الافتتاحية

” خبزنا الجوهري أعطنا اليوم “ العدد (67)

                                     ” خبزنا الجوهري أعطنا اليوم “
                                                                                                                   
(متى 11/6)


طلب ”” الخبز ““ في صلاة ”” أبانا الذي… “
في القسم الأول من ” الصلاة الربية “، التي علمنا إياها يسوع المسيح، تتجه أفكارُنا نحو السماء، لنقدّس إسم الآب السماوي ونطلب حلول ملكوته وتكميل مشيئته على الأرض كما في السماء.
أما في القسم الثاني، فإن أنظارنا تتحول نحو الإنسان، فنرفع تضرعنا إلى الله ليلبي حاجات الإنسان الروحية والمادية.
ورد نص الطلبة الأولى اليوناني في بشارة الإنـجيلي متـى على النحو الآتي : ” خبز كفافنا أعطنا اليوم “ (متى 11/6) ؛ ووردت صيغتها في بشارة الإنجيلي لوقا على النحو الآتي : ” خبز كفافنا أعطنا كل يوم “ (لوقا 3/11).
فما هو نوع الخبز الذي نطلب من الله أن يوفره لنا في هذه الطلبة ؟ هل يقتصر على الخبز المادي المكوّن من الطحين والخميرة والماء والملح ؟ هل نكتفي بطلب خبزنا هذا اليوم ؟ أم تتضمن هذه الطلبة التضرع إلى الرب ليضمن لنا خبز غدِنا أيضًا ؟ وهل يَشمل هذا الدعاء طلب الخبز الروحي، أي الافخارستيا، أي خبز الحياة الأبدية ؟
للخبز طابع مقدس في الإنجيل الطاهر، يظهر ذلك من معجزات يسوع، مثلاً في مـعـجـزة ” تكثير الخبـز والــسمـك “ (متى 13/14-21) ؛ وفي مواعظه وفي الأمثلة التي ضربها، منها : مثل ” الخميرة التي تخمـر الـــعجنــــة كـلهـا “ (متى 33/13)، ومثل ” الـزارع “ (متى 3/13-8)، ومثـل الـزرع الذي ينمو بنفسه “ (مرقس 26/4-29).
للخبز مكانة سامية في ذهنية المؤمنين الشرقيين، التي لا تجيز إلقاء الخبز على الأرض، أو أن يداس بالأقدام، فإذا وجد أحدهم كسرة خبز ملقاة على الأرض، التقطها وقبّلها ووضعها في مكان عالٍ لا تطالها الأقدام.
حينما نقرأ أَسفار الكتب المقدسة وكتابات آباء الكنيسة وقصائد الشعراء ومؤلفات الأدباء والفلاسفة، نجد بسهولة أن عبارة ” الخبز “ لا تشير إلى الغذاء المادي حسبُ، بل انها تحمل معانَي ورموزًا روحية سامية.
فما الذي نطلبه من الله عبر طلبة ” الخبز “ ؟
تتضمن طلبة ””” الخبز ““ حاجاتنا المادية
يؤكد آباء الكنيسة، الذين شرحوا الصلاة الربية، ان أول شيء نطلبه من الله، عبر كلمات هذه الطلبة، هو غذاؤنا المادي وسائر حاجاتنا الأرضية.
يقول القديس يوحنـا الذهبي الفـم (344-407 م) فـي معرض شـرحه هـذه الطلبة : ” لِِماذا كنا نطلب الخبز يوميًا، لو لم يكن تكويننا جسديًا وليس ملائكيًا ؟ إن جسدنا بحاجة إلى هذا الخبز “(1).
يؤكد تيودورس المصيصي (350-428 م) الشيء ذاته في إحـدى مـواعظـه التي يشـرح فيها الصلاة الربية قائلاً : ” أعطنا اليوم الخبز الضروري (لحياتنا الأرضية) “(2).
يذكر سائر آباء الكنيسة الغذاء المادي الذي يحافظ على الحياة الجسدية، فمن المناسب أن نطلبه من الله في هذه الطلبة، فالمعدة تحتاج إلى الخبز والغذاء المادي لنتمكن من الحفاظ على حياتنا الأرضية وعلى جسدنا الذي خلقه الله ووضعه بين أيدينا لنعتني به ونطعمه، فإذا أهملناه، نكون قد قصّرنا بواجبنا تجاه خليقة الله الرائعة هذه.
سبق العهد القديم وبيّن كيف ان الله إهتم بتوفير الغذاء المادي للشعب اليهودي في مسيرته في صحراء سيناء، حينما أنزل لهم المنّ من السماء، الذي كان يمطره عليهم يوميًا (خروج 4/16).
أكّد يسوع نفسه أن العناية الإلهية تهتم بتوفير المستلزمات المادية للإنسان، منها الغـذاء المـادي، قائـلاً : ” لـذلك أقـول لكـم : لا يهمكـم للعيـش ما تأكلـون ولا للجسـد مـا تلبسـون، أليسـت الحيـاة أعظـم مـن الطعـام، والجسـد أعظـم من اللبـاس ؟ انظـروا إلى طيور السماء كيف لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الأهراء، وأبوكم السماوي يرزقها، أفلستم أنتم أثمن منها كثيرًا ؟“ (متى 25/6-26).
لا يشجعنا يسوع على الكسل في هذه العظة، بل يحثنا على الإيمان بالله والثقة بالعناية الإلهية، ويريد أن يحررنا من القلق، إذ يختم بهذه الكلمات : ” فلا تقلقوا فتقولوا : ماذا نأكل ؟ أو ماذا نشرب ؟ أو ماذا نلبس ؟ فهذا كله يسعى إليه الوثنيون، وأبوكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذا كله ؛ اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، تُزادوا هذا كله، لا يهمكم أمر الغد، فالغد يهتم بنفسه، ولكل يوم من العناء ما يكفيه “ (متى 31/6-34).
طبعًا ان الحياة هي أفضل من الطعام، لكنها تحتاج إليه لتواصل مسيرتها الأرضية، فكما ان الروح والعقل لهما متطلباتهما، فالمعدة أيضًا لها حقوقها، من دون تلبيتها يموت الإنسان.
يسوع هو خبز الحياة
تساعدنا العودة إلى النص اليوناني في معرفة نوع الخبز الذي نطلبه في الصلاة الربية، إذ لا يقتصر على الخبز المادي.
ان الكلمة اليونانية التي نترجمها بالعربية ” كفاف “ هي epiousios، متكونة من مقطعين مدموجين ؛ يمكن ان تعني الأمرين المختلفين الآتيين :
(1) فإذا ترجمناها مدموجة المقطعين، فإنها تعني ” كفاف “، فيكون معنى الطلبة ” أعطنا خبزنا كفافنا اليومي “.
(2) أما إذا قسمنا هذه الكلمة إلى العبارتين المدمـوجتيـن، عـلى النحو الآتي : ” اوسا ousiaو ، epi “ فتعني ” جوهري، أو فائق الجوهر “، فيكون معنى الطلبة كالآتي : ” أعطنا خبزنا الجوهري “.
يترجم مفسر الكتاب المقدس القديس هيرونيموس هذه العبارة باللغة اللاتينية كالآتي : (Panem nostrum supersubstantialem da nobis hodie)3  
أي ” خبزنا الجوهري أعطنا اليوم ، (أو فائق الجوهر، أي أسمى من كل جوهر ومن خليقة) : 
علمًا أن الطقس الارثذكسي في فرنسا يترجم هذه العبارة كالآتي : ” أعطنا اليوم خبزنا الجوهري “.
يمكننا القول إذن، ان القديس هيرونيموس وسائر آباء الكنيسة، كانوا يعرفون اننا لا نطلب في هذه العبارة مجرد الخبز المادي، بل أكثر من هذا بكثير، اننا نطلب خبزًا ساميًا، فائق الجوهر، اننا نطلب ذاك الذي قال عن نفسه ” أنا الخبز الحي النازل من السماء “ (يوحنا 51/6)، لأن يسوع هو أسمى من كل جوهر وأسمى من كل الخلائق.
يترجم إنجيل العبرانيين المنحول، الذي دوّن بالآرامية في إحدى مناطق بلدنا هذه الطلبة على النحو الآتي : ” خبز غدنا أعطنا اليوم “، أي أعطنا اليوم خبز المستقبل، أي إننا نريد منذ الآن أن نتذوق غذاء العالم الآتي، أي الافخارستيا.
لذا حينما كان آباء الكنيسة يشرحون هذه الطلبة، كانوا يفكرون بنوعين من الخبز، الخبز المادي والخبز الافخارستي.
أوصانا يسوع ألاّ نكتفي بطلب الخبز المادي الذي يمنح الحياة الارضية المؤقتة. بعدما إجترح معجزة تكثير الخبز، ترك الجماهير بعيدًا والتحق بتلاميذه، ولكن الجماهير بدأت تفتش عنه في كل مكان إلى أن وجدته، فقالوا له : ” رابي متى وصلت إلى هنا ؟ “، أجابهم يسوع :  الحق الحق أقول لكم : لم تطلبوني لأنكم رأيتم الآيات، بل لأنكم أَكلتم الخبز وشبعتم، لا تعملوا للقوت الفاني، بل اعملوا للقوت الباقي في الحياة الأبدية، القوت الذي يعطيكموه ابن انسان… قالوا له ” سيدي، أعطنا من هذا الخبز دائمًا أبدًا “ فأجابهم يسوع ” انا خبز الحياة، من يأتني لا يجوع ابدًا… “ (يوحنا 25/6-35).
يحتوي الخبز في جوهره فضيلة ” المحبة “ “
الخبز علامة ورمز الحياة، فمن له خبز، بإمكانه أن يعيش ؛ واليوم ملايين من البشر جياع إلى الخبز، يهدد الجوع حياتهم، لذا على البشر أن يتقاسموه.
ان كسر الخبز في الإنجيل يعني مقاسمة الغذاء مع الآخرين. ففي العشاء الفصحي الأخير كسر يسوع الخبز ليتقاسمه مع تلاميذه (متى 26/26)، وبعد قيامته المجيدة كسر الخبز ليتقاسمه مع تلميذي عماوس (لوقا 30/24).
يريد الله أن يتقاسم البشر الغداء مع الجياع، هذا الخبز الذي أغدقه عليهم هو وأمرهم أن يتقاسموه بينهم. فحينما اجترح يسوع معجزة تكثير الخبز، أمر تلاميذه لكي يوزعوه على الجماهير قائلاً : ” أعطوهم أنتم لياكلوا… فأخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين، ورفع عينيه نحو السماء، وبارك وكسر الأرغفة، وناولها تلاميذه، والتلاميذ ناولوها الجموع، فأكلوا كلهم حتى شبعوا “ (متى 16/14-21).
في حالة تقاعس المرء عن اعطاء هذا الخبز والغذاء الضروري للحياة الأرضية يرتكب خطأً جسيمًا يحاسبه الله عليه. كما أكد يسوع في مثل الغني ولعازر المسكين، كما ورد في بشارة لوقا الانجيلي : ” كان رجل غني يلبس الارجوان والكتان الناعم، ويتنعم كل يوم تنعمًا فاخرًا، وكان رجل فقير اسمه لعازر ملقى عند بابه… يشتهي أن يشبع من فُتاتِ مائدة الغني، مات المسكين فحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم، ثم مات الغني وقبـر، فرفـع الغني عينيـه في مثوى الأمـوات يقاسي العذاب… “ (لوقا 19/16-31).
لا ننسى اننا سوف ندان في غروب حياتنا على المحبة، التي تتجلى في مدى مساعدتنا لهؤلاء الاخوة الفقراء، كقول الرب للصديقين يوم الدينونة : ” تعالوا، يا من باركهم أبي، رثوا الملكوت المعد لكم منذ إنشاء العالم، لأني جعتُ فأطعمتموني وعطشت فسقيتموني… ان كل ما صنعتموه إلى أحد من اخوتي هؤلاء، فإليّ صنعتموه ؛ ثم يقول للمنافقين ” إذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الابدية. فقد جعتُ فلم تطعموني وعطشتُ فلم تسقوني… ان كل ما لم تصنعوه لأحد هؤلاء الصغار فإليَّ أيضًا لم تصنعوه، ويذهب هؤلاء إلى العـذاب الأبـدي ويذهـب الصديقــون إلى حياة خالدة “ (متى 34/25-46).
علينا أن نطلب دائمًا نوعي الخبز
بما أَننا بحاجة ماسة إلى نوعي الخبز : الخبز المادي الذي يمنح حياة الدنيا، والخبز الروحي، أي الافخارستيا، الذي يمنح الحياة الأبدية، علينا ان نطلبهما كليهما يوميًا في الصلاة الربية. 
يؤكد مفسِّرو الطقوس، اننا نتلو الصلاة الربية في القداس، مباشرة قبل مراسيم تناول القربان المقدس، لأنها تحتوي على عبارة ” أعطنا خبزنا كفافنا “، التي تتضمن طلب الخبـز الافخارستـي، فالمؤمنون لا يطلبون الخبز المادي حسبَ، لأن الانسان لا يحيا بالخبز المادي وحده، بل يطلبون أيضًا الخبز الروحي، إذ يشعرون بحاجتهم الماسة إلى الافخارستيا الذي يمنح الحياة الإلهية والقداسة، فيطلبون من الرب ألاّ يحرمهم منه أبدًا.
                                                                                                                                                      عيد الصليب المقدس
                                                                                                                                                   الاربعاء 14 أَيلول 2011


(1) الموعظة 5/19، في شرح آية متى 7 (25)، راجع الباثرولوجيا اليونانية 280/57.
(2) تونو، مواعظ تيودورس المصيصي، دراسات ونصوص 145، الموعظة 11، حاضرة الفاتيكان 1949، ص281.
(3) مجلة ” العائلة المسيحية “ الفرنسية العدد 1721 (2011) ص48.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى