عيد الصليب المقدس العدد (83)
يتزامن صدور العدد 83 (2015/3) من مجلتكم ” نجم المشرق ” مع الإحتفال الذي تقيمه الكنائس كافة بعيد كبير من أعيادها، ألا وهو عيد الصليب المقدس، أو عيد إرتفاع الصليب ؛ فعلى الصعيد الكنسي تقام قداديس خاصة وصلوات طقسية، وعلى الصعيد الشعبي يضيء المسيحيون واجهات دورهم وسطوحها بالأنوار الساطعة.
شيء من التاريخ
ترتقي الجذور التاريخية لعيد الصليب إلى القرنين الميلاديين الرابع والسادس، إحياءً لذكرى الحدثين التاريخيين الهامين الآتيين :
كان الإمبراطور الروماني قسطنطين الكبير قد شيّد بناءً عظيمًا يشتمل على كنيستين كبيرتين : إحداهما على جبل الجلجلة والثانية على القبر المقدس.
تم إفتتاح وتكريس هاتين الكنيستين في 13 أيلول سنة 333 م. تذكر الرحالة الراهبة إيجيريا في كتابها ” يوميات رحلة ” الذي يرتقي إلى سنة 381-383، والتي أقامت في أورشليم مدة سنة، إشتركت فيها بالمراسيم المقامة في كنيسة القيامة وسجلت مشاهداتها، فتذكر أن الكنيسة قد نظمت إحتفالات مهيبة في الذكرى السنوية لهذا التكريس تدوم ثمانية أَيام، تجري خلالها مراسيم طقسية تبدأ بـ 14 أيلول(1).
كما أن هذا العيد يحيي ذكرى الحدث التاريخي الهام الآخر الآتي :
قام الفرس المجوس بغزو مدينة أورشليم ونهبها سنة 614 م، وكانت خشبة الصليب المقدس بين جملة الغنائم التي أخذوها ونقلوها معهم إلى مدينة قطيسفون الكائنة على نهر دجلة (سلمان باك حاليًا) وبقيت في حوزتهم حتى قام الإمبراطور الروماني هرقل بحملة ضد الفرس وهزم جيوشهم وانتصر على كسرى الثاني سنة 628 م وأَعاد ذخيرة الصليب المقدس إلى أورشليم سنة 631 م.
منذ ذلك الحين تحتفل الكنائس كافة بعيد إنتصار الصليب، الذي هو رمز وعلامة والوسيلة التي يتحقق بواسطته خلاصنا.
الصليب المقدس رمز خلاصنا
أَمرت الكنيسة المقدسة أن يرتفع الصليب المقدس على المذابح كلها حيثما يقام القداس الإلهي، هذا يذكرنا بما قام به موسى قبل أَكثر من ثلاثة آلاف سنة، حينما صنع حيّة من نحاس في صحراء سيناء ورفعها على سارية، فكان أَي إنسان لدغته حيّة نارية سامة ونظر إلى الحية النحاسية، يُشفى ويحيا. أكدّ يسوع نفسه أن هذه الحية لم تكن إلاّ رمزًا للمسيح المصلوب ولصليبه الحي، حين قال لنيقوديموس : ” كما رفع موسى الحية في البرية، كذلك يجب أن يرفع آبن الإنسان، لينال كل من يؤمن به الحياة الأبدية ” (يوحنا 14:3-15).
الصليب المقدس علامة خلاصنا
إن علامة الصليب المقدس رُفعت على كل بقعة من بقاع الأرض، ودخلت بيوت المسيحيين وزينت تيجان ملوكهم وصدورهم لأنها علامة خلاصنا.
إنها علامة الخلاص لكل الناس المصلوبين على صليب المرض والشقاء، أي الفقراء والمرضى والشيوخ والحزانى والمتضايقين…. فعلى هؤلاء أن يرفعوا أَنظارهم إلى صليب يسوع، ليذكروا دائمًا أَن أَوجاعهم ومآسيهم، ليست عقابًا أو قصاصًا، بل أنها حصتهم من صليب يسوع، كما يقول القديس بولس في رسالته إلى أهل قولسي : ” يسرني الآن ما أُعاني لأجلكم، فأُتِمَّ في جسدي ما ينقص من آلام يسوع في سبيل جسده الذي هو الكنيسة ” (قولسي 24:1).
فلا طريق يوصل إلى الخلاص والمجد السماوي، عدا الطريق الذي إِنتهجه يسوع… طريق الصليب ؛ كلما كانت حياة الإنسان أكثر تألمًا، كلما كانت أكثر تشبهًا بحياة يسوع المتألم، وكان مجد الخلاص ومجد السماء أعظم وأسمى، كما يقول القديس بولس في رسالته إلى أَهل روما : ” وأَرى أنَّ آلام الزمن الحاضر لا تعادل المجد الذي سيتجلّى فينا… ” (روما 18:8).
لقد فهم المسيحيون هذه الحقيقة، لذلك أحبوا الصليب وآلامَه، فراحوا يتأملون بها بعمق إلى درجة أن جروح يسوع المصلوب إنطبعت في أجسام بعضٍ منهم، أمثال القديس فرنسيس الأسيزي والقديس يوحنا فم الذهب والقديس پيو.
الصليب وسيلة خلاصنا
لا بُدَّ من الصليب في هذه الحياة الأرضية. لا يوجد أي إنسان قد أُعفي من حمل صليب المآسي والمصائب. هناك بعض الناس يواجهون صلبانهم بروح التذمر والتمرد، إن هذا الموقف لا يفيدهم شيئًا ولا يخفف من آلامهم، ولا يزيلها، بل على العكس من ذلك يزيدها ضراوة.
أما موقف المسيحيين المؤمنين من صلبانهم، فهو موقف إيمان… عليهم أن يتقبلوا هذه المآسي من يد الله باستسلام لإرادته ويحتملوها حبًا له. فإذا كانت فينا محبة الله والمسيح حقيقية، فإن إحتمالها يكون أسهل لأننا على قناعة أن هذه الآلام تتبدل مجدًا عظيمًا، كما تبدلت آلام يسوع على الصليب بمجد القيامة.