القراءات الكتابية الطقسية
رسالة الكنيسة .. آلام و رجاء بالخلاص (79)
رسالة الكنيسة .. آلام و رجاء بالخلاص
الاحد الاول من زمن الصيف
الأب فريد بطرس
“لأَنّي أَرى أَنَّ الله أَنزَلَنا نَحنُ الرسُل أدنى مَنزِلةٍ كالمَحكوم علَيهِم بِالمَوت ، فقَد صِرنا مَعروضينَ لِنظَرِ العالَمِ والمَلائِكَةِ والنَّاس. نَحنُ حَمقى مِن أجلِ المسيح وأنتُم عُقَلاءُ في الميسح. نَحنُ ضُعَفاءُ وأَنتُم أَقوِياء . أَنتُم مُكَرَّمونَ ونَحنُ مُحتَقَرون. ولا نَزالُ حتى هذه الساعةِ أيضاً نَجوعُ ونَعطَشُ ونَعرى ونُلطمُ ونُشرد . ونُجهِدُ النفسَ في العمل بِأيدينا. نُشتَمُ فنبارك ، نُضظَهَدُ فنَحتَمِل ، يُشنَع علَينا فنَرُدُّ بِالُحسنى . صِرنا شِبهَ أّقذارِ العالم وُنفايةَ الناسِ أَجمَعين، إلى اليَوم .
لا أُريدُ فيما أكتُبُه أن أخجِلَكُم ، بل أريدُ ان أنصَحَكم نَصيحتي لأَبنائيَ الأحِبّاء . فقد يَكونُ لكم ألوفُ الحراس في المسيح ، ولكن ليس لكم عدةُ آباء ، لأني انا الذي ولدكُم بالبشارة في المسيح يسوع ، فأحثكم إذا أن تقتدوا بي” .
(1كور 4/9-16)
أولاً – ماذا يقول هذا النص ؟
إذا لم تكن الكنيسة مؤسسة ، يديرها زعماء بشريون ، فما هو مقام الرسل فيها ؟
استدرك بولس الرسول هذا السؤال ، الذي سيطرحه أهل كورنتوس، فأجاب عنه بوضوح وبصراحة قائلاً : ( أنّ الرسل خدّام المسيح ووكلاء أسرار الله ، وما يطلب من الوكيل ، أن يكون أميناًعلى وكالته)( 1كور 4 / 1-2 )
كان هذا التوضيح ضروريّاً لأبناء كنيسة ، باتوا ينجذبون للأحزاب الدينيّة والحكمة البشرية ، فيبتعدون عن الايمان المسيحي القويم ، وينقادون لطريق الانقسامات والانشقاقات . ولكي يبين مار بولس مقام الرسل الصحيح في الكنيسة ، فأنه يقيم مقابلة بين الرسل وزعماء الأحزاب ، وذلك لكي يُظهر الفرق الشاسع بين سلوك الزعماء الجشعين المتكبرين ، وسلوك الرسل المتواضعين الصابرين على آلام البشارة الانجيلية ، وكان من شأن إظهار هذا الفرق أن يردع المسيحيين على التهافت على أقوال الزعماء وحكمتهم البشريّة الزائفة ، وأن يحملهم على التخلّق بأخلاق رسل المسيح والمحافظة على وحدتهم الكنسيّة. ولتحقيق الهدف الذي أرداه مار بولس ، ينتهج طريقاً ، يوضح فيه الحقائق التالية :
1- متاعب الرسل وآلامهم وتعالي الزعماء الدينيين: إنّ الله بحكمته غير المدركه ولأجل مجده الأعظم ، اختار أن يعرض الرسل أمام الناس والملائكة في المنزلة الأدنى، كما لو كانوا تماماً مثل أولئك الأسرى الرومان المحكومين بالاعدام والمقتادين إلى ميدان المصارعة والموت . لقد لقي الرسل الاستهزاء والازدراء والبصق والسجن والضرب ، ورغم ذلك تمجدَّ الله بواسطتهم ,فقد استخدمهم لبناء ملكوته . يريد بذلك أن يردّ مار بولس على الزعماء الدينيين في كورنتوس وشعورهم الزائف بالشبع والتملك والتباهي بسبب مواهبهم ، فيبين أن الشبع الحقيقي لا يأتي من المواهب ، بل من احتمال الضيقات والاضطهادات ، وأخذ الموضع الأخير بدلاً من السعي للتكريم والتعظيم . فلا يبحث الرسل الجهّال بنظر العالم عن كرامة عالمية ، بل عن صليب المسيح ، في حين على النقيض من ذلك ، يظن الزعماء الدينيين المنتفخين بأنهم عقلاء حكماء من خلال حكمة بشريّة زائلة ، رغم أنّهم يجهلون الحقائق الروحيّة, ذلك لأنهم منغمسون في حياة الرفاه والرخاء الوثنية ، ولم يدركوا ويقبلوا الألم والصليب من أجل المسيح . فالخدمة الرسولية الحقة ليست تكريماً أو أوسمة تُمنح للمرسل ، بل تظهر من خلال حياة رسول ، يقبل بإرادته الجوع والعطش والتعب فيرضى بالتخلّي والتجرد طريقاً لمسيرة حياته ، ويتحمّل آلام الاحتقار والاهانه والشتائم ولا يرد على أفعال الآخرين الشريرة بشّرِ وبعداء ، بل بصلاة تباركهم وتزيل الحقد من قلوبهم ، وتريد لهم حياة خيرِ وصلاح. ويثبت الرسول في الأمانة لوكالته ، لرسالته مهما احتقره الأخرون وقللوا من شأنه ، حتى لو أصبح في نظرهم نفاية ووسخأ، أي لا شيئاً يستحق النظر ، مثلما كان يُضحى بالاشخاص الأكثر انحطاطاً في الاحتفالات الطقسيّةالوثنية . وهكذا فإذا كان الرسول المتضع ، يعتبر نفسه في القعر، فأن في ذلك توبيخ وتأنيب للكورنثين المتكبرين الجسديين الذين رأوا أنفسهم في القمة .
2- محّبه الرسول لأبناء بشارته.
بالرغم من عدم نضوج إيمان أهل كورنتوس وبقاء التأثير الوثني بأبعاده الفكرية والأخلاقية فقد كان القديس بولس ينظر إليهم نظرة ممتلئة من العاطفة الأبويّة الصادقة ، ولذلك يدعوهم : ( أبنائي الأحبّاء ) ، فهو لا ينذرهم،بل يوبخهم ويحثهم على الرجوع إلى الطريق القويم ، فينبذوا عنهم رغبة الزعماء المتعجرفين في تمزيق الكنيسة . لا يريد الرسول بولس أن يقارن بين آلامه وبين إدعائهم لغنى مواهبهم ، فيخجلهم بنقائصهم ، بل فعل ذلك من أجل خيرهم وعودتهم إلى الحياة المسيحيّة الحقّة .
3- بولس الرسول الأب الأوحد
وختم بولس حديثه على شجبه لقيام الأحزاب الدينيّة ، فقال لهم : إنّه قد يكون لكم زعماء كثيرون ، يدّعون أنّهم قد علّموكم ، بعد غيابي عنكم ، تعليم المسيح وتهذيبه ، ولكن ليس لكم آباء كثيرون ، لذلك أسألكم أن تقتدوا بي ، أنا أبوكم الروحي : ( فقد يكون لكم ألوف الحّراس في المسيح ، ولكن ليس لكم عدّة آباء ، لأنّي أنا الذي ولدكم بالبشارة في المسيح يسوع ، فأحثّكم إذاً أن تقتدوا بي ) ( 4/15-16)
ثانياً – ماذا يقول هذا النص لنا ولكنيستنا ؟
بعدما حلّ الروح القدس على الرسل في يوم العنصرة ، تحرّروا من الخوف والحزن ، فانطلقوا يبشرون العالم بحياة القائم من الموت. استطاع القديس بولس الذي كان قبلاً شاول المُضطهد للكنيسة ، أن يستقبل بشارة الخلاص الجديدة ، بعد ظهور الربّ يسوع له واهتدائه على طريق دمشق ، وتحّوله إلى إنسان جديد، استولى حبّ المسيح على قلبه وحياته ، فأصبح رسولاً ومبشّراً بصليب يسوع المسيح ، الذي ما عاد يفتخر إلابه. استطاع القديس بولس ببشارته للعالم الوثني ، أن يكون أباً روحّياً لعدد كبير من المؤمنين ، الذين تحوّلوا إلى طريق المسيح ، ولكن بقيت كنيسة كورنتوس مـتأثرة بالوثنيّة، فعرفت الانتماء لمدارس
وأحزاب دينية ، صارت سبباً للانشقاق والانقسام، فصار مسيحيو كورنتوس باباً مشرّعاً أمام روح العالم وحكمته البشريّة البعيدة عن روح الانجيل وحياة المسيح . يأتي مار بولس ليقيم مقارنة هامة مازلنا نحتاجها إلى اليوم وهي : المقارنة بين رسل مُبشرين ومتألمين , ومؤمنيين ولا سيما زعماء دينيين متكبرين وانتهازيين ومُدعيين . لقد قالها البابا بولس السادس ورددها غيره من الباباوات من بعده، وهي أن عالمنا يحتاج إلى شهود أكثر من حاجته إلى معلمين .نرى اليوم عدداً كبيراً من المسيحيين ، وقد انفصلوا عن حياة الكنيسة الرسولية وتاريخها الأبائي وتقليدها الكنسي وصاروا يتبعون وعاظ ومعلمين خارجين عن المرجعية الكنيسة ، وباتوا يؤسسون جماعات صغيرة منفصلة ، تدّعي الإيمان بيسوع المسيح ، ولكنها في الحقيقة ، تستغل اسم الله القدوس ، وقدرة الربّ يسوع وكلمته ، لتحقيق أغراض نفعيّة وسلطوية شحصيّة أو فئويّة ، لا بل أحياناً تحقق مخططات سياسية ودينيية ، غايتها تمزيق الوحدة المسيحيّة ، وتحطيم القيم الإنجيلية . فالجماعات البروتستانتية بشيعها وبتيارتها الكثيرة المختلفة ، ولا سيما تلك التي لا تعترف بها الكنيسة الكاثوليكية ، ما زالت تعبث بعقول وإيمان الكثيرين ، فتدّعي امتلاك الحقيقة والخلاص فتجذب بأساليبها النفسسيّة العاطفية وإغراءاتها المادية ، الكثيرين ممن يعانون من نقص مادي أو عاطفي أو فراغ ديني أو ثقافي . لا تحيا الكنيسة ولا تصمد في وجه الأزمات والتحديات الكبيرة ولا سيما الاضطهادات بأنواعها المختلفة ، إلاّ عندما تحيا الشهادة لشخص المسيح الذي انتصر على الشر والموت والخطئية بطاعته الكاملة لمشيئة الآب السماوي في قبول الألم والصلب والموت ، فيكون شخص القائم من الموت هو رجاؤها كما كان رجاء الرسول بولس ، الذي لم يكن إلاّخادماً وضيعاً يعمل بيدية ، ويعلن بشارة الخلاص بغيرة رسولية لا تعرف اليأس والتردد والخوف ، فعانى المشقات والمضايق ولكنه بقي أميناً لخدمته للمسيح ، وكيلأ على توزيع محّبة الله ونعمة المسيح وشركة الروح القدس . حياة مار بولس الرسولية التبشيرية ، وقبوله بأن يصير: ( شبه أقذار العالم ونفاية الناس أجمعين ) من أجل هدف واحد ، وهو أن يصل خلاص المسيح إلى كلّ إنسان وكلّ الإنسان … تدعونا تلك الشهادة الرسولية المميزة إلى تجديد إيماننا بابن الله للحيّ ، والقبول بحياة إلهّية خلاصّية لا تولد في قلب حياة سهلة ومؤمّنة ومرفهة ، بل عندما نقبل كل المعاكسات والمضايقات التي قد تواجهنا ، فنعرف رجاءاً حيّاً مشتعلاً ، لا ينطفئ ولا يضعف عندما تخبو نار مشاعل الحبّ الإنسانية التضامية الأخويّة. حياة مار بولس و شهادته المؤلمة، تدعونا إلى كنيسة تخرج إلى الطرقات والشوارع حتى لو كانت كنيسة مجروحة ومتسخة كما قال البابا فرنسيس في إرشاده الرسولي ،فرح الإنجيل، الذي يفضّل هكذا كنيسة مبشرة ومتألمة وخاطئة على كنيسة مريضه ، تهتم بمركزيتها وتنغلق على ذاتها . هذه البشارة الحيّة ، تخاطب الكنيسة في كل الأصقاع ولا سيما في شرقنا ، لكي تبقى أمينة لوديعة الإيمان، فتعرف طريق البشارة ، التي لا تعرف خوفاً ولا حدوداً عرقية أو ثقافية وحتى دينيية ، فلا تبقى أسيرة لبعض الفرائض والطقوس ، أو الاداريات والخطابات والبيانات ، بل تعرف حريّة روحيّة تُطلق صرخة إنجيل حيّة شاهدة حتى الموت ، على مثال الطوباوي شارل دي فوكو ، فتكون شهادتنا المسيحية رجاءاً لولادة جديدة ، لفجر خلاصي جديد ، تعلن انتصار نور الحبّ والسلام والفرح ، على ظلمة الحقد والعنف والحزن .
ثالثاً – صلاة من وحي النص
أيّها الربّ يسوع ، يامن اخترت رسلاً لكي يتلمذوا الأمم ويبشروا حتى أقاصي الأرض ، فيعلنوا إنجيل الخلاص ، إنجيل الحياة التي تولد من قلب الموت . لقد ظهرت لشاول المعادي لكنيستك، فاصبح بولساً مهتدياً إلى طريق صليبك ، وصار إنساناً جديداً مشغوفاً بحبك ، رسولاً مُبّشراً بموتك وقيامتك للوثنيين المأخوذين بحكمةِ وعبادةِ وممارسةٍ بعيدة عن حكمةالانجيل وروحه .يا إلهنا , لقدبّين القديس بولس لأهل كورنتوس ولا سيما للزعماء الدينيين ، بأن طريق الرسل ، ، وكلّ من يتبع المسيح ، هو طريق الخدمة المتواضعة والفقر الاختياري ، وتحمّل الشدائد والاهانات والاضطهادات ، والتخلّي حتى عن الذات ، من أجل إعلان مجدك الإلهي بقوة صليب الخلاص. اللهّم إنّ كنيستك ، كنيسة الرسل ،التي افتداهاالربّ يسوع بصليبه ، مازالت تواجه هجمات داخلية مضللة مقسّمة ، وأخرى خارجية مباشرة مضطهدة فأعطها وأعطي أبناءها ولا سيما المرسلين والمبشرين منهم ، نعمة الروح القدس ، وقوة الصليب المقدس ، فيبقوا أمناء على بشارة الحياة والخلاص ، فلا يخضعوا لظلمات العالم والظروف القاسية ، بل يكون أبناءاً أحراراً ، يشهدون لرجاء مسيحي لا ينهزم ، وفرح داخلي لا يغيب .
لك المجد إلى الأبد …. آمين
الاحد الاول من زمن الصيف
الأب فريد بطرس
“لأَنّي أَرى أَنَّ الله أَنزَلَنا نَحنُ الرسُل أدنى مَنزِلةٍ كالمَحكوم علَيهِم بِالمَوت ، فقَد صِرنا مَعروضينَ لِنظَرِ العالَمِ والمَلائِكَةِ والنَّاس. نَحنُ حَمقى مِن أجلِ المسيح وأنتُم عُقَلاءُ في الميسح. نَحنُ ضُعَفاءُ وأَنتُم أَقوِياء . أَنتُم مُكَرَّمونَ ونَحنُ مُحتَقَرون. ولا نَزالُ حتى هذه الساعةِ أيضاً نَجوعُ ونَعطَشُ ونَعرى ونُلطمُ ونُشرد . ونُجهِدُ النفسَ في العمل بِأيدينا. نُشتَمُ فنبارك ، نُضظَهَدُ فنَحتَمِل ، يُشنَع علَينا فنَرُدُّ بِالُحسنى . صِرنا شِبهَ أّقذارِ العالم وُنفايةَ الناسِ أَجمَعين، إلى اليَوم .
لا أُريدُ فيما أكتُبُه أن أخجِلَكُم ، بل أريدُ ان أنصَحَكم نَصيحتي لأَبنائيَ الأحِبّاء . فقد يَكونُ لكم ألوفُ الحراس في المسيح ، ولكن ليس لكم عدةُ آباء ، لأني انا الذي ولدكُم بالبشارة في المسيح يسوع ، فأحثكم إذا أن تقتدوا بي” .
(1كور 4/9-16)
أولاً – ماذا يقول هذا النص ؟
إذا لم تكن الكنيسة مؤسسة ، يديرها زعماء بشريون ، فما هو مقام الرسل فيها ؟
استدرك بولس الرسول هذا السؤال ، الذي سيطرحه أهل كورنتوس، فأجاب عنه بوضوح وبصراحة قائلاً : ( أنّ الرسل خدّام المسيح ووكلاء أسرار الله ، وما يطلب من الوكيل ، أن يكون أميناًعلى وكالته)( 1كور 4 / 1-2 )
كان هذا التوضيح ضروريّاً لأبناء كنيسة ، باتوا ينجذبون للأحزاب الدينيّة والحكمة البشرية ، فيبتعدون عن الايمان المسيحي القويم ، وينقادون لطريق الانقسامات والانشقاقات . ولكي يبين مار بولس مقام الرسل الصحيح في الكنيسة ، فأنه يقيم مقابلة بين الرسل وزعماء الأحزاب ، وذلك لكي يُظهر الفرق الشاسع بين سلوك الزعماء الجشعين المتكبرين ، وسلوك الرسل المتواضعين الصابرين على آلام البشارة الانجيلية ، وكان من شأن إظهار هذا الفرق أن يردع المسيحيين على التهافت على أقوال الزعماء وحكمتهم البشريّة الزائفة ، وأن يحملهم على التخلّق بأخلاق رسل المسيح والمحافظة على وحدتهم الكنسيّة. ولتحقيق الهدف الذي أرداه مار بولس ، ينتهج طريقاً ، يوضح فيه الحقائق التالية :
1- متاعب الرسل وآلامهم وتعالي الزعماء الدينيين: إنّ الله بحكمته غير المدركه ولأجل مجده الأعظم ، اختار أن يعرض الرسل أمام الناس والملائكة في المنزلة الأدنى، كما لو كانوا تماماً مثل أولئك الأسرى الرومان المحكومين بالاعدام والمقتادين إلى ميدان المصارعة والموت . لقد لقي الرسل الاستهزاء والازدراء والبصق والسجن والضرب ، ورغم ذلك تمجدَّ الله بواسطتهم ,فقد استخدمهم لبناء ملكوته . يريد بذلك أن يردّ مار بولس على الزعماء الدينيين في كورنتوس وشعورهم الزائف بالشبع والتملك والتباهي بسبب مواهبهم ، فيبين أن الشبع الحقيقي لا يأتي من المواهب ، بل من احتمال الضيقات والاضطهادات ، وأخذ الموضع الأخير بدلاً من السعي للتكريم والتعظيم . فلا يبحث الرسل الجهّال بنظر العالم عن كرامة عالمية ، بل عن صليب المسيح ، في حين على النقيض من ذلك ، يظن الزعماء الدينيين المنتفخين بأنهم عقلاء حكماء من خلال حكمة بشريّة زائلة ، رغم أنّهم يجهلون الحقائق الروحيّة, ذلك لأنهم منغمسون في حياة الرفاه والرخاء الوثنية ، ولم يدركوا ويقبلوا الألم والصليب من أجل المسيح . فالخدمة الرسولية الحقة ليست تكريماً أو أوسمة تُمنح للمرسل ، بل تظهر من خلال حياة رسول ، يقبل بإرادته الجوع والعطش والتعب فيرضى بالتخلّي والتجرد طريقاً لمسيرة حياته ، ويتحمّل آلام الاحتقار والاهانه والشتائم ولا يرد على أفعال الآخرين الشريرة بشّرِ وبعداء ، بل بصلاة تباركهم وتزيل الحقد من قلوبهم ، وتريد لهم حياة خيرِ وصلاح. ويثبت الرسول في الأمانة لوكالته ، لرسالته مهما احتقره الأخرون وقللوا من شأنه ، حتى لو أصبح في نظرهم نفاية ووسخأ، أي لا شيئاً يستحق النظر ، مثلما كان يُضحى بالاشخاص الأكثر انحطاطاً في الاحتفالات الطقسيّةالوثنية . وهكذا فإذا كان الرسول المتضع ، يعتبر نفسه في القعر، فأن في ذلك توبيخ وتأنيب للكورنثين المتكبرين الجسديين الذين رأوا أنفسهم في القمة .
2- محّبه الرسول لأبناء بشارته.
بالرغم من عدم نضوج إيمان أهل كورنتوس وبقاء التأثير الوثني بأبعاده الفكرية والأخلاقية فقد كان القديس بولس ينظر إليهم نظرة ممتلئة من العاطفة الأبويّة الصادقة ، ولذلك يدعوهم : ( أبنائي الأحبّاء ) ، فهو لا ينذرهم،بل يوبخهم ويحثهم على الرجوع إلى الطريق القويم ، فينبذوا عنهم رغبة الزعماء المتعجرفين في تمزيق الكنيسة . لا يريد الرسول بولس أن يقارن بين آلامه وبين إدعائهم لغنى مواهبهم ، فيخجلهم بنقائصهم ، بل فعل ذلك من أجل خيرهم وعودتهم إلى الحياة المسيحيّة الحقّة .
3- بولس الرسول الأب الأوحد
وختم بولس حديثه على شجبه لقيام الأحزاب الدينيّة ، فقال لهم : إنّه قد يكون لكم زعماء كثيرون ، يدّعون أنّهم قد علّموكم ، بعد غيابي عنكم ، تعليم المسيح وتهذيبه ، ولكن ليس لكم آباء كثيرون ، لذلك أسألكم أن تقتدوا بي ، أنا أبوكم الروحي : ( فقد يكون لكم ألوف الحّراس في المسيح ، ولكن ليس لكم عدّة آباء ، لأنّي أنا الذي ولدكم بالبشارة في المسيح يسوع ، فأحثّكم إذاً أن تقتدوا بي ) ( 4/15-16)
ثانياً – ماذا يقول هذا النص لنا ولكنيستنا ؟
بعدما حلّ الروح القدس على الرسل في يوم العنصرة ، تحرّروا من الخوف والحزن ، فانطلقوا يبشرون العالم بحياة القائم من الموت. استطاع القديس بولس الذي كان قبلاً شاول المُضطهد للكنيسة ، أن يستقبل بشارة الخلاص الجديدة ، بعد ظهور الربّ يسوع له واهتدائه على طريق دمشق ، وتحّوله إلى إنسان جديد، استولى حبّ المسيح على قلبه وحياته ، فأصبح رسولاً ومبشّراً بصليب يسوع المسيح ، الذي ما عاد يفتخر إلابه. استطاع القديس بولس ببشارته للعالم الوثني ، أن يكون أباً روحّياً لعدد كبير من المؤمنين ، الذين تحوّلوا إلى طريق المسيح ، ولكن بقيت كنيسة كورنتوس مـتأثرة بالوثنيّة، فعرفت الانتماء لمدارس
وأحزاب دينية ، صارت سبباً للانشقاق والانقسام، فصار مسيحيو كورنتوس باباً مشرّعاً أمام روح العالم وحكمته البشريّة البعيدة عن روح الانجيل وحياة المسيح . يأتي مار بولس ليقيم مقارنة هامة مازلنا نحتاجها إلى اليوم وهي : المقارنة بين رسل مُبشرين ومتألمين , ومؤمنيين ولا سيما زعماء دينيين متكبرين وانتهازيين ومُدعيين . لقد قالها البابا بولس السادس ورددها غيره من الباباوات من بعده، وهي أن عالمنا يحتاج إلى شهود أكثر من حاجته إلى معلمين .نرى اليوم عدداً كبيراً من المسيحيين ، وقد انفصلوا عن حياة الكنيسة الرسولية وتاريخها الأبائي وتقليدها الكنسي وصاروا يتبعون وعاظ ومعلمين خارجين عن المرجعية الكنيسة ، وباتوا يؤسسون جماعات صغيرة منفصلة ، تدّعي الإيمان بيسوع المسيح ، ولكنها في الحقيقة ، تستغل اسم الله القدوس ، وقدرة الربّ يسوع وكلمته ، لتحقيق أغراض نفعيّة وسلطوية شحصيّة أو فئويّة ، لا بل أحياناً تحقق مخططات سياسية ودينيية ، غايتها تمزيق الوحدة المسيحيّة ، وتحطيم القيم الإنجيلية . فالجماعات البروتستانتية بشيعها وبتيارتها الكثيرة المختلفة ، ولا سيما تلك التي لا تعترف بها الكنيسة الكاثوليكية ، ما زالت تعبث بعقول وإيمان الكثيرين ، فتدّعي امتلاك الحقيقة والخلاص فتجذب بأساليبها النفسسيّة العاطفية وإغراءاتها المادية ، الكثيرين ممن يعانون من نقص مادي أو عاطفي أو فراغ ديني أو ثقافي . لا تحيا الكنيسة ولا تصمد في وجه الأزمات والتحديات الكبيرة ولا سيما الاضطهادات بأنواعها المختلفة ، إلاّ عندما تحيا الشهادة لشخص المسيح الذي انتصر على الشر والموت والخطئية بطاعته الكاملة لمشيئة الآب السماوي في قبول الألم والصلب والموت ، فيكون شخص القائم من الموت هو رجاؤها كما كان رجاء الرسول بولس ، الذي لم يكن إلاّخادماً وضيعاً يعمل بيدية ، ويعلن بشارة الخلاص بغيرة رسولية لا تعرف اليأس والتردد والخوف ، فعانى المشقات والمضايق ولكنه بقي أميناً لخدمته للمسيح ، وكيلأ على توزيع محّبة الله ونعمة المسيح وشركة الروح القدس . حياة مار بولس الرسولية التبشيرية ، وقبوله بأن يصير: ( شبه أقذار العالم ونفاية الناس أجمعين ) من أجل هدف واحد ، وهو أن يصل خلاص المسيح إلى كلّ إنسان وكلّ الإنسان … تدعونا تلك الشهادة الرسولية المميزة إلى تجديد إيماننا بابن الله للحيّ ، والقبول بحياة إلهّية خلاصّية لا تولد في قلب حياة سهلة ومؤمّنة ومرفهة ، بل عندما نقبل كل المعاكسات والمضايقات التي قد تواجهنا ، فنعرف رجاءاً حيّاً مشتعلاً ، لا ينطفئ ولا يضعف عندما تخبو نار مشاعل الحبّ الإنسانية التضامية الأخويّة. حياة مار بولس و شهادته المؤلمة، تدعونا إلى كنيسة تخرج إلى الطرقات والشوارع حتى لو كانت كنيسة مجروحة ومتسخة كما قال البابا فرنسيس في إرشاده الرسولي ،فرح الإنجيل، الذي يفضّل هكذا كنيسة مبشرة ومتألمة وخاطئة على كنيسة مريضه ، تهتم بمركزيتها وتنغلق على ذاتها . هذه البشارة الحيّة ، تخاطب الكنيسة في كل الأصقاع ولا سيما في شرقنا ، لكي تبقى أمينة لوديعة الإيمان، فتعرف طريق البشارة ، التي لا تعرف خوفاً ولا حدوداً عرقية أو ثقافية وحتى دينيية ، فلا تبقى أسيرة لبعض الفرائض والطقوس ، أو الاداريات والخطابات والبيانات ، بل تعرف حريّة روحيّة تُطلق صرخة إنجيل حيّة شاهدة حتى الموت ، على مثال الطوباوي شارل دي فوكو ، فتكون شهادتنا المسيحية رجاءاً لولادة جديدة ، لفجر خلاصي جديد ، تعلن انتصار نور الحبّ والسلام والفرح ، على ظلمة الحقد والعنف والحزن .
ثالثاً – صلاة من وحي النص
أيّها الربّ يسوع ، يامن اخترت رسلاً لكي يتلمذوا الأمم ويبشروا حتى أقاصي الأرض ، فيعلنوا إنجيل الخلاص ، إنجيل الحياة التي تولد من قلب الموت . لقد ظهرت لشاول المعادي لكنيستك، فاصبح بولساً مهتدياً إلى طريق صليبك ، وصار إنساناً جديداً مشغوفاً بحبك ، رسولاً مُبّشراً بموتك وقيامتك للوثنيين المأخوذين بحكمةِ وعبادةِ وممارسةٍ بعيدة عن حكمةالانجيل وروحه .يا إلهنا , لقدبّين القديس بولس لأهل كورنتوس ولا سيما للزعماء الدينيين ، بأن طريق الرسل ، ، وكلّ من يتبع المسيح ، هو طريق الخدمة المتواضعة والفقر الاختياري ، وتحمّل الشدائد والاهانات والاضطهادات ، والتخلّي حتى عن الذات ، من أجل إعلان مجدك الإلهي بقوة صليب الخلاص. اللهّم إنّ كنيستك ، كنيسة الرسل ،التي افتداهاالربّ يسوع بصليبه ، مازالت تواجه هجمات داخلية مضللة مقسّمة ، وأخرى خارجية مباشرة مضطهدة فأعطها وأعطي أبناءها ولا سيما المرسلين والمبشرين منهم ، نعمة الروح القدس ، وقوة الصليب المقدس ، فيبقوا أمناء على بشارة الحياة والخلاص ، فلا يخضعوا لظلمات العالم والظروف القاسية ، بل يكون أبناءاً أحراراً ، يشهدون لرجاء مسيحي لا ينهزم ، وفرح داخلي لا يغيب .
لك المجد إلى الأبد …. آمين