، لا يأتي على ذكر التلميذ الآخر. فقد يكون كل واحد منا : أنا وأنتَ وأنتِ.
وفي هذا المقطع نفسـه، يعبّر هذان التلميذان، في البدايـة، عن إيمانهمـا ورجائهما بيسوع المسـيح قبل القيامة، إذ رأوا فيه ذاك النبي القدير بالقول والعمـل وذاك المحرر القومي، الأرضي والسياسي للشعب اليهودي الرازح تحت نير الإحتلال الروماني.
ولكن سـرعان ما خابت آمالهمـا العريضة والكبيرة المعلّقة عليه، بعد أن كابد آلام الصليب ولاقى هذا الموت المريع، المـوت على الصليب، غير مصدّقين أقاويل النسـوة اللواتي قلن إنه حيّ وأكّدها بعض التلاميذ، إذ لو كان المسـيح حيـًا لرآه التلاميذ، تلك كانت المعضلة الكبرى التي واجهها التلاميذ والرسل.
وفيما يؤكد المسيح على وجوب مكابدته هذه الآلام طريقًا إلى المجد، تبـرز بجلاء، في هذا المقطع، صورتـان عن المسيح، الصورة التي حملهـا اليهود والرسل والتلاميذ على حد سواء، صورة مسيح قومي، أرضي وسياسي، مسيح يحرر اليهود من ربقة الاستعمار الروماني ويخضع لهم كل ممالك الدنيـا كي يسـودوا عليها، والصورة التي رسمها المسيح عن ذاته، صورة مسيح متألم ولكن ممجد، هذه الصورة التي شق على الكنيسة قبولها ردحًا طويلاً من الزمن.
* * *
وهنا يطرح المرء هذا السؤال الرئيسي والأساسي : ولكن لماذا الألم في حياة المسيـح. وهو البـار والقـدوس ؟ هل كان الألـم من أجـل الألـم أم انه هـو الذي بحث عنه كمتعة ليس غير؟
من الواضح أن المسـيح لم يشـأ ولم يبحث عن الألـم بل تحاشاه وتجنّبه، إذ إنه شر ويظل كذلك.
ولكن إذ أتاه نابعًا من قضيتـه أو مفروضًا عليه بسببها، فقد قبلـه وحملـه وتحمّله بفـرح الحـب، فـرح صليـب الحـب، إذ كـان حامـل قضيـة ذلك أن كل حامـل قضية هو حتمـًا حامل صليـب، سـواء كانت هذه القضيـة موضـوعًا ذات محتـوى إنسـاني أو اجتماعي أو ديني كتحريـر شعب ما.
ومن أجل هذه القضية، أرسـله الله أبوه وكرّس لها كل طاقاتـه وحياتـه، وقد ظل أمينًا لها إبّان كل التجارب والملمّـات والشدائـد التـي تعـرّض لها، والتي لم تثنه ولم تزعزعه عن أمانته لرسالته، بل انتصر وتغلـب عليها مثـل تجربة المـال والسـلطة والجاه وغيرها.
وما قضية المسيح سوى قضية ملكـوت الله، طريقًا إلى خلاص الإنسان وتحريـره وخلقه من جديد عبر الإيمان والتوبة والولادة الجديدة، لكيما يغدو ابنـًا له وأخًا ليسوع المسيح وعضوًا حيًا وفعالاً في هذا الملكوت حيث سعى المسيح إلى إشراك الناس فيه من خلال نشـره بالتعليم والعمل المقـرون بغفران الخطايا مسـتخدمًا لذلك سلطته التي منحها إياه الله أبـوه، ألا وهي سـلطة التعليم والعمل وغفران الخطايـا … بذلك صار المسيـح واحدًا والواحد كثيرين، شـأن كل أصحـاب القضيّة الذيـن يحاولون إشـراك الآخرين فيها.
إلا أن هذا الملكوت لا يمكن فهمه بمثابة سيادة دنيوية أو أرضية، وإنما بمثابة حكـم أو سيادة إلهية على البشر، من خلال سيادة وانتصار قيم الحب والعدل والحق والسلام والأخوة والرحمة والحنان. فحيث هذه القيم، يسود الملكوت، وحيث يسود الملكوت، هناك يسود الله. يكتب القديس بولس إلى أهل رومية قائلاً : (( فما ملكوت الله طعام وشراب، بل عدل وسلام وفرح في الروح القدس )) (روم 17/14).
* * *
لئن كان طقسنا الكلداني لا يذكر صراحة، لا في صلاة عيد الصليب
ولا في أسابيع الصليب الأربعة، ملكوت الله بمثابة قضية المسيح، إلا أنه
يشير بقوة، في العديد من النصوص، إلى أن صلب المسيح وموته كانا
من أجـل قضيـة، ألا وهي قضيـة خـلاص الجميـع (الحوذرا الجزء الثالث ص 318)، خـلاص كل الخـلائق (الحوذرا الجزء الثالث ص 545)، وخلاصنـا (الحوذرا الجزء الثالث ص 333)، وقد صار المسيح ذبيحة عوضًا عن جنسنا (الحوذرا الجزء الثالث ص 312).
ومن المعروف أن لفظة الملكوت و(( الحياة )) التي يسـتعملها يوحنـا وكـذلك لفظـة (( البِر )) الواردة لدى بولس، هذه الألفاظ الثلاث مرادفة للفظة (( الخلاص )).
وفي الوقت الذي يؤكّد على عمل الصليب الخلاصي الذي حققه في الماضي، فهو يشدد أيضًا على هذا العمل في الحاضر.
وفي هذا الصدد لدينا العديد من النصوص التي تتحدث عما أنجزه المسيح عبر الصليب من أجل العـالم والكنيسة ومن أجلنـا. إذ به، قتل الموت، وأبطـل الخطيئـة وسلطان المـوت، وكذلك الحروب والاضطـرابات، وأقـام جنسـنا، وصالح العالم مع مرسله، وخلص الكنيسة وصنع السلام وحرر المسكونة وحررنا من استعباد الشيطان، وغلب الموت وخلصنـا منه، وفدى العالم من الموت وغفر ذنوبنـا، وطرد وبدّد الظلمة وبذلك نقلنا من حال إلى حال، من حال الظلمة إلى حال النور.
إلا أن عمل الصليب الخلاصي ليس عملاً من أعمال الماضي فحسب، وإنما هو عمل آني وحاضر، إذ به تتم الغلبة على الشياطين ويسقطون، وبه تبطل قوة الضلال ونتغلب على الشيطان ويبطل.
* * *
إذا كانـت قضيـة المسـيح قضيـة ملكـوت الله ونشـره على هذه الأرض، هذه القضية التي من أجلها عاش وحمل صليب الحب ومات، فإننا نشاهد إنتقالاً واضحًا في التركيز من ملكوت الله إلى المسيح، وذلك منذ فجر الكنيسة الأولى، إذ راح المسيحيون الأولون يبشّـرون ويعلنون ويشـهدون للمسيح الناهض، الحي والحاضـر في كنيسته. وهما سّيان، فالتبشير بالمسيح تبشير بملكوت الله.
ولا يمكن أن تكون قضّية المسيحيين اليوم، والحالة هذه، سوى المسيح
القضية، هذه القضية التي يتطلب حملها، ولا شك، الصليب، إذ لا قضية من دون صليب كما إنه لا صليب من دون قضية، فالقضيـة والصليـب وجهـان ترابطـان إرتبـاطًا عميـقًا ووثيقًا.
ولما كنا أصحـابَ وحاملي هذه القضيـة، فلا بد أن نحمل هـذا الصليب بمعنـاه السـلبي والإيجابي أي البـذل والهـوان والإضطهاد والعذاب والألـم وكذلك النكران والتضحية إلى حد بذل الذات، طريقـًا الى الخلاص والبناء.
ففي الحب يكمن الخلاص بمعناه الشمولي، ولا خلاص خارجًا عنه سواء كان على الصعيـد الإيماني أو على صُعـدٍ أخرى. كما إنه به بنيت وما زالت تبنى الجماعـات المسيحية، شأن الأمم والشعوب والأوطان، على أيدي كل أولئك الذين حملوا وما زالـوا يحملون الحب الحقيقي، الصافي والشامل، على غرار الحب الذي حمله يسوع المسيح والذي قال عنه : (( ما من حب أعظـم من هذا : أن يضحّي الإنسان بنفسه في سـبيل أحبائه )) (يوحنا 13/15). إن بذل الذات هذا هو، ولا شك، أسمى أنواع الحب وعند حدوده تقف حدود الحب.
فلا الأنانية ولا النزعة المادية، التي أخذت تسود عالمنا وتطغي على مجتمعنا، أقامتا يوما أو هما قادرتان على بناء كنيسة أو مجتمع أو وطن ما.
ومن حسن الحظ إن المقدّرين اليوم أيضًا سواء في الكنيسة أو المجتمع ليسوا الأنانيين أو الماديين، وإنما كل أولئـك الذين يحملـون مثل هذا الحب في قلوبهـم، إلى جانب صفات إنسانية أخرى.
وكي نكون أصحـاب هذه القضية حقـًا ونستحقهـا فعلا، علينا أن نعرفها ونكتشفها بعمق، ليتسنى لنا حملها إلى الآخرين سعيًا إلى نشـرها وإشراكهـم فيها، وبالتالي حمل فـرح صليـب الحب الذي تتطلّبه هذه القضيّة.