القراءات الكتابية الطقسية

سلاح ُ المسيحي (57)

سلاح ُ المسيحي
الاب البير هشام نعوم
إثنين أسبوع الأسابيع
وبعدُ فتـَقَوَّوا في الربِّ وفي قدرتِهِ العزيزة. تسلّّحوا بسلاحِ الله لتستطيعوا مقاومـةَ مكايـدِ أبليس، فليس صراعُنـا مـع اللّحم والدّم، بل مـع أصحـابِ الرئاسـة والسّلطان وولاةِ هـــذا العـــالم، عـــالم الظلمـات، والأرواح الخبيثـة في السموات. فخذوا سلاح الله لتستطيعوا أن تقاوموا في يوم الشرّ وتظلّوا قائمين وقد تغلبتم على كلّ شيء. فانهضوا إذن وشدّوا أوساطكم بالحقّ والبسوا درع البرّ وانتعلوا بالنشاط لإعلان بشارة السلام، واحملوا ترس الإيمان في كلّ حال، فبه تستطيعون أن تــُخمدوا جميع سهام الشرير المشتعلة. واتخذوا لكم خوذة الخلاص وسيف الروح، أي كلمة الله.
رسالة مار بولس إلى أهل أفسس (10/6-17)

1) الإطار التاريخي الذي ورد فيه نـــَص (أفسس 10/6-17)
بمناسبة احتفالات الكنيسة بالسنة البولسيّة التي أعلنها قداسة الحبر الأعظم البابا بندكتوس السـادس عشر في 28 حزيران من العام الماضي ولغاية 29 حزيران من العام الحالي، وذلك لمرور ألفي سنة على ولادة رسول الأمم القديس بولس، ارتأينا أن نخصص باب ” القراءات الكتابيّة الطقسيّة “ لهذا العام للتعمّق في فكر وروحانية هذا القديس من خلال التأمّل في القراءات الطقسيّة المقتبسة من رسائله التي تُتلى على مدار السنة، علّنا نستفيدُ منه ونقتدي به على خطى المسيح ربّنا.
إنّ الرسالة إلى أهل أفسس هي واحدة من أروع الرسائل التي كتبها مار بولس. ومدينةُ أفسس هذه كانت مرفأ على شاطئ آسيا الصغرى الغربي (أي تركيا الحالية)، وهي مدينة كبيرة ومتحضّرة بالحضـارة اليونانية، وتُعتبر من أكبـر مراكز العـالم اليوناني الروماني التجارية والدينية، وهذا يفسّر اهتمام بولس الخاص بها، فنشر فيها الإنجيل، وشعّ منها إلى المدن المجاورة مثل كولوسي. ويهتمّ سفر أعمال الرسل بشرح تفاصيل تبشير بولس لمدينة أفسس وأخبار انتشار الإنجيل فيها انتشارًا سريعًا. إذ دخلها للمرة الأولى في نهاية سنة 52 م وخلال رجوعه من الرحلة الرسولية الثانية، كما يشير سفر أعمال الرسل : ” فلمّا وصَلوا (بولس وبرسقلة وأقيلا) إلى أفسس فارقَهما (بولس)، ودَخَلَ المَجمَع فأخذَ يخاطبُ اليهودَ، فسألوه أن يطيلَ الإقامةَ بينهم فأبى. ولكنّه ودّعهم وقال : ” سأعودُ إليكم مرةً أخرى إن شاء الله “ وأبحَرَ من أفسس “ (19/18-21). ثمّ عاد إليها في بداية رحلته الرسولية الثالثة : ” وبينما أبُلُّسُ في قورنتس، وصل بولس إلى أفسس “ (أع 1/19)، وأقام فيهـا ثلاث سـنوات تقريبًا (54-57 م). ومن أفسـس وجّه بولس رسالته الأولى إلى أهل قورنتس، وربما كتب فيها أيضًا رسالتيه إلى أهل غلاطية وفيلبي.
أمّا الرسالة إلى أهل أفسس، والتي اقتبسنا منها اليوم هذا النَص الجميل، فقد كتبها بولس وهو سجين في روما، إذ تعتبر واحدة من رسائل بولس في السجن. وموضوع الرسالة يتضمّن تأمّل بولس في سـرّ الخلاص والكنيسـة، وفي تدبير الله الذي بقى محجوبًا حتى تحقيقه في شخص يسوع المسيح، وكُشِف للرسول وتجلّى في الكنيسة في نفوس المؤمنين المتسلّحين بسلاح الله في حياتهم.
2) التحليل الكتابي – البيبلي
يقع هذا النَص، بحسب تقسيم العلماء للرسالة بالعموم، في القسم الثاني من الرسالة، الذي يتضمن الفصول (4-6) والمعنون ” إرشاد للمعمّذين “ وهو إرشاد مستوحى من حفلة المعموذية، ويختمه بولس بالدعوة إلى التسـلّح بسـلاح المسيحي لمحاربة القوى التي في السماوات. وهذه الاستعارة مأخوذة من العهد القديم الذي يرينا الله وهو يتسلّح لمحاربة أعدائه. فيصفه أشعيا النبي مثلاً بقوله : ” فلَبِسَ البرّ كدرعٍ وخوذة الخلاص على رأسه وأرتدى ثياب الانتقام لِباسًا وتَجلبَبَ بالغيرة رداءً “ (17/59). وهذا السلاح الإلهي، الذي تشكّل أجزاؤه مجموعةً، ينسبها بولس في تعليمه إلى المسيحيين. ويُعتقَد أن هذه الإستعارات مأخوذة من عقيدة قمران أيضًا، لا بل من الفلسفة الشعبية. ولكن الرسالة تجدّدها بنور المسيح الذي فيها.
3) الإطار الليتورجي
أ- علاقة هذا الـنــَص مع النصوص الأخرى
يرفع أشعيا صوته في هذا اليوم (9/60-22)، ليعلن بهاء أورشليم وعزّتها في نظرِ الربّ إلهها الذي يقفُ إلى جانبها ليحميها ويحفظها من كلّ شرّ، وكأنّه يصوّر الربّ وهو يستخدمُ أسـلحته، أسـلحة الخير والمجد والكرامـة، ليحارب بها أسلحة الدمار والعنف : ” لا يُسمَع من بعدُ بالعنفِ في أرضكِ ولا بالدمار ولا التحطيم في أرضكِ بل تَدعينَ أسواركِ ” خلاصًا “ وأبوابَكِ ” تسبيحًا “ (آية 18). وما أورشليم إلاّ رمزٌ لشعب الله المحمي بأسلحة الربّ إلهه.
ويدافع يسوع أيضًا بسـلاحه عن تلاميذه (يوحنا 18/14-15/15) ويُطمْئنَهم قائلاً : ” لن أدعكم يتامى “ (18/14)، وهذا السلاح هـو الروح القدس المؤيّد الذي يرسـله إليهم ليقويهم في زمن الضيق ويرافقهم في كل وقت. ليس هو سلاح عنف قتل، بل سلاحُ السلام الذي يستطيع أن يغلب كل جيوش الشر في العالم ” السلامَ أستودعكم وسـلامي أعطيكم. لا أُعطي أنــا كمـا يعطي العـالم. فـلا تضطرب قلوبـكم ولا تفـزع “ (27/14). هذا هو مسيحنا القائم من بين الأموات : لا يستطيع الشرّ بكل أسلحته أن يقف في طريق رسالته، فمَن أراد أن يواجه الشرّ مع المسيح، عليه أن يتسلّح بالمسيح ويثبت فيه ” اثبتوا فيّ وأنا أثبتُ فيكم… لأنكم بمعزلٍ عني لا تستطيعون أن تعملوا شيئًا “ (4/15 و5). والمحبةُ هي أعظمُ سـلاحٍ من المسـيح نحملُه لنصـدّ به هجمات الشرّ العديدة، لأن هذه هي وصيةُ ربِّنا : ” أحبّوا بعضَكم بعضًا كما أحببتكم. ما من حبٍ أعظمُ من حبِّ مَن يبذل نفسه في سبيل أحبّائه “ (12/15 و13).
ب) علاقة هذا النـَص بالصلاة الطقسية
تمجّدُ الصلاةَ الطقسية ثاني يوم عيد القيامة المجيد الربَّ القائم من بين الأموات، الذي انتصر على الموت وغلبه. وبدلاً من الحزن والكآبة والتراجع، أسلحةِ الشرير، زرعَ يسوعُ بقيامته الفرحَ والبهجةَ والتقدّم، وهي أسلحته المضادّة. وتعبّر صلاة الليل (دلَليـِا) عن هذه الفكرة بقولها (كتاب الحوذرا، الجزء الثاني، ص ةيو) :
” النساءُ اللواتي أتين إلى قبرك يا رب، امتلأوا بالفرح بدلَ الحزن. وركضوا إلى الرسل ليبشروهم بالكلمات التي سمعوها من الملاك، الذي قال لهنّ : لا تخافنّ، لمَ تبكين، على يسوع المبعوث ؟! لقد قام وانتصرَ على الموتِ بموته. فنصرخُ نحنُ يا ربّ بالشكر ونقولُ المجدُ لك “.
إستخدم يسوع أسلحةَ العالم بعينها، ولكنّه حوّل هدفها ومعناها وجعلها في خدمة الإنسـان. فأخذ سـلاحَ الموت وقبِلَ أن يموتَ على الصليب لكي ينتصر بموته على الموت، ويجعله بابًا لقيامةٍ لا تعرفُ الموت. جرّب الحزن والألم ليزرع من خلالهما في نفوس المؤمنين بقيامته فرحًا وسلامًا لا يزولان. فالمجدُ لك يا رب، لأنكَ رضيت أن تكون واحدًا منّا في كل شيء، لترفع طبيعتنا البشرية إلى سموّ ألوهيتك المجيدة.
4) رسالة هذا النـَص لعالمنا المعاصر (تأوين)
مـا أعظم الرسـالة التي يحملهـا هذا النَص لعالمنا المعاصر ! ويا ليتنا ندركها ونعيش بمقتضاها لنستطيع على مثال النسوة أن ننقل بُشراها إلى الناس الذين نعيشُ معهم في فرحة القيامة في هذا الزمن.
قد يسوءُ البعض اسـتخدامَ كلمة ” سـلاح “ للمسيحي، لأن كلمة السـلاح تشيرُ ضمنيًا إلى الحقد والكراهية والحرب والقتل والإرهاب، والمسيحُ وديعٌ ومسالم ولم يعرف قلبه سوى محبة البشر، ولم يحمل بيده سلاحًا أبدًا. فلا يمكن أن يوضَع مبدأُ السلاح ضمن مبادئ المسـيح وروحانيته. ولكن السـلاح يشـيرُ من جهةٍ أخرى، لا نعيرها أهميةً غالبًا، إلى القوة التي يحتاجُ الإنسان أن يتسلّح بها ليواجه قوى الشرّ الموجودة في العالم. فطريقُ هذا العالم غير مفروشٍ بالورود الطيبة فقط، بل تحيطها أيضًا الأشواك من كل جانب، وتكاد تخنقها : ” وقعَ بعضُ البذور على الشوك، فارتفعَ الشوك فخنقه “ (متى 7/13). ومن هنا ضرورة السلاح لتسند ضعف الإنسان وتقوّيه لينمو ويرتفع على الرغم من وجود الشوك من حوله، الذي يقول عنه مار بولس في نصّنا : ” فليس صراعُنا مع اللّحم والدّم، بل مع أصحابِ الرئاسة والسلطان وولاةِ هذا العالم، عالم الظلمات، والأرواح الخبيثة في السموات “ (أفسس 12/6).
ويكمّل بولس : ” فخذوا سلاحَ الله لتستطيعوا أن تقاوموا في يوم الشرّ، وتظلّوا قائمين وقد تغلبتم على كلّ شيء “ (13/6). وما هو سلاحُ الله ؟ هل هو القتل والتدمير والانتقادات الهدّامة ؟ هل هو تهميش الإنسان والحطّ من كرامته وإنسانيته ؟ أهذا ما نحنُ مدعوون للتسلّح به لنواجه شرّ عالمِنا : العينُ بالعين والسنّ بالسنّ ؟ أم ” من لطمك على خدك الإيمن، فأعرض له الآخر “ (متى 39/5) ؟ هل نغلبُ الشرّ بالشرّ أم بالخير ؟ نعتقدُ غالبًا أن الخيرَ ضعيفٌ ولا يستطيعُ مواجهة الشرّ، فلا سبيل لصدّ قوى الشر سوى الشرّ نفسه ! وهذا اعتقادٌ خاطئٌ جدًا وغير مسيحي. وإنما سلاحُ الله، يقول عنه رسولُ الأمم : ” فانهضوا إذن وشدّوا أوساطكم بالحقّ والبسوا درع البرّ وانتعلوا بالنشاط لإعلان بشارة السلام، واحملوا ترس الإيمان في كلّ حال، فبه تستطيعون أن تُخمدوا جميع سهام الشرير المشتعلة. واتّخذوا لكم خوذة الخلاص وسيف الروح، أي كلمة الله “ (أفسس 14/6-17). سلاحُ الله هو الحقّ والبرّ والنشاط والإيمان والخلاص وكلمةُ الله. فلنتسلّح بها فنكون مسيحيين أقوياء مستعدين بدون خوف أن نواجه العالم بكل ثقة وبقوة ومحبّة ربّنا وإلهنا.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى