طوبى لفاعلي السلام العدد (50)
(متى 5 / 9)
أعداءٌ أم إخوة ؟
منذُ سنواتٍٍ عديدة نعاني من حالة فقدان الأمن وغياب السلام، فلقد قاسينا من ويـلات الحروب مـا لم نقرأ لـه مثيلاً في تاريخنا، ولا حتى في تاريخ الشـعوب الأخرى، فلقد استشهد آلاف الشباب وقُتل العديد من النخبة المثقفة، ودُمرت البُنى التحتية وانتشر الفقر بين الناس، مما دفع آلاف المواطنين إلى هجرة بلدهم.
إمتلأت آذان المواطنين من الخطب الرنانة والبيانات التي تصدر عن المؤتمرات، تحـاول كلهـا تحديد أسباب هذه النزاعات، وتقديم الإقتراحات لوضع حدٍ لهذه المآسي، ولكن دونَ جدوى.
فما سبب تعثر هذه الجهود ؟ نعتقد أن سـبب ذلك يكمـن فـي المفـاهيم الناقصة والخاطئة التي يمتلكها العـالم عن السلام، لذا فالوسائل التي يُلجأ إليهـا لتحقيق السـلام لا تُكلل بالنجاح وتبقى الأوضاع على حالها.
وعد يسـوع تلاميـذه أن يمنحهـم سلامه قائلاً : ” السَّلامَ أَستَودِعُكم، وسَلامي أُعْطيكم، لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العـالَم، فـلا تَضْطَرِبْ قلوبُـكم ولا تَفْزَعْ “ (يوحنا 27/14)، نسـتشـف من كلام يسوع أن سلامه يختلف تمامًا عن السـلام الذي حاول العـالم تقديمه للبشر دون جـدوى، وأن في إمكـان سـلام المسـيح وحده توفير الأمـان والطمأنينة له.
نـود فـي إفتتـاحيّة هـذا العـدد استعراض بعض مفـاهيم السـلام التي يحملها العالم، ومحاولة تقديم السلام بحسب منظور يسـوع، ونتحدث أخيرًا عن كيفية إسـهامنا نحن في بناء عالم مسالم.
السلام وفقَ منظور العالم
نسـتعرض بعُجالـة بعضـًا مـن المفاهيم الناقصة والخاطئة التي يحملها العالم عن السلام :
* السـلام هو نـوع من الهـدوء والسـكينة اللـذَين ينشـدهمـا البعض لأنفسهم، متهرّبين من الآخرين بقولهم : ” دعوني وشأني “
* السلام هو القبول عن اضطرار بنوع من الوجود الهادئ مع الآخرين، أو القبـول على مضض بنـوع مـن التعايش السـلمي مع الآخرين، خشـيةَ نشوب نزاعات أو خصومات.
* السلام هو القبول بنوع من توازن القوى، خشيةَ زرع الرعب والإرهـاب، إذا مـا تخطّت خطوطـًا حمراء معينة.
* السـلام هـو غيـاب الحـرب، وحلـول الهدنة والإتفـاق على وقـف مؤقت للأعمال القتالية.
* السلام هو ثمرة توازن عَرَضي ومؤقت ناتج عن خليط من التهديدات والإغراءات وتبادل المصالح.
* السـلام هو المحـافظة علـى وضعية حالة متوترة سائدة في بلدٍ ما، خشـيةَ الإنزلاق إلى مـا هو أخطر، كالإقتتال.
* السـلام هو فرض نظـام معيّن بالـقوة والعنف بحيث لا يمكـن لأحد تعدّيه، خوفًا من العقوبات.
* أخيرًا وليس آخرًا، هناك سلام المقابر، حين يلجأ البشر إلى التصفيات الجسدية والأدبية لإسكات الخصوم.
يعتقد العالم أنّ في إمكـانه بلـوغ السـلام، إنطلاقًـا من هـذه المفـاهيم الخـاطئة، إلا انه لا يحقق شـيئًا من ذلك، لأن أسـس هذا السـلام ليسـت صادقة، فالسـلام الذي ينشده العالم هو سـلام مزيّف، كما يقول النبي إرميا : ” إنهم لا يُداوونَ جرح شَعبْي، يَعِدون بسَلام لا وجودَ لهُ “ (إرميا 14/6).
السلام وفقَ منظور المسيح
إن السلام في الكتاب المقدس عطيّة إلهية ؛ والله الذي له السلطان والهيبة يمكنـه أن يُجري السـلام كمـا قـال المزمّر : ” الرَّبُّ يُؤتي العِزّةَ شَعبَه، الـرَّبُّ يُبـارِكُ بِالسَّـلام شـَعبَه “ (المزمور 11/29) ؛ وهذا ما أكده يسوع في الآيـة آنفـة الذكـر : ” السـلامَ أسـتودعكـم، سلامي أُعطيكم “ ؛ لذا يتمكن الإنسـان الحصـول علـى هذه العطية السـامية بالصلاة المفعمة ثقة.
يسمّي النبي إشعيا المسيح الموعود بـ ” رئيس السلام “ (إشعيا 5/9)، فمنذ ولادتـه بشـّر المـلائكـة بهـذا السلام مرتّلين : ” المَجدُ للهِ في العُلى ! وعلـى الأرضِ السَّـلام “ (لوقا 14/2).
وضع يسوع السلام بين البشر حينما أزال العداوة بينهم، وجعلهم أبناء الله وأخوة، كمـا قال القديس بولس : ” أمَّا الآن ففي المسيحِ يَسوع أنتُمُ الَّذينَ كـانوا بالأَمْسِ أَباعِدَ، جُعِلتُم أَقارِبَ بِدَمِ المسيح، فإنه سلامنا، فقد جعل من الجماعتين جماعة واحدة “ (أفسس 13/2-14).
لا يعني مفهوم السـلام في الكتاب المقدس حالة اللاحرب، ولكنه يتضمن الإنسجام وملء الخيرات التي يحتاجها الإنسان، أي الصحة والرفاه والنجاح والسعادة والإزدهار الفردي والجماعي، وفي العلاقة الصحيحة مع الله، التي تظهر ثمارها في العلاقات الإجتماعية العـادلة. هذا هو المثـال الأعلى الذي سيحققه السلام المسيحاني. يعبّر النبي إشعيا عن هذا السلام بعباراتٍ شعرية قائلاً : ” فَيسـكُنُ الذِّئبُ مع الحَمَـل، ويَربِـضُ النمرُ مع الجـَدْيِ، ويَعلِـفُ العِجلُ والشِّبلُ معًا… “ (إشعيا 6/11 +)، حينما يتصـالح الإنسـان مع ربّه ومع أخيـه الإنسـان يسـود السـلام الدائم ” ولسَلامِهِ ليسَ انقِضاء “ (إشعيا 8/9)، ويتضمـن نـزع السـلاح الشـامل : ” فيَضرِبون سُيوفَهم سِكَكًا ورِماحَهم مَناجِل، فلا تَرفَعُ أُمَّةٌ على أُمَّةٍ سَـيفًا، ولا يَتَعَلَّمـونَ الحـَربَ مـن بَـعدَ “ (إشـعيا 4/2).
يستمر هذا السلام في خِضَم المِحَن، ولن تعكّر المصائب صفاءَه، كما يقول القديس بولس : ” فَلَمّا بُرِّرْنا بالإيمان حَصَلنا على السلام… ونفتخرُ بالرجاء لِمَجْد الله، لا بل نَفتَخِرُ بشَدائِدِنا، لِعلمِنا أنَّ الشِِّدَّةَ تَلِدُ الثَّباتَ، والثَّباتَ يَلِدُ فَضيلةَ الإختيار، وفَضيلةَ الإِختِيار تَلِدُ الرَّجاء، والرَّجاءُ لا يُخَيّبُ صاحِبَه، لأنَّ مَحَبَّةَ الله أُفيضَت في قُلوبِنا “ (رومة 1/5-5).
” ما جمل أقدام المبشرين بالسلام “
قـال يسـوع : ” طوبـى لفاعلي الســَّلام، فإنَّهم أبنـاءَ اللهِ يُدعـَون “ (متى 9/5)، هذا يعني أن على المسيحيين أن يصبحوا صانعي سلام، ولا يقفوا مكتوفي الأيدي، فعلـيهم أن يجـاهدوا وينـاضلوا ليُسـهموا فـي استتباب السلام في مجتمعهم.
عليهم أن يلجأوا إلى جهاد الصلاة والدموع، والقيام بأعمال الرحمة، لأن اللامبـالاة تترك السـاحة فارغة أمام الشرّير ؛ على المسـيحيين أن يناضلوا لنشـر العدالـة بين البشـر، فالظـلم والتجاوز على حقوق الإنسـان يسـبب الصراعات والنزاعات.
وعليهم أن يحاربوا الفقر والعَوَز، ويمدّوا يد العون للفقراء، ويعملوا على نشر الرفاه، فالفقر هو أم كل الحروب.
لا يجوز أن يلجأوا إلى العنف كوسيلة لتحقيق العدالة، يجب أن تكون مقاومتهم للظلم تتسم باللاعنف : مثال غاندي والقس مارتن لوثر كينج.
يجب أن يكـون جهـادهم جهـاد الغفران والتسـامح وكسـر سـلسـلة الإنتقامات المتبادلة، لأن الغفران وحده يسـتطيع أن يضع حـدًّا للخصومـات واسـتتباب السـلام ونشـر المحبة في المجتمع، فلقد قال يسوع : ” سَمِعتُم أَنَّه قِيل : ” أَحْبِبْ قَريبَك وأَبغِضْ عَدُوَّك “، أما أنا فأَقولُ لكـم : ” أحِبّوا أَعداءَكم، وصلّوا مِن أجلِ مُضطَهِديكُم، لِتَصيروا بنـي أبيـكُمُ الَّذي في السَّـمَوات… “ (متى 43/5-48).
فإذا كـان الله أبـًا لجميع البشـر، فالبشـرُ جميعًا هم إخـوة وأَبنـاء أبٍ واحد، هو الله ؛ فإذا كانوا أبناء الله وأخوة، فهذا يعني انه ليس للمسـيحي أعـداء، فكل البشـر بلا اسـتثناء هم أخوتـه، كمـا قـال القديس يوحنـا : ” أُنظُروا أَيَّ مَحبَّةٍ خَصَّنـا بِهـا الآب لِنُدعَى أَبناءَ الله، وإِنَّنا نَحْنُ كَذلِك… “ (1 يوحنا 1/3-2).