الافتتاحية

عيد الصليب الظافر العدد (47)

عيد الصليب الظافر



إحتفالات عيد الصليب
تحتفل الكنائس المسيحية كافّة في أربعة أقطار المعمورة بعيد كبير من أعيادها في الرابع عشر من شهر أيلول من كل سنة، ألا وهو ” عيد الصليب المقدس “.
تقام بهذه المناسبة مراسيم دينية مهيبة أثناء القداديس وإبان الصلوات الطقسية التي تُرفع مساءً وصباحًا في المعابد والأديار، ويرفع المؤمنون صلبانًا كهربائيـة على واجهات دورهم، ويطلقون الألعاب الناريـة الزاهية في الهـواء، وينشـرون مشاعل ملتهبة على السطوح.
ان الجذور التاريخية لهذا العيـد موغِلة في القِدم، ترتقي إلى القـرن الميلادي الرابع والسـابع، وذلك من خـلال الأحداث التاريخيـة الثلاثة الآتيـة : عثـور الإمبراطورة هيلانة على خشبة صليب المسيح، بناء مجمّع كنيسة القيامة من قبل إبنها الملك قسطنطين واستعادة ذخيرة الصليب من الفرس في القرن السابع.
الملكة هيلانة تكتشف عود الصليب المقدس

بعدما اهتـدت الإمبراطـورة هيلانة، والـدة الملك قسـطنطين الكبير عاهـل الإمبراطورية الرومانية، إلى المسيحية، قامت بعد عشرين عامًا من تنصّرها بحج إلى الأراضي المقدسة في فلسطين في شتاء عام 326، وكانت قد بلغت الثمانيـن من عمرها. فأمرت، حال وصولها إلى أورشليم القدس، بالقيـام بتنقيبات مكثّفـة أشرفت عليها بنفسـها، بحثًا عن ذخائر المسـيح، وبعد جهد كبير أسـفرت هذه التحريات عن العثور على عود صليب يسوع المسيح.
بناء مجمّع كنيسة القيامة
إهتدى الإمبراطور قسطنطين نفسـه إلى المسيحية، وشيّد مجمّعًا كنائسيًا فخمًا في أورشليم – القدس، يشـتمل على كنيستين كبيرتين، إحداها على الجلجلة حيث نُصب صليب يسوع وسميت بِـ ” بيت الشهداء “ Martyrium ، والأخرى على قبر المخلّص وسميت بِـ ” القيامة “ Anastasis. وتم تكريس وإفتتاح الكنيستين بتاريخ 13 أيلـول عام 333، في إحتفال مهيـب دعا المـلك قسطنطين إليه عشـرات المطارنة الملتئمين بمجمعٍ في مدينة صور.
الإحتفال السنوي بعيد إرتفاع الصليب
وفي اليوم التالي لتكريس وتدشين مجمّع كنيسة القيامة، الموافق 14 أيلول عام 333، سُمح للجماهير المسيحية الدخول إلى الكنيسـة، حيث إكتحلت عيونهم للمرّة الأولى بمشاهدة الخشبة المقدّسة، التي عُلق عليها المخلّص يسـوع، وقاموا بزيارة القبر المقدّس.
قرر آباء مجمـع صور إقامة إحتفال سـنوي في القدس الشريف، في الرابع عشر من شهر أيلول من كل سنة، إحتفاءً بذكرى إرتفاع الصليب المقدّس وذكرى تكريس كنيسـة القيامة. ومـن مدينة أورشـليم إنتقل هذا العيد إلى سـائر أنحاء العالم المسيحي.
تذكر السائحة الافرنجية إيجاريا في كتابها ” يوميات رحلة “، الذي كتبته عام 384م، معلومات قيّمـة عن الاحتفـالات التي كانت تقام في مدينة أورشليم بعيد الصليب، بدءً ا بيوم 14 أيلول وتدوم إسبوعًا كاملاً(1).
الفرس يستحوذون على خشبة الصليب المقدّس
قام الفرس عام 614 بغزو فلسطين واحتلال أورشليم – القدس، ونهبوها، وكانت خشـبة الصليب من جملة الغنائم التي أخذوها ونقلوها معهم إلى مدينـة قطيسفون المشيّدة على ضفة نهر دجلة، عاصمتهم الشـتوية، تسمى اليوم بِـ ” سلمان پاك “ في محافظة المدائن القريبة من بغداد.
الإمبراطور هيرقليوس يستعيد خشبة الصليب
بقيـت ذخيرة الصليـب في حـوزة الفرس حتى قام الإمبراطـور البيزنطي هيرقليوس بهجوم كاسح على الفرس وهزم جيوشهم، وإنتصر على كسرى الثاني عام 628، وحمل ذخيرة الصليب إلى القسطنطينية، ومن ثم أعادها إلى أورشليم في 3 أيار عـام 630 ؛ فأُضيفت ذكـرى انتصار هيرقليوس واستعادة ذخيـرة الصليب إلى الذكريات الأخرى التي يُحييها عيـد الصليب المقـدّس، أي ذكـرى العثور على خشبة الصليب، وتدشين كنيسة القيامة.
جديـر بالذكر انه توجد كنيسة في روما، يرتقي عهـد بنائها إلى عام 340م، إسمها ” بازيليكا الصليب المقدس “ ؛ شُيّد في هذه الكنيسة معبد خاص، توجد فيه خزانة زجاجية تحتوي على ثلاث قطع من الصليب المقدس داخل أذرع صليب من البرنز.
أبعاد الصليب المقدّس الروحية تحتفل الكنيسة بعيـد الصليب المقـدّس لتعبّر عن أبعـاده الروحية في حيـاة المؤمنين، ونحـاول هنا إختزالها في النقـاط الآتيـة : الصليب رمز الخـلاص، الصليب علامة الخلاص والصليب وسيلة الخلاص.
الصليب رمز الخلاص
سنّت الكنيسـة قوانين تقتضي رفـع الصليب المقدّس على المذابح أثناء إقامة القداس الإلهي، وبهذا تذكّرنا بما قام به موسـى في صحراء سـيناء، حينما رفع حيّة من نحاس ووضعها على سارية، فكان كل إنسان لدغته حيّة ونظر إلى الحيّة النحاسية يُشفى ويحيا (العدد 4/21-9).
أكّد يسوع نفسـه أن هذه الحيّة النحاسـية التي رفعها موسى لم تكن الاّ رمزًا ليسوع المصلوب ولصليبه حينما قال لنيقوديموس : ” كما رفع موسـى الحيّة في البريّة، فكذلك يجب ان يُرفع إبنُ الإنسان، لينال كل من يؤمن به الحياة الأبدية “ (يوحنا 14/3-15).
الصليب علامة الخلاص
رُفعت علامة الصليب على كل بقعـة من بقاع الأرض، وعُلقت على جدران بيوت المسيحيين وفي غرف المستشفيات المسيحية، وزيّنت صدور المؤمنين، لأنها علامة الخلاص.
إن الصليـب علامة الخلاص لكل الناس المسمّرين على صليب المرض والشـقاء، فعلى هؤلاء ان يرفعوا أنظارهم إلى صليب يسوع ليتذكّـروا دومًـا أن أوجـاعهـم وشدائدهم ليسـت عقابًا وقصاصًا على ما إقترفـوه من خطايا، بـل جـزءً ا مـن صليـب يسـوع الخلاصـي ؛ إنها حصّتهـم مـن صليب يسـوع. كما يقول القديس بولـس : ” علـيّ ان أكمـل في جسدي ما ينقص من آلام سيدنا يسوع المسيح “ (قولسي 24/1).
الصليب وسيلة الخلاص
الصليـب هو الطريـق الذي يوصـل إلى الخلاص وإلى المجـد السـماوي، فلا طريق آخر يُبلغ إلى مجد السماء، عدا الطريق الذي سلكه يسوع المسيح، أي طريق الآلام وطريق الصليب.
لم يأتِ يسوع ليزيل الألم من حياتنا بل ليقدّسه بحضوره، ولم يأتِ ليفسّر الألم بل ليعلّمنا كيف نحتمله.
فهم المسيحيون هذه الحقيقـة، لذلك أحبّوا الصليـب وآلام الصليب، فراحـوا يتأمّلونها تأملاً عميقًا إلى درجة أنها طُبعت في أجسام بعض منهم، أمثال القديس فرنسيس الأسيزي والقديس پيو وغيرهم.
الخاتمة : مفهوم رسم علامة الصليب
إن عيد الصليب فرصة ثمينة لنجدّد حرارة تقوانا، حينما نرسم علامة الصليب على ذواتنا، إذ علينا الاّ نرسمها أحيانًا بتسرع وبدون تفكير ؟
لنُعِد اكتشاف مفهوم هذه العلامة السامية التي نرسمها على أنفسنا مرات ومرات خلال النهـار : حينمـا نستيقظ صباحًا وحينما نأوي إلى الفراش، وقبـل تناول الطعام وبعـده، وقبل القيام بأعمالنا اليوميـة، كما يقـول كتاب ” التعليـم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية “ : ” يبدأ المسيحي نهارَه وصلواته وأعماله بإشـارة الصليب. ” بإسم الآب والابن والروح القدس. آمين “. ويُكرِّس المعمَّذ نهاره لمجد الله، ويستدعي نِعمَة المخلّص التي تمكّنه من أن يتصرّف في الروح كإبنٍ للآب. وإشارة الصليب تقوّينا في التجارب والمصاعب “ (الرقم 2158).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى