فكلمهم بأمثالٍ في أمورٍ كثيرة (99)
فكلمهم بأمثالٍ في أمورٍ كثيرة
(مثل الزَّارع متى ١٣: ١-٩)
إنجيل الأحد الثاني من ايليا
الأب هاني جرجيس
فكلَّمَهُم بالأَمثالِ على أُمورٍ كثيرةٍ قال: "هُوَذا الزَّارِعُ قد خرَجَ لِيَزرَع. 4وبَينما هو يَزرَع، وقَعَ بَعضُ الحَبِّ على جانِبِ الطَّريق، فجاءَتِ الطُّيورُ فأَكَلَتْه. ووَقَعَ بَعضُه الآخَرُ على أَرضٍ حَجِرةٍ لم يكُنْ له فيها تُرابٌ كثير، فنَبَتَ مِن وقتِه لأَنَّ تُرابَه لَم يَكُن عَميقًا. فلمَّا أَشرقَتِ الشَّمسُ احتَرَق، ولَم يكُن له أَصلٌ فيَبِس. ووَقَعَ بَعضُه الآخَرُ على الشَّوك فارتفعَ الشَّوكُ فخَنقَه. ووَقَعَ بَعضُه الآخَرُ على الأَرضِ الطَّيِّبة فأَثمَرَ، بَعضُه مِائة، وبعضُه سِتِّين، وبعضُه ثَلاثين. فمَن كانَ له أُذُنان فَلْيَسمَعْ !
يعد الإصحاح الثالث عشر من بشارة متى ذا أهمية خاصة في دلالته وفي نموذج التعليم الذي يقدم فيه، ونلاحظ عندما ندرس هذا الإصحاح:
- إنه يظهر تحولاً واضحًا في خدمة يسوع. ففي بداية خدمته كنا نراه يعلًم في المجامع. ولكننا الآن نراه يعلّم على شاطئ البحر. ولهذا التحول دلالته، فقد كانت أبواب المجامع في طريقها إلى أن توصد أمام السيد. لكن هذا لم يمنعه من أن يقدم دعوته للناس، لانه عندما أغُلقت أبواب المجامع في وجهه، وجد هيكل الهواء الطلق مجالاً للتعليم، فعلم الناس في طرقات القرى، وفي الطريق العام، وعلى ضفاف البحيرة، وفي البيوت.
- ما يثير الاهتمام في هذا الفصل أننا نرى فيه يسوع يبدأ يستخدم أسلوب الأمثال الذي يتميز به. ونحن نرى أن يسوع كان يستخدم نوعا من التشبيهات التي تقارب الأمثال، مثل تشبيه المؤمن بالملح والنور (٥: ١٣- ١٦)، وصورة طيور السماء وزنابق الحقل (٦: ٢٦- ٣٠)، وقصة الرجل الحكيم والرجل الجاهل وكيفية بناء بيتهم (٧: ٢٤- ٢٧) (…). كل هذه قريبة من الأمثال، فهي حقائق في صورة تشبيهات، لكننا في هذا الاصحاح نرى امثالاً واضحة[1].
لقد استخدم يسوع أسلوب الامثال، وهذا ما يقدمه الإنجيليون بوضوح، كأسلوب تعليمي مناسب ومفهوم من الشعب ومحبب من يسوع. لذلك من المهم أن نتطرق إلى ماهية المثل وقيمته الدينية، ومميزات استخدام هذا الأسلوب؟
أولاً: ما هو المثل؟
أطلقت الكنيسة الأولى تسمية "مثل" على كل قصّة قالها يسوع ليوضّح تعاليمه. ولكننا نجد في اللفظ اليوناني للكلمةparabole فكرة المقارنة. إذ تميل العقلية الشرقية إلى استعمال المقارنة في الكلام والتعليم، وتحبذ اللغز لأنه يثير الفضول ويحمل على البحث. وتعكس لنا الكتب المقدسة، ولا سيما أقوال "الحكماء" (أمثال ١٠: ٢٦، ١٢: ٤، قضاة ١٤) صدى تلك النزعات.
ومع ذلك، ليس هذا العنصر الجوهري لتفسير الأمثال، إذ علينا أن نفهم المثل كعرض تمثيلي لرموز، أي لصور مقتبسة من الحقائق الأرضية، لتعبّر عن الحقائق التي أوحى بها الله (التاريخ المقدس، الملكوت…) والتي تحتاج الى المزيد من الشرح العميق[2].
إن المثل هو رواية ذات صور تمكّن من تشخيص وضع ما من دون أن يُفصح عنه، لكي يتمكن المستمع أن يجد فيه وضعه الخاص […]. هكذا الحال في مثل الزارع: سنبحث عن معنى القصة، من دون أن نطرح السؤال ما هو نوع الزرع؟ من هو هذا الزارع؟ ففي المثل نبحث عن المقصود، أي المفهوم / المفتاح الذي يوجّه الفكر[3].
ثانيًا: قيمة الأمثال من الناحية الدينية:
يستخدم الأنبياء حقائق الحياة اليومية ليوضّحوا تعاليمهم في معنى التاريخ المقدس، ويجعلون منها مواضيع قائمة بحدّ ذاتها: الراعي، الزواج، الكرمة، ونجدها كلها في الأمثال المذكورة في الإنجيل.
يدور محور تلك التشبيهات المسهبة حول حبّ الله المجاني والعطوف من جهة، وتقاعس الشعب في جوابه من جهة أخرى (راجع إشعيا ٥، هوشع ٢، حزقيال١٦). أما في الإنجيل فتركز الأنظار على تحقيق ملكوت الله النهائي في شخص يسوع. ومن هنا نفهم الأهمية المعطاة لمجموعة الأمثال الخاصّة بالملكوت (راجع متى ١٣: ١-٥٠؛ ٢٠: ١-١٦، ١٢: ٣٣، ٢٢: ١٤، ٢٤: ٤٥، ٢٥: ٣٠)[4].
ثالثًا: مميزات استخدام أسلوب الأمثال
- المثل يجعل الحقيقة ملموسة، فمعظم الناس يفكّرون وهم يتصورون الأشياء والمعاني.
- الأمثال تبدأ بحقائق في متناول الناس واختباراتهم، ومن هذه المادة المعروفة للناس، تقودهم الأمثال إلى الحقائق التي لا يعرفونها وتفتح عيونهم لرؤية ما لم يكونوا ينظرونه.
- من مميزات الأمثال أنها تجبر الإنسان أن يكتشف الحقائق بنفسه، لأنها تتركه مع قصة وتطلب منه أن يفكر في الحقائق التي تحتويها.
- الأمثال أيضًا تخفي الحقّ عمّن يكون كسولاً وغير راغب في التفكير، أو متعصبًا غير راغب في الرؤية الصحيحة. فالمثل يضع المسؤولية على الفرد، فهو يكشف الحق لمن يريد أن يعرف، ويخفيه عمّن لا يرغب أن يرى.
- كانت أمثال يسوع منطوقة وليست مكتوبة، بمعنى أن أهميتها تكمن فيما تحمله من معانٍ عند سماعها مباشرة، وليست في المعاني التي يستخرجها الانسان بعد بحث ودراسة في التفاسير والقواميس.
خرج الزارع ليزرع
كانت هناك طريقتان لبذر البذور في فلسطين: الأولى أن يسير الزارع حاملاً كيس البذار ويأخذها بيده ويبذر في خطوط الأرض المعدّة للزرع. وفي هذه الحالة يمكن للريح، إذا كانت شديدة، أن تحمل البذار إلى مختلف الأماكن وربما خارج الحقل كله.
والثانية كان يستخدمها بعض الكسالى، وهي أن يضعوا كيس البذار على ظهر حمار، ويمزقون ثقبًا في زاوية الكيس، ويقودون الحمار وسط خطوط الزراعة، وتنزل البذار من الثقب. وفي هذه الحالة يمكن أن تتساقط البذار أثناء عبور الحيوان الطريق قبل وصوله إلى الحقل.
يقدّم لنا المثل أربعة انواع من التربة المستقبلة للبذار:
- كانت الحقول في فلسطين تقسّم إلى خطوط وشرائط ضيقة تُبذر فيها البذار، وعلى هذه الخطوط كان يجوز للناس أن يسيروا ويعبروا، لذلك كانت تصبح صلبة كالطريق بسبب كثرة مرور الأقدام عليها. واعتبر يسوع هذه الممرات طريقًا سقط عليها بعض البذار. وما يسقط من البذار عليها لا يمكن أن يخترق التربة، وكأنه سقط على الطريق العام تمامًا.
- المحجرة أرضٌ صخرية تغطيها طبقة رقيقة من التربة، وهذا النوع شائع الوجود في فلسطين.
- أما الأرض الممتلئة من الشوك، فهي أرض خادعة، لأن الزارع يرى وكأنها نظيفة وخالية من الشوك، لأن أصول الشوك مخفية في الأرض عند حرثها، ولكن عند نمو النبات، ينمو الشوك سريعًا فيخنق النبات.
- الأرض الطيبة لينة ونظيفة، يمكن للنبات أن ينمو ويأتي بثمر فيها.
يعتبر مثل الزارع من أهم الأمثال وأشهرها، وبالرغم من سهولة فهمه، يعطي يسوع تفسيرًا له (متى 13: 18- 23). ففي هذا المثل تحذير للسامعين، بأن هناك طرقًا متنوعة لسماع كلمة الله، وأن الثمر يتوقف على قلب الإنسان الذي يتقبل هذه الكلمة[5].
يتمحور هذا المثل حول مصير الزرع، بينما يركز "التفسير" اللاحق على نوعية الأراضي. وكان التقليد، قبل مرقس، يسترعي الانتباه مضيفًا: "من له أذنان، فليسمع"، أي يجب الانتباه، هناك ما يستخرج من هذا النص أكثر بكثير مما تظنون[6].
موقف الانسان من كلمة الله
- الكبرياء وعدم الرغبة في التعلّم، فلا يدرك الإنسان أنه محتاج للمعرفة. وقد يكون السبب هو الخوف من الحقّ ورفض المخاطرة في أساليب التفكير. وأحيانًا تكون رداءة الأخلاق عاملاً لإغلاق عقول الناس. لأن الحقّ يدين أنواع السلوك، لأنه يخالف رغباتهم وأشواقهم التي يحبونها ويتمسكون بها.
- هناك المستمع ذو العقل الخالي من العمق كالتربة الصخرية. مثل هذا المستمع لا يدرس الأمور بعناية بل ينساق سريعًا إلى كل جديد وينصرف عنه بسرعة أيضًا. وهناك كثيرون من هذا النوع: كثيرو الحماس ولكنهم يبدأون عملاً ولا يكملونه أبدًا، وهكذا موقفهم تجاه كلمة الله. فعندما يسمعونها سرعان ما يأخذهم الحماس والتجاوب والانفعال الشديد، ولكن الحياة لا يمكن أن تُؤسس على الانفعال فقط، فالإنسان عقل ومن واجبه أن يتعقل حقائق إيمانه ومسؤوليات هذا الإيمان.
- هناك مستمع آخر تمتلئ حياته بمشغوليات واهتمامات متعددة، حتّى أن أهم الأمور لا تجد لها مكانًا في حياته، فلا يجد وقتًا للصلاة ولا يتأمل بكلمة الله.
- وهناك المستمع الذي يشبه الأرض الجيدة، وفي تقبله للكلمة نرى أربع مراحل: فهو كالأرض الجيدة منفتح العقل، مستعد على الدوام أن يتعلم ويسمع، ليس متكبرًا ولا منشغلاً عن الاستماع، إذ كم من الناس الذين كانوا يتجنبون عددًا من المآسي لو أنهم استمعوا إلى نصيحة صديق حكيم مخلص أو إلى صوت الله، وأخيرًا المستمع الجيد هو الذي يفكر ويتأمل فيما يسمعه ثم يترجمه الى أعمال فينتج ثمر الأعمال الصالحة[7].
[1] د. وليم باركلي، تفسير العهد الجديد متى ومرقس، المجلد الاول، دار الثقافة، القاهرة، ١٩٩٣، ص٢٦٥.
[2] معجم اللاهوت الكتابي، المكتبة الشرقية، بيروت-لبنان، ط٢، ١٩٨٨، ص٧٠٤.
[3] تر: الاب بيوس عفاص، الانجيل بحسب القديس متى، ص١٤٤.
[4] معجم اللاهوت الكتابي، المكتبة الشرقية، بيروت-لبنان، ط٢، ١٩٨٨، ص٧٠٥.
[5] د. وليم باركلي، تفسير العهد الجديد متى ومرقس، المجلد الاول، دار الثقافة، القاهرة، ١٩٩٣، ص٢٦٥-٢٦٧.
[6] تر: الاب بيوس عفاص، الانجيل بحسب القديس متى، ص١٤٦.
[7] د. وليم باركلي، تفسير العهد الجديد متى ومرقس، المجلد الاول، دار الثقافة، القاهرة، ١٩٩٣، ص٢٦٨.