رحمةُ الله تَتَجَسَّدُ في مَثَلِ السَّامريّ الصَّالِح (87)
الاكليريكي شاكر يوحنان زيتونا
الأحد الثالث من الرسل
قامَ أَحَدُ عُلماءِ الشَّريعَةِ ليُجرَّبَ يسوعَ، قال : ” يا مُعَلِّم، ماذا أَعملُ لأَرِثَ الحيَاةَ الأَبَدِيَّة ؟ ” فقــالَ له : ” مـاذا كُتِبَ في الشَّريعَة ؟ كَيفَ تَقرأ ؟ ” فأَجاب : ” أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ، وكُلِّ نَفسِكَ، وكُلِّ قُوَّتِكَ، وكُلِّ ذِهْنكَ وأَحبِبْ قَـريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ “. فقالَ لَه : ” بِالصَّوابِ أَجَبْتَ. اِعمَلْ هذا تَحْيَ “. فأَرادَ أَن يُزَكِّيَ نَفسَه فقالَ لِيَسوع : ” ومَن قَريبـي ؟ ” فأَجابَ يَسوع : ” كانَ رَجُلٌ نازِلاً مِن أُورَشَليم إِلى أَريحا، فوقَعَ بِأَيدي اللُّصوص، فعَرَّوهُ وانهالوا علَيهِ بِالضَّرْب. ثمَّ مَضَوا وقد تَركوهُ بَينَ حَيٍّ ومَيْت. فاتَّفَقَ أَنَّ كاهِنًا كانَ نازِلاً في ذلكَ الطَّريق، فرآهُ فمَالَ عَنه ومَضى. وكَذلِكَ وصلَ لاوِيٌّ إِلى المَكان، فَرآهُ فمَالَ عَنهُ ومَضى. ووَصَلَ إِلَيه سَامِرِيٌّ مُسافِر ورَآهُ فأَشفَقَ علَيه، فدَنا منه وضَمَّدَ جِراحَه، وصَبَّ علَيها زَيتًا وخَمرًا، ثُمَّ حَمَلَه على دابَّتِه وذَهَبَ بِه إِلى فُندُقٍ واعتَنى بِأَمرِه. وفي الغَدِ أَخرَجَ دينارَيْن، ودَفَعهما إِلى صاحِبِ الفُندُقِ وقال : ” اِعتَنِ بِأَمرِه، ومَهْما أَنفَقتَ زيادةً على ذلك، أُؤَدِّيهِ أَنا إِليكَ عِندَ عَودَتي “. فمَن كانَ في رأيِكَ، مِن هـؤلاءِ الثَّلاثَة، قَـريبَ الَّذي وَقَعَ بِأَيـدي اللُّصــوص ؟ ” فقـال : ” الَّذي عَامَلَهُ بِالرَّحمَة “. فقالَ لَه يَسوع : ” اِذْهَبْ فاعمَلْ أَنتَ أَيضًا مِثْلَ ذلك “. (لوقا 25:10-37)
مُقدِّمة
سرَدَ يسوعُ مَثلَهُ لكي يُساعِدَ معلِّمَ الشريعَةِ على استخلاصِ العِبرَةِ بنفسِهِ، ويقولَ صراحةً، بأنَّ الأقربَ إلى الجريحِ كان السامريُّ ؛ ولكن نُلاحِظ بأنَّ مُعلِّمَ الشريعةِ لَم يَقُلْ ذلكَ، لكنَّهُ قال : ” الذي عاملَه بالرّحمة، هو قريبُ الجريح ” (لو 37:10)، وذلكَ لأنَّهُ كان يعتبرُ السامريَّ عدوَّاً، بسببِ قُربِ السامريِّينَ من الأممِ الأُخرى وقتَ السبيِّ. لَقدْ أظهَرَ الشخصانِ الدينيان (الكاهن واللاويّ) عَدَم رحمتِهِما للجريح، مع العلم أنَّهُما متخصِّصَانِ في حُبِّ اللهِ وحُبِّ القريبِ ورحمتِهِ، فلَمْ يساعدا هذا الرجلَ المسكينَ، ولا نعرِفُ السَّبَبَ في ذلِكَ ! لرُبما حفاظًا على الشريعَةِ – إذ ظَنَّا رُبَّما أنَّهُ كانَ ميِّتًا ! فيَتَعرَّضُ من يلمِسَهُ للنجاسَةِ – فابتَعَدا عن هذهِ الرَّحمة، وفضَّلا راحتَهُما وأمانَ نفسيهِما على أنْ يُتَمِّما واجِبَ النَّاموسِ أيّ المحبَّة التي تُطالِبُ بالرَّحمَةِ . لَمْ يكُن على الكاهِنِ واللاوي صُنعُ المعجزاتِ، فاللهُ لَنْ يَطْلُبَ منهُما صُنعَ المستحيلِ، بل يَطلُب منهما إظهارَ رحمتِهِما للجريحِ، بواسِطَةِ رؤيَتِهِ يتألَّمُ ومؤاساتِهِ، ريثما تحضُرُ المساعدة ؛ لكنَّهُما واصَلا طريقَهُما يُفكِّرانِ بكيفيَّةِ تحضيرِ جنَازةٍ لائقَةٍ لهُ ؟ وبِعَكسِ السامريِّ الذي مدَّ يدَهُ بحُبٍّ للمساعدة.
مَنْ هو السامريّ ؟ وما سبَبُ الخلافِ بينَهُ وبينَ اليهود ؟
كان السامريُّ تاجرًا يَسعَى وراءَ أعمالِهِ، وفي سبيلِها، يَقصِدُ أريحا باطّرادٍ ؛ عندما رأى الجريحَ، أخَذَتْ بقلبِهِ الرَّأفَةُ (أشفَقَ عليه)، فهَرَعَ لمساعدَتِهِ مُعرِّضًا نفسَهُ لخَطَرٍ دَاهِم ٍ؛ فقَدْ كان من شأنِ اللُّصوصِ أنْ يَنقضَّوا عليهِ في أيَّةِ لحظةٍ، ويعرِّضوهُ لمثلِ مصيرِ الجريحِ الذي عكَفَ هو على مُساعدتِهِ. لَمْ يُبالِ السامريُّ أو يهتمْ بالعداوَةِ الموجودةِ بينهُ وبينَ اليهود، فدفعَتْهُ المحبَّةُ والرَّحمةُ إلى تجاوزِ كلِّ الحواجزِ والموانِعِ، لأنَّهُ وجدَ ذاتَهُ أمامَ إنسانٍ يتعذَّبُ، إنسانٍ في حاجةٍ ماسةٍ إلى المساعدة ؛ فالإنسانُ يبقَى إنسانًا، قبل أنْ يكونَ سامريَّاً أو يهوديَّاً. جثا السامريُّ أمامَ الجريحِ وأكبَّ على معالَجَتِهِ، فطَهَّر جراحَه بالخَمرِ، وخَفَّفَ آلامَها بالزَّيتِ وضمَّدَها، ثُمَّ أقلَّهُ على دابتِهِ إلى فُندُقٍ، حيثُ تابَعَ علاجَهُ، ونَقدَ صاحِبَ الفُندُقِ ما يكفي للعنايَةِ بهِ، لأنَّهُ إضطرَّ إلى مُتابَعَةِ سفرِهِ، مُتعهِّدًا لصاحِبِ الفُندقِ، بأداءِ كلِّ ما يترتَّبُ على علاجِهِ وإقامَتِهِ من نَفَقاتٍ إضافيَّةٍ .
ماذا يقولُ لنا النصُّ اليوم ؟
لَقَدْ حَطَّمَ يسوعُ كلَّ الحواجِزِ العُنصُريَّةِ، وأعلنَ أنَّ كلَّ إنسانٍ هـو قريبُ كلِّ إنسان ؛ القريبُ هو المحتاجُ إلى مَحَبَّتي ورحمَتي، يَنبَغي أنْ يكونَ أقربَ الناس إليَّ وأكثرَهُم حاجةً إلى عطفي وبذلي. بفضلِ يسوعَ أمْسَى السامريّ الرَّحيم مرادفًا للعطف، نموذجًا للرَّحمة في كلِّ الأزمنةِ، فهو لَمْ يَتَفرَّجْ مِنْ بَعيدٍ، بل اقتربَ، تحقَّقَ، خاطَرَ وأنقَذَ ؛ لَمْ يكتفِ بعباراتِ شفقَةٍ من أطرافِ شفتيهِ، بل عالجَ وسكبَ زيتَ الرَّحمةِ الذي يُلطِّفُ حُرْقَةَ الجُروحِ، وخمرةَ العافيَةِ التي تقضي على الفسادِ. ختَمَ يسوعُ الحوارَ بقولِهِ للفريسيِّ : ” إذهب وأعمل أنت أيضًا هكذا ” (لو 37:10)، أي عندما تُصادِفُ إنسانًا مُصابًا، تعيسًا ويُعاني أزمةً، سواء أكان يهوديًّا أو سامريَّاً أو وثنيًّا، فذاكَ هو قريبُكَ. ليست كرامةُ الكهنوتِ ولا عِلْمُ الشريعةِ بشيءٍ، بمعزلٍ عن العملِ بالرَّحمةِ، فَمَنْ يُنَفِّذُ الشريعة هو من يُمَارِسُ الرَّحمَةَ. يسوعُ أرادَ أنْ يقولَ للفريسيِّ : أنت يا مَنْ تعرِفُ الشريعةَ، تمثَّل بالسامريِّ الذي تزدريهِ، واسألهُ أنْ يُفسِّرَ لكَ روحَ الشريعة، التي هي الرَّحمَة، فأنا أُريدُ رحمةً لا ذبيحةً . الرَّحمةُ هي القوَّةُ الوحيدَةُ التي باستِطاعَتِها أنْ تَعتَبِرَ شخصًا ما، صديقًا، لا عدوًّا ؛ إنَّها تُساعِدُ الآخرَ على تَحمُّلِ مَسؤوليَّةِ حياتِهِ ؛ هي شَرَاكَةٌ ومحبَّةٌ.
الخاتمة
الرَّحمَةُ واجِـبُ كـلِّ مُـؤمِنٍ، ” لأنَّ الدينـونَةَ لا رَحمَةَ فيهـا لِمَنْ لَمْ يَرحَمْ ” (يعقوب 13:2) ؛ ” من سدَّ أُذنيهِ عن صُراخِ المسكينِ، يصرخُ هو أيضًا ولا يُسمعُ لهُ ” (أمثال 13:21) ؛ أما من يَرحَمُ قريبَهُ، فيَكنِزُ في السَّماءِ كُنوزًا من الرَّحمَةِ، يُعينُهُ الربُّ بها عِندَ الحاجة. يوْصي الربُّ بعَمَلِ الرَّحمةِ خاصَّةً تُجاهَ الضعيفِ، الكسيرِ، الحزينِ والخاطئِ، فَقَدْ قال أحَدُ القديسينَ : كن شريكًا لحزانى القلبِ بِصَلاتِكَ وقلبِكَ الشفوقِ فيُفتَحَ أمامَ طِلباتِكَ ينبوعُ الرَّحمة. الرحيمُ، هو الذي يتحنَّنُ ويُشفِقُ على الجميعِ ويُصلِّي لأجلِ المخلوقاتِ كلِّها والكون بأسرِهِ. لنضَع السامريَّ مكان كلِّ واحدٍ منَّا، لنرى ما كنَّا لنفعلَهُ ! فيسوع المسيح قال المثَل، بتلقائيَّةٍ مُدهِشَةٍ دونَ تفكيرٍ، من عمقِ قلبِهِ المجروحِ من قَساوَةِ قَلْبِ الإنسَانِ على أَخيهِ الإنسَانِ، فأَرَادَ أنْ يقولَ لنا : ” أيُّها الإنسانُ، إنَّ عدوَّكَ الذي تكرَهُهُ، تُبغِضُهُ ولا تُطيقُ رؤيتَهُ، الذي لا تتوَقَّع منهُ زيارتَكَ أثناءَ مرضِكَ، ستندَهِشُ برؤيَتِهِ يزورُكَ وقتَ مرَضِكَ، لأنَّ المحبَّةَ والرَّحمَةَ دفعَتْهُ إلى تجاوزِ العداوةِ الموجودةِ بينكُما، لأنَّهُ وَجَدَ ذاتَهُ أمامَ إنسانٍ يتعذَّبُ، إنسانٍ بحاجةٍ إلى المساعدة، فما كان عليهِ إلاَّ أنْ ينسى ما كان بينكُما ويسامِحُكَ من كُلِّ قلبِهِ، لأنَّهُ إنسانٌ رحيمُ القلبِ. هكذا فعَلَ السامريُّ بالجريحِ “.
العبرة
الرحمةُ واجبُ كلِّ إنسانٍ سواء أكانَ مسيحيًّا أم غير مسيحيّ ! لِنفتَحْ قلبَنا لرحمةِ اللهِ فتدخُلَ فيه، فلنُسامِحْ ونُساعِدْ من نكُنُّ لهُ الحقدَ والغَضبَ ! فاللهُ هو أبٌ لجميع البشر دونَ إستثناء، وكلّ البشرِ هُم إخوة، وأبناء أبٍ واحد، لا توجد عداوةٌ بينَهُم ؛ لذلكَ على الإخوةِ أنْ يحبوا بعضَهُم بعضًا بغضِّ النَظَرِ عن الطائفةِ والدين !