صبر الله وزمن التوبة (95)
صبر الله وزمن التوبة
(متى 24:13-30)
الأب فادي نظير جورج
الأحد الثالث من إيليا
وضرَبَ لَهم مَثَلاً آخَرَ قال : ((مَثَلُ مَلَكوتِ السَّمَواتِ كَمَثـلِ رَجُلٍ زَرَعَ زَرْعًا طَيِّبًا في حَقلِه. وبَينمـا النَّاسُ نائمـون، جـاءَ عَـدوُّهُ فـزَرعَ بَعـدَه بينَ القَمحِ زُؤانًا وانْصَرَف. فلَمَّا نَما النَّبْتُ وأَخرَجَ سُنبُلَه، ظَهَرَ معَه الزُّؤان. فجاءَ رَبَّ البيتِ خَدَمُه وقالوا له : ((يا ربّ، ألَم تَزرَعْ زَرْعًا طَيِّبًا في حَقلِكَ ؟ فمِن أَينَ جاءَهُ الزُّؤان ؟)) فقـالَ لَهـم : ((أَحَدُ الأَعـداءِ فَعَلَ ذلك)) فقالَ له الخَدَم : ((أَفَتُريدُ أَن نَذهَبَ فنَجمَعَه ؟)) فقال : ((لا، مَخـافةَ أَن تَقلَعـوا القَمْحَ وأَنتُـم تَجمَعـونَ الزُّؤان، فَدَعوهما يَنبُتانِ معًا إِلى يَومِ الحَصاد، حتَّى إِذا أَتى وَقْتُ الحَصاد، أَقولُ لِلحَصَّادين : اِجمَعوا الزُّؤانَ أَوَّلاً واربِطوه حُزَمًا لِيُحرَق. وأَمَّا القَمْح فَاجمَعوه وَأتوا بِه إِلى أَهرائي)).
(متى 24:13-30)
مقدّمة
الزرع الطيّب أُفسد بسبب أعشاب رديئة زرعها جار عدواني. وفي المثل، يُشير الإلحاح على " العدو " إلى نقطة لا غير، الزارع زرع بذورًا جيّدة، إلا أن الشرّ وقع. والمغزى العميق نجده في تكملة الحوار.
ووفقًا للعفويّة الإنسانيّة والعادات الزراعيّة، ألا ينبغي اقتلاع الحشيش الرديء للحال ؟ ولكن، في الحالة التي نحن فيها، هناك الكثير منه، سيما وأن هناك نوعًا من الزؤان يشبه، إلى حد بعيد، الحنطة حين تكون خضراء. لذا كان من الأفضل إنتظار وقت الحصاد للقيام بالفرز، خشية أن يتعرض كل الزرع للتلف.
تفسير النصّ
يخطر على بالنا هذا السؤال : أليس من الأفضل أن يعمل الله مع أناس غير مشوّهين بالخطيئة، وأن يُبعد الذين لا يستحقون الملكوت، فاسحًا بذلك مجال العمل للذين يحقّقون ملكوت السماوات ؟ نحن نريد أن يحقّق مجيء ملكوت الله جماعة مقدّسة، لا جماعة فقيرة على الصعيد الإنساني والديني. ونرى بعكس ذلك أن إعلان يسوع يهدف، وبشكل مستمر، إلى إظهار إله يريد أن يكون قريبًا من الإنسان، ويسامح البشريّة الضعيفة. إن إله يسوع هو إله الصبر، الإله الذي يعرض على الجميع ظروف حياة تساعدهم في أن يتبدّلوا وينموا وينضجوا.
إستخدم يسوع سابقًا صورة الزرع للدلالة على ملكوت الله، أي البشرى السارة التي جاء يحملها إلى كل إنسان. إلا أن هنـاك في هـذه القصة شيئًا جديدًا : فقد زُرع زرع آخر فوق ما زرعه الفلاح. ومن المهم أن نعلم هنا الأمور التي كانت تتعلّق بالزراعة في فلسطين أيام يسوع، خاصة وجود أعشاب بريّة تُلحق الضرر بالزرع.
قد يكون الزؤان الذي يتكلم عنه المثل هو أحد الأعشاب المرّة الشبيهة بالقمح، التي يمكن تمييزها عن القمح فقط عند نمو السنبلة، الأمر الذي يزيد من خطورة إفساد الزرع الطيّب. لذا، من الطبيعي أن يتدخل المزارعون ليقلعوه حالما يبدأ في النمو : ومن الممتع أن نلاحظ كيف أنهم يتداركون الأمر بسرعة، وقبل نمو السنبلة، حيث يبدأون بحفر الأرض لاقتلاع الزؤان الذي يمنع نمو السنبلة بشكل صحيح وينتشر في معظم أرجاء الحقل.
وبالتالي فإن المثل يقدّم شيئًا مغايرًا مقارنة مع الأسلوب السائد آنذاك : حيث إن صـاحب الحقل منـع عبيـده من اقتلاع الـزؤان، لا بل طلب منهم أن يدَعوه ينمو، " القمح والزؤان معًا "، حتى يوم الحصاد.
رسالة يسوع
يعيد هذا المثل إلى أذهان سامعي يسوع الفلسطينييّن صورة الحصاد الكتابيّة. فقد كان العهد القديم، وكذلك الأدب اليهودي القديم، يستخدم صورة الحصاد للدلالة على حكم الله الأخير للأرض. وانطلاقًا من هذه الصورة تُطرح المشكلة الآتية : هل يجب إستئصال الشرّ الموجود في العالم حالاً وسريعًا ؟ يعطي صاحب الأرض توجيهًا أوليًا : لا حاجة لاستئصال الشرّ من الأرض قبل مجيء اليوم الأخير، لأن الإنسان ليس على مستوى يجعله يُقدّر عمق أعماق بني البشر، ولا يستطيع أن يميّز تمامًا ما هو الشرّ وما هو الخير.
إن خطر هذه الغربلة الجذريّة يكمن في أنها يمكن أن تدمّر الخير الموجود. نجد في المثل تعليمًا مفاده أن حق التمييز بين الشرّ والخير يعود فقط إلى الله، بينما المراد هنا هو استباق ذلك. وهناك حافز آخر يدفعنا إلى الصبر : إن الله حدّد وقتًا معينًا للحكم الأخير، وقتًا لا يستطيع الإنسان أن يستبقه، إلا أنه يستطيع أن يستغل إنتظار هذا اليوم. إن وقت الإنتظار هذا، أي وقت إنتظار الحصاد، وضعه الله بين يدي الإنسان لكي يكون بمقدوره أن يحوّل الشرّ إلى خير، ويتمكّن من التوبة في هذه الحياة. يتميّز المحيط التاريخي، الذي عاش فيه المسيح، بوجود تيارات دينيّة عدة كالغيورين أو الإسينيين، الذين وعلى الرغم من وجود بعض الإختلافات في الطقوس، كانوا يجتمعون للهدف ذاته : العمل على خلق جماعة طاهرة.
الغيورون، ومنهم وطنيّون ثوار، كانوا يريدون طرد الرومان، ويرغبون في بناء ملكوت الله من خلال إعادة تأسيس دولة إسرائيل المستقلّة. وكانوا على إستعداد أيضًا للقيام بـ" انتفاضة " عنيفة يطردون من خلالها الغزاة، ويعيدون تثبيت ملكوت الله على الأرض من خلال التحرير الوطني.
وكذلك الإسينيون، فقد كانوا يعتبرون أنفسهم الجماعة الطاهرة، ويستثنون من الخلاص كل من لا ينتمي إلى جماعتهم، وينفصلون عنهم بشكل واضح.
كانت الأيديولوجيّة الفرّيسيّة تسير في الخط ذاته، ولو من منطلق آخر : كان الفريسيون يهدفون إلى خلق جماعة طاهرة، معتبرين أنفسهم الوحيدين الذين يحفظون شريعة موسى ووصاياه. هذه الجماعة الحافظة للوصايا يجب أن تبقى متميّزة ومنفصلة عن الذين لا يعرفون الشريعة ويخالفون أوامرها : والمقصود هم الخطأة.
يجد يسوع نفسه محاطًا بمنافسة طائفيّة بين الحركات المختلفة التي تهدف إلى التمييز بين الطاهرين وغير الطاهرين، بين حافظي الوصايا ومخالفي الوصايا، بين الأخيار والأشرار. في غمرة كل ذلك يعلن يسوع رسالة تناقض جذري في هذه العقليّة، ويقول إن ملكوت الله تحقّق في تاريخ البشريّة من خلال شخصه، وإنه يُتيح فرصة الخلاص للخطأة من خلال المصالحة… إن وقت " الغربلة " هو عندما يأتي ملكوت الله في نهاية البشريّة، أما الوقت الذي نعيشه الآن، فهو وقت صبر الله الذي يقدّم فيه لكل الناس، بما فيهم الخطأة، فُرصًا كثيرة، لكي يجدّدوا حياتهم ويبدّلوها.
ويوضح يسوع أن صبر الله هذا ليس صبرًا سلبيًا يترك الأمور على حالها، بل صبر إيجابي، وفي صالح الإنسان الذي يعرض الله عليه باستمرار فُرصًا للتوبة.
معانٍ لحياتنا
ليس صعبًا، حتّى في أيامنا هذه، أن نلاحظ حتّى في جماعتنا المسيحيّة ميلاً إلى إله طائفي، يميّز بين الأخيار والأشرار : كم مرّة نتكلم عن المعايير، لكي نقول من يخلص ومن لا يخلص. لا يقول يسوع لنا إننا يجب أن نتعامى عن الشرّ. إنما علينا أن نمارس الصبر الإيجابي من خلال منح الإنسان الفرصة لكي يغيّر حياته. لقد أعطانا الله هذا الوقت لكي نحوّل الزؤان إلى قمح في حياتنا وفي تاريخ البشر. لذا، يجدر بنا أن نفهم زمننا كزمن خلاص، فاتحين قلوبنا لاستقبال كل الإشارات التي تقدّمها لنا الحياة وتدعونا لاستقبال محبّة الله. ليس هذا الزمن زمن الحكم الأخير، لا علينا ولا على غيرنا. وما يقدّمه الله لنا يمكن أن يتحول إلى لعنة وحكم علينا، لا لأن الله يبدّل أو يغيّر، بل لأننا ننغلق بحرّيتنا على الخلاص، ونرفض المكوث في رحمة الله ومحبّته. إننا منذ الآن نستبق يوم الدينونة في حيثيّات حياتنا اليوميّة، لأن لحياتنا اليوميّة كثافة روحيّة تصب في مصيرنا الأبدي.
إذا كان الله صبورًا، فإنه يجدر بنا أن نكون نحن أيضًا صبورين مع أنفسنا ومع الواقع الذي يحيط بنا، وألا نتوقف عن تقديم مناسبات لحياة أفضل. يتعايش في حياتنا الواضح والغامض، الخير والشرّ، ومن الصعب أن نراهما بوضوح أو أن نفصل بينهما. وعلى الرغم من ذلك، فإن الله لا يرفض هذا العالم ليخلق عالمًا أفضل، بل يمارس الصبر مع هذا العالم لأنه هو القادر على كل شيء. هو الإله الحقيقي الذي لا يهدّد إنسانًا ولا شيئًا، هو الأبدي الذي لا خوف عنده ولا تسرّع. إن الإنسان خُلق على صورة الله ومثاله، وعليه أن يكون كذلك : فقد وضع الله العالم بين يديه، وعليه أن يصل بصبر بهذه الحقيقة إلى ما يريده الله منها، حتّى حيث نما الزؤان وتكاثر.
وهذا الصبر يكون على أكثر من مستوى :
الصبر أولاً على أنفسنا : بإمكاننا أن نرفض ضعفنا وحدودنا المرتبطة بوجودنا البشري. وهذا تخفٍّ فاضح وتبرير للشرّ الموجود فينا. لا يمكن أن نتوب وأن نتحسّن إلا إذا ملكنا الشجاعة لمجابهة الشرّ الموجود فينا، دون الهروب في صورة كاملة عن أنفسنا.
يرتكز صبرنا على الإيمان بإله يثق في ظروف الحياة المختلفة، ويدفعنا إلى العمل على وحدة حياتنا دون أن نرفض أي جزء منها. فتوحيد حياتنا هو أول خطوة في سبيل تغيير حياتنا.
الخلاصة
يتكلّم المثل عن المدة بين مجيء يسوع الأول والمجيء الثاني في يوم الحصاد ونهاية العالم. في هذه المدّة ملكوت الله يواصل نموّه بالرغم من وجود القمح (الأبرار) والزؤان (الأشرار) معًا. فالزؤان هو العشب السام الضار بـالزرع كالشـوك والقُرّاص والعَوسَج (أشعيا 13:34). وهو يقابل القمح (عمل الله). وأما الذي زرع الزؤان فهو إبليس عدو الله، وذلك ليخرّب عمل الله. وأما الحَقل فهو العالم والزرع الطيِّب فهم بَنو المَلكوت الذين يمارسون بأمانة شريعة الله، والزؤان بَنو الشرير، وهم الأشرار وفعلة الإثم الذين يُسبّبون الشكوك والعثار فيعملون عمل الشيطان فيجعلون الناس يسقطون في حبائله.
فالسؤال المطروح إلى متى نتحمل الزؤان أي الأشرار ؟ فيُجيب يسوع في هذه المثل على التحلّي بالصبر، لأن الإنتصار لله في يوم الحصاد. الحصاد إستعارة تقليدية ترمز إلى الدينونة في آخر الأزمنة (متى 12:3). إن الزؤان الصغير ونبات القمح متشابهان ولا يمكن التمييز بينهما إلى أن ينضجا وقت الحصاد. فيجب أن ينمو الزؤان (غير المؤمنين) والقمح (المؤمنون) جنبًا إلى جنب في هذا العالم، فالله يسمح لغير المؤمنين أن يستمروا بعض الوقت حتى لا يقتلع القمح مع الزؤان. أما في وقت الحصاد فسيُقلع الزؤان ويُلقى بعيدًا. ولا بد للحصاد أي الدينونة لكل الجنس البشري أن تتم في آخر الأزمنة. المثل لا يدعو المسيحيين أن يكونوا متساهلين مع الشر أو أن يحطّموا الأشرار، بل أن يكونوا من الأبرار، أبناء الملكوت بصبرهم إلى يوم الدينونة على مثال أبيهم السماوي.
المصادر
بولس الفغالي (الخوري)، من القراءة إلى التأمل مع القديس متّى، القراءة الربيّة 1، الرابطة الكتابية، لبنان، 1993.
لقاءات إنجيليّة للشباب والبالغين، ج 3، سلسلة لقاءات إنجيليّة 3، تر : المعهد الإكليريكي – بيت جالا، منشورات المكتبة البولسيّة، ط 2، 2006.
كلود تاسان، الإنجيل بحسب القديس متّى، تر : الأب بيوس عفاص، سلسلة أبحاث كتابية 13، دار بيبليا للنشر، الموصل، 2008.