داود و جُليـات العدد (30)
داود و جُليـات
متى تثور غيرة الناس الصالحين، الساكنين على وجه هذه الارض، ازاءَ الظلم الفادح والمذابح الشرسة التي يتعرض لها الفلسطينيون على ايدي الصهاينة ؟ متى يصحو ضمير الشعوب لتضع حدًا لهذه الماساة التي يعاني منها شعب الارض المقدسة ؟
ان سياسة شارون الإجرامية تنقل فكري الى حدث تاريخي تذكره اسفار الكتاب المقدس، ولكن بعدما تنقلب الادوار، الا وهو القتال الذي جرى بين جُلْيات الجبّار والنبي داود ؛ كان جُلْيات عملاقًا، طوله ستُ اذرع وشبر، وعلى رأسه خوذة من نحاس، يلبس درعًا وزنه ربع قنطار، يحمل رمحًا يزن رأسه رطلين، فاخذ النبي داود عصاه بيده، والتقط خمسة احجار صغيرة من الوادي ووضعها في الكيس الذي يحمله وتناول مقلاعه بيده وتقدم نحو جُلْيات ؛ فلما رآه هذا، لم يكترث له، لان داود كان فتيًا. فهدده قائلاً : (( ساجعل لحمك طعاما لطيور السماء ووحوش البرية ))، فاجابه داود : (( انت تحاربني بالسيف والرمح والترس، وانا احاربك باسم الرب القدير… ))، ولما هبّ جُلْيات لملاقاة داود، مَدّ النبي يده الى كيسه واخذ منه حجرًا وقذفه بالمقلاع، فاصابه في جبينه، وانغرز الحجر فيه، فسقط هـذا الـى الارض، فاسـرع داود واستـل سـيف جُلْيـات فقتله (1 صموئيل 17).
إننا نرى اليوم السفّاح شارون على رأس جيش جرار، مزودًا بشتى صنوف الاسلحة الفتاكة، من طائرات مقاتلة ومروحيات مهاجمة ودبابات وصنوف شتى من الدروع والمدافع والبنادق، يهجم على الشعب الفلسطيني الأعزل، ولكن هذا يدافع عن نفسه، حاملاً سلاح داود النبي، اي الحجر، ومزودًا بإيمانه بالله وبعدالة قضيته وبحقوقه المشروعة، يجابه ” إسرائيل “… فـلا بُـدّ ان ينتصـر الشـعب الفلسطيني البطل في نهاية المطاف، لانه شعب مظلوم، ويقول المثل ” الكفر يدوم والظلم لا يدوم “، بل ان تباشير هزيمة شارون ظاهرة جلية، اذ ان الشعب الفلسطيني، ما زال صامدًا لم يستسلم برغم الدمار الشامل وبرغم عدد الشهداء المرتفع. إن البرهان الساطع على عدالة قضية
الشعب الفلسطيني هي تظاهرات التضامن معه التي اندلعت في مدن بلدان الارض كلها.
ان شخصية شارون الحاقد، الذي يحصد أرواح آلاف الفلسطينيين، بذريعة قتل افراد قلائل من الاسرائيليين على يد شاب فلسطيني بطل يفجّر نفسه ردًا على الجرائم البشعة التي يرتكبها الجيش الصهيوني، تذكّرني بشخصية مشابهة في العهد القديم اسمه لامك، الذي عبّر عن ساديته لامرأتيه قائلاً : (( إسمعا قولي، يا امرأتَي لامك، وأصغيا لكلامي، إنني قتلتُ رجلاً بسبب جرحٍ، وَوَلدًا بسبب رضٍّ، فإذا أُنتُقِمَ لقائين سبعة أَضعاف، أمّا لِلامِك فسبعةً وسبعين )) (التكوين 23/4-24).
ان الجرائم التي ارتكبها ارييل شارون تناقض الشرائع التي وردت في جميع الاديان، وحتى تلك التي نصت عليها الشريعة الموسوية، التي تسمح بشريعة الثأر وبالعقوبة بالمثل في النص التالي : (( لا تُشفِقْ عَينُكَ : النفسُ بالنفسِ، والعينُ بالعينِ، والسِنُّ بالسِّنِ، واليدُ باليدِ، والرجلُ بالرجلِ )) (تثنية 21/19). تهدف هذه الشريعة الموسوية لتحقيق العدالة بين الناس في العهد القديم… إننا نعلم علم اليقين ان السلام غير ممكن تحقيقه من دون عدالة ولا عدالة من دون محبة، ولا محبة من دون تسامح ومن دون تطبيق قاعدة المسيح الذهبية القائلة : (( فكلُّ ما اردتم أن يفعلَ الناس لكم، إفعلوه انتم لهم : هذه هي الشريعة والانبياء )) (متى 12/7).
موقف الكرسي الرسولي
ساد جو الكآبة والقلق إحتفالات عيد الفصح المجيد في روما، عوض اجواء السلام والفرح والحيوية. لم ينفك قداسة البابا يوحنا بولس الثاني من ربط آلام السيّد المسيح بالآلام التي يعاني منها سكان الارض المقدسة.
تجاه تفاقم الوضع صباح احد القيامة المصادف 31 آذار 2002، وجّه قداسة البابا نداءً ملحًا للسلام قائلاً : ” لقد أُعلنت الحرب على السلام، وعلى كل المسيحيين أن يستجيبوا لصراخ الاستغاثة، ليعمل كل ما في وسعه ليضع السلام حدًا للمأساة وللمظالم والمجازر التي تدمي الارض المقدسة… ان الحرب لا تقدم أيّ حلول للمشاكل، إنها تزيد آلام البشر، وتزرع الموت… ان الماساة خطيرة حقًا، لا يمكن لأي احد ان يقف مكتوف الايدي… بعد اجراء المباحثات، يجب الانتقال الى اعمال التضامن لمساعدة كل الناس لكي يعودوا الى الاحترام المتبادل والمباحثات النزيهة “.
أعلن سيادة المطران بطرس سامبي، السفير البابوي في ” إسرائيل “ وفـي الاراضي الفلسطينية : ” أن الأب الأقدس تدخل اسبوعيًا لوضع حد للنزاع في الارض المقدسة منذ شهر تشرين الثاني 2000، وذلك عِبر ممثّليه لدى الدول “.
وصباح نهار إثنين القيامة المصادف 1 نيسان 2002، دعا قداسة البابا الجماهير المحتشدة امام مقرّه في كاستل كوندولفو للصلاة من اجل سكان بيت لحم المعرّضين للخطر… زاد الكرسي الرسولي اتصالاته برؤساء الدول، ووجّه في الرابع من نيسان رسالة الى الاساقفة الكاثوليك يدعوهم فيها ليكرّسوا يوم السابع من نيسان للصلاة من اجل السلام في الشرق الاوسط. وكثّف الكرسي الرسولي اتصالاته لإيجاد حل لمشكلة كنيسة المهد حيث لجأ حوالي 200 فلسطيني مسلّح برفقة 40 راهبًا فرنسيسكانيًا وبسماح من غبطة بطريرك اللاتين في القدس ميشيل صبّاح، الذي هو فلسطيني، فحاصرت المدرعات الاسرائيلية كنيسة المهد.
دعا الكرسي الرسولي السيد محمد علي محمد، ممثل الجامعة العربية لدى الكرسي الرسولي، وسلمه رسالة تضامن من قداسة البابا إلى الرئيس ياسر عرفات، إذ لم يتمكن الفاتيكان من ايصال الرسالة بسبب الحصار المفروض عليه.
كما اعلن ممثّل منظمة التحرير الفلسطينية لدى الفاتيكان السيد عفيف صافيه، ان الاسرائيليين اوقفوا سيادة المطران سامبي ممثل قداسة البابا، حينما حاول الوقوف بين الجيش الاسرائيلي وبين مكاتب الرئيس ياسر عرفات في رام الله، فاعلن : ” لقد نجح الاسرائيليون في احتلال الاراضي الفلسطينية في ستة ايام، وعليهم الإنسحابُ منها في الفترة الزمنية نفسها، ونسمح لهم في اليوم السابع أن يستريحوا “.
مجلس مطارنة العراق
عقد مجلس مطارنة العراق إجتماعًا مهمّـًا برئاسة غبطة ابينا مار روفائيل الاول بيداويد بطريرك بابل على الكلدان في دار البطريركية الكلدانية في بغداد يوم الخميس 2002/4/11، إستعرضوا فيه الاوضاع المؤلمة في الاراضي المقدسة، ووجّهوا في ختام الاجتماع بيانًا قُرِأ في كنائس العراق كافّة، ونود نختم إفتتاحية هذا العدد بنص هذا البيان :
بيان من مجلس مطارنة العراق
إن ما يجري هذه الأيام، في فلسطين الجريحة، لشعبنا وأهلنا في الأرض التي تقدست بكلمات المحبة والسلام، يُدمي قلوبنا حتى الصميم. وما تحمله إلينا وسائل الإعلام يفوق بضراوته وشراسته كل ما يتصوره العقل، ويجعلنا نضمّ أصواتنا إلى أصوات كل ذوي الإرادة الصالحة ومحبّي السلام في العالم لنستصرخ ضمير قادة الدول، لا سيّما الذين بيدهم المفاتيح لهذه القضية المأساة، أن يعملوا كل ما في وسعهم لإيقاف هذا العنف الأعمى الذي يحصد حياة الأبرياء كل يوم.
فنحن، رؤساء الكنائس المسيحية في العراق، إذ نستنكر بشدّة الاجتياح الإسرائيلي وكل أعمال العنف والتدمير ومحاصرة المدنيين في بيوتهم وفي كنيسة مهد السيد المسيح نفسها… نبتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن يرحم أرواح ضحايا هذه الحملة المدّمرة التي تقوّض أسس السلام والإستقرار في المنطقة والعالم.
وندعو للعودة إلى منطق التفاوض والحوار الهادئ والتفاهم المتبادل، وصولاً إلى إيقاف دوّامة الحروب وإعادة الحقوق المشروعة إلى إخواننا في أرضهم وتاريخهم.