الافتتاحية

عيد تهنئة العذراء مريم العدد (88)

عيد تهنئة العذراء مريم
   تحتفل كنيسة المشرق بعيد مريم العذراء بعد عيد ميلاد الرب يسوع مباشرةً، لتبيّن دورها في تدبير الخلاص ولتظهر مكانتها السامية في سر التجسد وأمومتها الإلهية وشفاعتها القديرة لأبنائها البشر.
   يحمل هذا العيد في كتاب الصلاة الطقسية خوٌدٌرًا طبعة الآثوريين العنوان الآتي : ” تذكار مريم والدة المسيح، ويقع في نهار الجمعة الثانية بعد عيد الميلاد، أو الجمعة الأولى إذا وافقت جمعة واحدة بين عيد الميلاد وعيد الدنح .
   يحتفل الكلدان بهذا العيد في اليوم الثاني من عيد الميلاد المجيد ويحمل العنوان الآتي ” عيد تهنئة والدة الله ” . يعكس هذا العنوان عاداتنا الشرقية التي تقتضي أن يزور الأهل والأقارب والأصدقاء الوالدة بمناسبة ولادة طفل جديد، مقدمين التهاني على سلامتها وعلى الهبة السماوية التي منحها إياها الله بهذا المولود الجديد.
قدمية هذا العيد
إن هذا العيد قديم جدًا، لا بل أقدم كل الأعياد المريمية الأخرى، لا بل أن المصادر القديمة تذكره وحده.
   يؤكد كتاب ” عرض الطقوس الكنسية ” الذي كتبه مؤلف مجهول في القرن التاسع : بأن البطريرك إيشوعياب الثالث (649-659) هو الذي قضى بأن يحتفل بهذا العيد بعد عيد الميلاد، لأن التدبير بدأ تحقيقه بمريم العذراء. وأمر أن يحتفل بعيد العذراء نهار الجمعة.
لأن حواء خلقت في هذا اليوم، ولأن العذراء مريم نقلت إلى السماء في هذا اليوم ذاته .
   إذا نسب المؤلف المجهول إختيار هذا العيد إلى البطريرك إيشوعياب الثالث، لا يعني هذا أن البطريرك مجدد الطقوس قد اخترعه من العدم، إذ ينسب إليه كذلك تأليف كتاب الصلاة لمدار السنة الطقسية (حوذرا) ورُتب القدّاس والعماذ والغفران . فإن هذه الرُتب موجودة قبل زمانه بكثير، إنما اختصر عمله على تنظيم وتنسيق بنيتها، لذا يمكننا القول بأن عيد العذراء مريم هذا يرتقي تاريخه إلى ما قبل القرن الميلادي السابع.
   يقدم كتاب ” جنَةٌ بوٌسًمٍْا = جنة النعيم ” من القرن العاشر شروحات لقراءات الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، التي تتلى خلال القداس عبر السنة الطقسية، وقد استقى تفسيراته من مصادر قديمة سبقته، إنه يذكر عيدًا مريميًا واحدًا وهو العيد الذي يحتفل به بعد الأحد الأول من عيد الميلاد .
   تجدر الإشارة إلى أن هذا العيد هو العيد المريمي الوحيد الذي تذكره مخطـوطات الإنجيـل الطقسـي خوٌدٌرًا التي استنسخت خلال القـرون الميلادية الآتية : الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر .
أهمية معاني هذا العيد اللاهوتية
   حينما تخصص كنيستنا عيدًا خاصًا لمريم العذراء حالاً بعد عيد الميلاد فإنها بهذا تبين مكانتها المتميزة في تاريخ الخلاص من خلال الأمور الآتية :
1- دور مريم العذراء في سرّ التجسد.
2- دور مريم العذراء في سرّ الفداء والخلاص.
3- دورها في حياتنا المسيحية.
دور مريم العذراء في سرّ التجسد
   لم يكن دور العذراء مريم في سر التجسد مجرد آلة غير ناطقة، تنفذ الأوامر التي تلقتها، بدون وعي وبدون إشتراك الإرادة. ولكنها إشتركت في سرّ التجسد إشتراكًا واعيًا منذ اللحظة الأولى… وذلك حينما أرسل الله الملاك جبرائيل إليها ليبشرها باختياره لها لكي تصبح أمًا للمسيح… وطالبًا رضاها لكي تشترك بحرية تامة. وفعلاً بعدما شرح لها الملاك كيف سيتم سرّ التجسد، بحلول الروح القدس عليها أعلنت رضاها وقبولها إرادة الرب بكل حرية قائلةً : ” ها أنا امة الرب فليكن لي كقولك “…
فقبلت الحبل الإلهي، وتجسد إبن الله في أحشائها، وأصبحت أم يسوع الذي هو في الوقت نفسه إله وإنسان.
2- إشتركت مريم في سرّ الفداء
   لم يقتصر دور مريم العذراء على سرّ التجسد، ولكن أدّت هذا الدور الواعي طيلة حياتها وحياة إبنها الخلاصية. خلصنا يسوع من خلال حياته وموته : ذهابه إلى الهيكل منذ صغره، إجتراحه المعجزات، شفائه المرضى، إقامة الموتى، مواعظه الخلاصية، آلامه الفادحة، وموته وقيامته.    شاركت العذراء مريم في كل مراحل حياة يسوع. فإننا نجدها بين الحين والآخر إلى جانب يسوع، حينما هرب إلى مصر وعاد منها، حينما ضاع في هيكل أورشليم، حين دُعي يسوع وتلاميذه إلى عرس قانا الجليل… إننا نراها خاصة ترافقه خلال آلامه الخلاصية. وخاصةً في ساعاته الأخيرة وهو معلق على الصليب… يمكننا أن نتصور كم كان ألمها شديدًا، وهي ترى يسوع يتألم على الصليب وينازع، ودون شك لقد ظهر يسوع لها بعد قيامته المجيدة.
3- دورها في حياتنا
   لم ينتهِ دور مريم العذراء في خلاصنا بعد قيامة يسوع… فلقد أعطاها يسوع أمَّا لنا في أحرج وقت من أوقات حياته الأرضية، على الصليب، حينما قال للقديس يوحنا، وهو معلق على الصليب ” هذه أمُّكَ ” وقال للعذراء مريم ” هو ذا إبنكِ “. وبهذا أعطاها أمًا لنا.
   ونرى العذراء مريم مع الجماعة المسيحية الأولى يوم العنصرة، حينما كانت الكنيسة الأولى مجتمعة للصلاة، وحلّ الروح القدس عليهم.. فانطلقوا ليبشروا العالم.
   ولا زالت العذراء مريم تؤدي دور الأم مع أخوة إبنها، فهي تتشفع لتنال لهم النعم الضرورية لخلاصهم وهي ترافق خطواتهم لكي يكللوا مسيرة حياتهم الأرضية بالفضيلة والقداسة، ليلتحقوا بها وبإبنها يسوع في السماء.
   يتجلى دورها في حياتنا خاصةً حينما نقتدي بفضائلها : خاصة فضيلة الإستسلام لإرادة الله في كل ظروف حياتنا المسيحية والإنسانية، الظروف السهلة والمفرحة والظروف الصعبة وخلال المآسي والصعوبات.
وعلينا أن نكمل رسالتنا بوعي لتحقيق خلاصنا وخلاص الآخرين كما فعلت مريم العذراء.
   يا ما أحلى الترانيم التي تنشد يوم عيد تهنئة العذراء، نختار إحداها يصفها العلماء بعبارة ” أنشودة اللؤلؤة “، إنها تشرح تعاون مريم العذراء والكنيسة في خلاص العالم، فيما يأتي ترجمتها :
   ” قالت الكنيسة لمريم : تعالي ننطلق سويةً للتضرع إلى إبن رب الكل من أجل خلاص العالم، أطلبيه منه لأنك أنتِ أرضعته الحليب، أما أنا فسأتضرع إليه لأنه مزجَ دمه يوم عرسي، صلي إليه أنت بصفتكِ الأم وأنا بصفتي العروس، سيستمع دون شك إلى دعاء والدته وسيستجيب تضرع عروسه ” .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى