عطش يسوع (97)
عطش يسوع،
يروي عطش الإنسان
(يوحنا 1:4-34)
الأب هاني خميس جرجس(*)
الأحد الرابع من القيامة
ولَمَّا عَلِمَ يسوعُ أَنَّ الفِرِّيسِيِّينَ سَمِعوا أَنَّه اتَّخَذَ مِنَ التَّلاميذ وعمَّدَ أَكثَرَ مِمَّا اتَّخَذَ يوحَنَّا وعمَّدَ… وكانَ علَيه أَن يَمُرَّ بِالسَّامِرَة. فوَصَلَ إِلى مدينةٍ في السَّامِرَةِ يُقالُ لَها سيخارَة… وفيها بِئرُ يَعقوب. وكانَ يسوعُ قد تَعِبَ مِنَ المَسير، فَجَلَسَ دونَ تَكَلُّفٍ على حافَةِ البِئر. وكانَتِ الساعةُ تُقارِبُ الظُّهر. فجاءَتِ امرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ تَستَقي. فقالَ لَها يسوع : ((اِسْقيني))… فقالَت له المرأَةُ السَّامِريَّة : ((كَيفَ تسأَلُني أَن أَسقِيَكَ وأَنتَ يَهوديٌّ وأنا امرَأَةٌ سامِريَّة ؟)) لأنَّ اليَهودَ لا يُخالِطونَ السامِرِيِّين. أَجابَها يسوع : ((لو كُنتِ تَعرِفينَ عَطاءَ الله ومَن هوَ الَّذي يقولُ لَكِ : إسقيني، لَسَأَلِته أَنتِ فأَعطاكِ ماءً حَيّاً)). قالَت لَه المَرأَة : ((يــا ربّ، لا دَلْوَ عِندَكَ، والبِئرُ عَميقة، فَمِن أَينَ لَكَ المـاءُ الحَيّ ؟ أَجابَها يسوع : ((كُلُّ مَن يَشرَبُ مِن هذا الماء يَعطَشُ ثانِيَةً وأَمَّا الَّذي يَشرَبُ مِنَ الماءِ الَّذي أُعطيهِ أَنا إِيَّاه فلَن يَعطَشَ أَبدًا بلِ الماءُ الَّذي أُعطِيهِ إِيَّاهُ يصيرُ فيه عَينَ ماءٍ يَتفَجَّرُ حَياةً أَبَديَّة)). قالَت له المَرأَة : ((يا ربّ، أَعطِني هذا الماء، لِكَي لا أَعطَشَ فأَعودَ إِلى الاستِقاءِ مِن هُنا)). قالَت لَه المرأة : ((إِنِّي أَعلَمُ أَنَّ المَشيحَ آتٍ، وهو الَّذي يُقالُ لَه المسيح، وإِذا أَتى، أَخبَرَنا بِكُلِّ شَيء)). قالَ لَها يسوع : ((أَنا هو، أَنا الَّذي يُكَلِّمُكِ)). فتَركَتِ المَرأَةُ جَرَّتَها، وذَهبَت إِلى المَدينة فقالَت لِلنَّاس : ((هَلُمُّوا فَانْظُروا رَجُلاً قالَ لي كُلَّ ما فَعَلتُ. أَتُراهُ المَسيح ؟))…
(يوحنا 1:4-34)
في هذا المشهد يعلّمنا يسوع أهمية اللقاء والحوار مع الآخر متخطيًا كل العادات والتقاليد البالية، والخلافات التاريخية بين اليهود وأهل السامرة، ولمعرفة كمّ الصعوبات التي على يسوع أن يواجهها بسبب لقائه مع السامرية، علينا الرجوع إلى جذور الخلاف بين اليهود والسامريين(1).
تأسست السامرة على يـد الملك عمـري، ملك إسـرائيـل (886-875) ق.م. : " واشترى (عمري) جبل السامرة من شامر بربع قنطارٍ من الفضّة، وعليه بنى مدينةً سمّاها باسم شامر صاحب الجبل " (1 ملوك 24:16). وبقي الأسباط الإثنا عشر مرتبطين في مملكة واحدة حتى مات الملك سليمان، فحدثت بينهما مشاحنات ومخاصمات، خصـومة بين يهـوذا وأفـرايم (2 صم 4:2-9، 41:19-43). أدت هذه المخاصمات إلى انقسام المملكة إلى قسمين : حيث انحاز يهوذا وبينامين إلى رحبعام إبن الملك سليمان، ودَعَوَا مملكتهما بإسم يهوذا أو المملكة الجنوبية وعاصمتها أورشليم، وانحاز الأسباط العشرة الباقون إلى يربعام بن نباط، ودَعَوْا أنفسهم مملكة إسرائيل أو المملكة الشمالية وعاصمتها السامرة. وعن أصل السامريين وخلافهم مع اليهود نورد فقرتين :
1. هجّر الملك الآشوري سرجون الأسباط العشرة الذين عاشوا في شمال أرض إسرائيل عام 721 ق.م. (2 ملوك 6:17، 18-10)، ووضع بدلاً منهم شعوبًا أخرى أتت من بابل إلى هذه الأرض : " وجلب ملك آشور قومًا من بابل وكوث وعوّا وحماة وسفــروايـم وأسكنهــم مـدن السامـرة مكان بني إسـرائيـل، فــامتلكـوها واستــوطنـوها " (2 ملوك 24:17). وكـوت أو كـوث هـم السامريون. هكذا جاء ذكرهم في الكتاب المقدس.
2. نجد السامريين في فترة نحميا (حوالي 445 ق.م) عندما عاد اليهود إلى أرض إسرائيل من السبي البابلي وبنوا بيت المقدس (الهيكل) في أورشليم. عارض سنبلَّط الحوروني قائد السامريين آنذاك بناء الأسوار حول أورشليم الذي بدأ بها اليهود مع نحميا (نحميا 10:2).
في القرن الثالث الميلادي عاش الحاخام أباهو في مدينة قيصرية التي كان معظم مواطنيها من السامريين. واكتشف أن كثيرًا من السامريين لا يحفظون وصايا التوراة. لهذا السبب إجتمعت المحكمة العليا في الجليل وقرر اعضاؤها بأن السامريين ليسوا من اليهود.
من أين ينحدر السامريون ؟ السامريون ينحدرون من فئتين مختلفتين. أولاً : بقايا من الإسرائيليين الأصليين الذين لم يتم ترحيلهم عند سقوط المملكة الشمالية في العام 721 ق.م. ثانيًا : من المستعمرين الأجانب الذين أحضرهم إلى السامرة من بابل، الغزاة الآشوريون (مل 24:17).
أسباب العداوة بين السامريين واليهود :
1. رفض السامريين للعبادة في أورشليم، وبناء هيكل آخر على جبل جرزّيم في شكيم.
2. ساعد السامريون الملوك السوريين في حروبهم ضد اليهود.
3. بعد عودة اليهود من السبي البابلي أرادوا إعادة بناء الهيكل وإعمار أورشليم، وحاول السامريون إيقاف هذه المجهودات بالقوة (1:16-14).
4. قبل السامريون أسفار موسى الخمسة فقط ورفضوا كتب الأنبياء وكل التقاليد اليهودية.
5. أمـر عظيـم الكهنة اليهـودي بـإحـراق الهيكـل السامـري في جـرزّيم عام 128 ق.م.(2)
يسوع هو النبع الحي
إن حوار يسوع مع السامرية يذكرنا بمشاهد كتابية مختلفة تصوّر اللقاء على بئر، بيـن مسافـر تعب ونسـاء أتيـن ليستقين مـاء، مثل : خـادم إبـراهيم ورفقة (تك 11:24-27)، يعقوب وراحيل (تك 1:29-21)، موسى وبنات رعـوئيـل، كاهـن مديـان (خر 15:2-21)(3). يعلّمنا يسوع في هذا النص المقدس كيف نكلّم نفسًا خاطئة فندعوها إلى التوبة.
بدأ يسوع المسيح حديثه مع المرأة السامرية طالبًا منها أن تُعطيه ليشرب، فإذا بالحديث يتحوَّل بأن تطلب هي إليه أن يُعطيها لتشرب. حينما يفتح الله عيوننا لنعرف حقيقة أنفسنا ونتبيَّن عجزنا، نعرف أننا نحن المحتاجين إليه وإلى مراحمه.
ولكن، ما هو الماء الذي كانت تطلبه المرأة ؟ فإن كلمات المسيح تحمل دائمًا معنيين : معنىً ظاهريًا، وآخر روحيًا عميقًا خفيًا. وقد فهمت المرأة السامرية " الماء الحي " على أنه الماء الجاري الذي ينبع من ينبوع حي وهو غير ماء الآبار.
إن العهد القديم، يذكر دائمًا الماء والعطش مرتبطًا بالعطش والإرتواء الروحي، ولكن المرأة السامرية لم تدرك بعد المعنى الروحي، حيث أن قلبها لم يفتح بعد، فهي منحصرة فيما يخص الجسد.
وفي هذه المقالة، نرى التركيز على عطش يسوع " أعطني لأشرب ". إنه طلب ينضح بالمفارقة الصارخة، ينبوع ماء الحياة يطلب أن يشرب من ماء بئر مُعطِش ومن يد امرأة جفَّ منها الحياء. لكن مفارقات الله مع الإنسان تقف دائمًا أبدًا لحساب الإنسان. فالله دائمًا يحتاج إلينا ليعطينا، لينتشلنا من واقع بائس ومظلم وهذا ما حدث مع المرأة السامرية(4).
يطلب المسيح المخلّص جميع البشر، النساء كما الرجال. ولهذا لا يمكنه أن يصرف نظره عن هذه السامرية لأنها إمرأة، لم يتقيد يسوع بكثير من تقاليد شعبه، فيأنف مقابلة النساء. لم يبالِ يسوع المسيح بهذه الفواصل أو الخلافات التاريخية، بل فتح الحديث مع السامرية بطلبه أن تسقيه.
إن الذي ساقه إلى هذا الطلب ليس عطشه إلى الماء، بل عطشه إلى تخليص هذه النفس الهالكة. وهذا الطلب من معلم يهودي فيه التنازل والإكرام لها، كأنه يفتقر إلى ما تستطيع هي أن تعطيه، فأعطى بذلك نموذجًا في كيفية جذب النفوس. لم يطلب يسوع المسيح الماء من المرأة السامرية لاحتياج شخصي، وإنما ليكشف لها عن احتياجها هي إليه فتشرب وترتوي من ينابيع نعمته الغنية.
ويعلق القديس أوغسطينوس " ماذا تعني " أنا عطشان " ؟ إني أتوق إلى إيمانك. ذاك الذي سأل أن يشرب كان في عطشٍ إلى إيمان المرأة نفسها ". فطعام المسيح وشرابه هو اجتذاب النفوس ليخلصها كما تنبأ إشعيا " يبرر عبدي البار الكثيرين وهو يحتمل آثامهم " (أشعيا 11:53).
تصف المزامير عطش الإنسان لله مثل العطش إلى الماء " كما يشتاق الأيل إلى مجاري المياه كذلك تشتاق نفسي إليك يا الله " (مزمور 2:42)، وقد دُعي الله " ينبوع الحياة " (مزمور 9:36) أو " ينبوع المياه الحية " (إرميا 13:17)، وبقوله إنه معطي الماء الحي الذي يروي إلى الأبد عطش الإنسان لله.
لقد ارتوى عطش المسيح بإيمان السامرية، وأخرجها من خصوصيتها إلى العمل التبشيري، والسامرية قبلت الكلمة بالإيمان لا بالمعجزات. إلتقى بها المسيح، فجذبت مدينة بأسرها في لحظات قليلة وقادتهم إلى مخلص العالم، واليوم هل لقاؤنا بإخوتنا حاضرٌ فيه المسيح فيروي عطشنا ؟ أم لقاء للحكم والتحقير ؟
إن عطش يسوع ترويه توبة الخاطئ وعودته إلى الله، فعند الله نجد الماء الحي. عطش يسوع يرويه فتحُ آفاق العبادة والخلاص أمام كل البشر وفي كل مكان، فلا تتعلق العبادة بشعب ولا بمكان معيّن. لقد أظهر يسوع عمليًا شمولية العبادة " في الروح والحق " التي جاء يؤسسها، ولأجل ذلك أعلنها أمام إمرأة سامرية خاطئة، خارج حدود الديانة اليهودية، ليعلمنا كيفية التعامل مع الخاطئ.
لقد قلب يسوع الطلب الذي طلبه عند حافة البئر، ليعرض عليها الماء الحي لتطفئ عطشها، فأعطاها الإيمان لتخرج نحو المسيح في لقاء ينتشلها من الخطيئة نحو الخلاص. إن يسوع يدعونا لاكتشاف عطش آخر ونبعٍ آخر، يريد أن يقدم نفسه على أنه النبع الحي الذي يروي عطش الإنسان الحقيقي. ونحن بدورنا علينا أن نقدم ونشهد للمسيح في العالم، فنجذب إليه كل إنسان عطشان للتوبة والخلاص.
الهوامش :
(*) الأب هاني خميس جرجس، مصري الجنسية، مواليد 1985/5/15، أنهى دراسته في معهد التربية الدينية بالسكاكيني في القاهرة سنة 2009، دخل معهد شمعون الصفا الكهنوتي البطريركي في أربيل / العراق عام 2012. رُسِم كاهنًا يوم 2018/5/15 على أبرشية القاهرة الكلدانية على يد البطريرك لويس روفائيل ساكو. حصل على بكالوريوس في اللاهوت من كلية بابل الحبرية للفلسفة واللاهوت. بعد السيامة الكهنوتية، عُيّن راعيًا لكاتدرائية سانت فاتيما للكلدان بالقاهرة وبقي فيها بضعة شهور ثم إنتقل للخدمة في الأبرشية البطريركية ببغداد.
(1) بولس فغالي (الخوري)، دراسات وتأملات في إنجيل يوحنا، دراسات بيبلية 2، الرابطة الكتابية، لبنان، 1992.
(2) اغابيوس أبو سعدي ب.م. (الارشمندريت)، عطش الله، دراسة في الشخصيات اليوحناوية، الفكر المسيحي بين الأمس واليوم 38، ط 1، لبنان، 2014.
(3) بولس فغالي (الخوري)، دراسات وتأملات في إنجيل يوحنا.