جمعة الذهب العدد (77)
إلى ماذا تشير عبارة ” جمعة الذهب ” ؟
تقيم الكنيسة الكلدانية مناسبة طقسية هامة نهار الجمعة الذي يلي عيد العنصرة، أي ” عيد حلول الروح القدس على التلاميذ “، تطلق عليها تسمية عروت ددىبا ” جمعة الذهب “(1).
تشير تسمية ” جمعة الذهب ” إلى المعجزة الأولى التي إجترحها القديس بطرس بشفائه رجلاً كسيحًا من مولده، وذلك بإسم يسوع المسيح، وإلى العبارة التي وجههـا إلى الرجل المشلـول الذي طلب منه صدقة، فأجابـه : ” لا فضة ولا ذهب “، الواردة في النص الآتي من سفر أَعمال الرسل :
” وكان بطرس ويوحنا صاعدين إلى الهيكل لصلاة الساعة الثالثة بعد الظهر. وكان هناك رجل كسيح من بطن أمه يحمله بعض الناس ويضعونه كل يوم على باب الهيكل المعروف بالباب الحسن، ليطلب الصدقة من الذين يدخلون الهيكل ؛ فلما رأى بطرسَ ويوحنا يوشكان أن يدخلا، إلتمس منهما الحصول على صدقة. فحدّقَ إليه بطرس وكذلك يوحنا، ثم قال له : ” إنظر إلينا “. فتعلّقت عيناه بهما يتوقّع أن ينال منهما شيئًا. فقال له بطرس : ” لا فضة عندي ولا ذهب، ولكني أُعطيك ما عندي : بإسم يسوع المسيح الناصري إمشِ “، وأمسكه بيده اليُمنى وأَنهضه، فاشتدت قدماه وكعباه من وقته، فقام وَثبًا وأخذ يمشي، ودخل الهيكل معهما، ماشيًا قافزًا يسبّح الله. فرآه الشعب كله يمشي ويسبّح الله، فعرفوه ذاك الذي كان يقعد على الباب الحسن في الهيكل يطلب الصدقة، فأخذهم العجب والدهش كل مأخذ مما جرى له “ (أعمال 1:3-10).
” جمعة الذهب ” عيد هام في الطقس الكلداني
تعتبر كنيستنا الكلدانية هذه المناسبة عيدًا من أَعيادها، فنقرأ في كتاب الصلاة العنوان الآتي : ” عروت ددىبـا وايـك عـادا مشـةمشـا ” أي ” جمعة الذهب، يحتفل بها كأحد الأعياد “(2).
يظهر طابع ” جمعة الذهب ” الإحتفالي من خلال العناصر الليتورجية التي تؤديها كنيستنا في القداس الكبير الذي تحتفل به وفي صلاتي المساء والصباح التي تقيمها هذا اليوم. نشير إلى بعضٍ من هذه العناصر فيما يأتي :
ففي القداس الإلهي، في ليتورجيا كلمة الله، نتلو القراءات الكتابية الآتية :
القراءة الأولى مستقاة من نبوءة أشعيا 3:35-10، جاءَ فيها : ” قوّوا الأيدي المسترخية، شددوا الركب الواهنة… تقوّوا ولا تخافوا، هوذا إلهكم… هوذا يأتي فيخلصكم، حينئذٍ تتفتح عيون العميان… وحينئذٍ يقفز الأعرج كالأيل… “.
يتلو الشماس في القراءَة الثانية نص المعجزة الوارد في سفر أَعمال الرسل الذي ذكرناه في مطلع هذا المقال.
وفي القراءَة الثالثة يتلو الشماس نصًا من رسالة القديس بولس الأولى إلى أَهل قورنثس (1 كو 28:12 – إلى نهاية الفصل 13)، مما جاء فيه : ” فأنتم جسد المسيح، وكل واحد منكم عضو فيه، والذين أَقامهم الله في الكنيسة هم الرسل أولاً والأنبياء ثانيًا والمعلمون، ثم هناك المعجزات… “.
وفي القراءة الرابعة يتلو الكاهن النص الوارد في بشارة القديس لوقا، التي تسرد شفاء عبد قائد المئة (لوقا 1:7-23).
ننشد في صلاة المساء الترتيلة الآتية ترجمتها :
” إنها لجديدة المعجزة التي إجترحها الرسل في هيكل أورشليم : كسيح من بطن أمه منحوه قدرة السير بإسم يسوع، فتعجبت جموع الصالبين، إذ شاهدوا عظمة الأعجوبة : بإسم يسوع الذي صلبوه نال الكسيح المقدرة على السير “(3).
شفاء الكسيح علامة لحلول الزمن المسيحاني
ما هو السبب الذي جعل القديس لوقا يهتم بتسجيل هذه الحادثة في سفر أَعمال الرسل ؟ ومـا هو السبب الذي جعل المسيحييـن الأوليـن يحتفظـون بها فـي ذاكرتهم ؟
يعطي الإنجيلي لوقا لهذه المعجزة الأهمية والقيمة ذاتها التي كانت للمعجزات التي إجترحها يسوع المسيح أثناء حياته الأرضية، إنها علامة واضحة لبلوغ الزمن المسيحاني الذي تنبأ عنه الأنبياء وانتظره اليهود منذ أَمدٍ بعيد، الذي يتدخل به الله في تأريخ البشر ليخلصهم.
أشار يسوع بوضوح إلى بلوغ الزمن المسيحاني في العظة التي ألقاها في مجمع الناصرة يوم السبت، ندرجها كما وردت في إنجيل لوقا :
ودخل (يسوع) المجمع يوم السبت على عادته وقام ليقرأ، فدُفِعَ إليه سفر النبي أشعيا. ففتح السفر فوجد المكان المكتوب فيه :
” روح الرب عليَّ، لأنه مسحني لأبشّر الفقراء وأرسلني لأعلن للمأسورين تخلية سبيلهـم وللعميـان عـودة البصـر إليهـم وأفرّج عن المظلومين وأعلن سنة رضا عند الرب “.
ثم طوى السفر فأعاده إلى الخادم وجلس، وكانت عيون أَهل المجمع كلهم شـاخصةً إليـه، فـأخذ يقـول لهم : ” اليـوم تمت هـذه الآيـة بمسمـع منكـم “ (لوقا 14:4-21).
وهذا مـا أكدّه يسـوع مـرة أخرى لتلاميذ يوحنا المعمذان، الذين أرسلهم إليه مستفسرًا عن هويته في النص الكريم الآتي :
“ وسمع يوحنا وهو في السجن بـأعمال المسيـح، فـأرسل تلاميـذه يسأله بلسانهم : أَأَنت الآتي، أم ننتظر آخر ؟ فأجابهم يسوع : إذهبوا وأخبروا يوحنا بما تسمعون وترون : العميان يبصرون والعرج يمشون مشيًا سويًا، البرص يبرأون والصم يسمعون، الموتى يقومون والفقراء يبشرون وطوبى لمن لا يشك فيَّ ” (متى 2:11-6).
إن جواب يسوع لتلاميذ يوحنا نسيج من نبوءات الأنبياء عن الزمن المسيحاني، منها : ” حينئذٍ تتفتح عيون العميان، وآذان الصم تتفتح وحينئذٍ يقفز الأعرج كالأيل ويهتف لسان الأبكم “ (أشعيا 5:35-6).
معجزة شفاء الكسيح تبشيرٌ بالإنجيل المقدس
إن صنع المعجزات والتبشير بالإنجيل مرتبطان إرتباطًا وثيقًا ببعضهما، إن معجـزة شفاء الكسيـح تشهد بتنفيـذ أمر يسـوع للرسل الذيـن كلفهم بالمهمتين الآتيتيـن : شفـاء المرضى وإعلان الإنجيـل : ” ودعا يسوع تلاميذه الإثني عشر وأعطاهم سلطانًا على جميع الشياطين وقدرة على شفاء الأمراض، ثم أرسلهم ليبشروا بملكوت الله ويشفوا المرضى… فخرج التلاميذ وساروا في القرى يبشرون ويشفون المرضى في كل مكان “ (لوقا 1:9-6).
كانت المعجزة فرصة سانحة للتبشير بالإنجيل لأنها تبيّن كيف جرت ومن هو الذي إجترحها. كما نقرأ في سفر أعمال الرسل : ” فنزل فيلبس إلى مدينة في السامرة وبدأ يبشر فيها بالمسيح، وأَصغت الجموع بقلب واحد إلى أقواله، لأنها سمعت بعجائبه أو شاهدتها… ونال الشفاء كثير من المفلوجين والعرج، فعمّ المدينة فرح عظيم… فلمـا بشـرهم فيلبـس بملكـوت الله وإسـم يسـوع المسيـح آمنـوا وتعمـذ رجالهـم ونساؤهـم… “ (أعمال 5:8-12).
يظهر بجلاء دور المعجزة حينما نقابل المعجزات الثلاث التي جرت لأناس مشلولين :
المعجـزة الأولى إجترحهـا يسـوع نفسـه : ” وكان ذات يوم يعلّم… وإذا أناس يحملون على سرير رجلاً كان مقعدًا، ويحاولون الدخول به ليضعوه أَمامه… فلما رأى إيمانهم قال : ” يا رجل، غفرت لك خطاياك… فلكي تعلموا أن إبن الإنسان له في الأرض سلطان مغفرة الخطايا، قال للمقعد : ” أقول لك : قم فأحمل سريرك وأذهب إلى بيتك، فقـام من وقته بمرأى منهم وحمل ما كان مضطجعًا عليه ومضى إلى بيتـه وهو يمجد الله “ (لوقا 17:5-26).
والمعجزة الثانية إجترحها القديس بولس : ” وكان في لسترة رجل كسيح مقعد من بطن أمه، لم يمشِ قط، وبينما هو يصغي إلى بولس يتكلم، حدّق إليه بولس فرأى فيه من الإيمان ما يجعله يخلص، فقال بأعلى صوته : ” قم فأنتصبْ على قدميك، فوثب يمشي… “ (أعمال 8:14-10).
والمعجزة الثالثة التي جرت على يد القديس بطرس كما ذكرنا أعلاه.
إن المعجزات الثلاث إرتبطت بالتبشير بالإنجيل.
شفاء الكسيح تبشير بيسوع الحي القائم من بين الأموات
إن معجزة الشفاء التي إجترحها القديس بطرس هي رمز لقدرة يسوع المحيية، أَشار القديس بطرس إلى هذا حينما أَمر المقعد قائلاً : ” بإسم يسوع المسيح الناصري أمشِ “. إن الإسم هو مرادف للشخص نفسه ولقدرته، لذا فإن بطرس حينما يتلفظ بهذه العبارة يريد أن يؤكد أن الرسل يتكلمون ويعلّمون بقوة يسوع المسيح الحي.
لا بُدَّ أن المقعد كان قد سمع عن يسوع وعن المعجزات التي كان يصنعها خلال حياته الأرضية ؛ لذا فإن القديس بطرس أراد بهذا الكلام أن يبيّن أن يسوع الناصري الذي كان خلال حياته الأرضية قد إجترح هذه المعجزات لا زال حيًّا بعـد قيامتـه المجيـدة وهو الذي إجترح هذه المعجزة الجديدة من خلال بطرس، وكان دور بطرس أن يشهد لهذه الحقيقة.
أعلن القديس بطرس شهادته خلال الخطاب الذي أَلقاه في الهيكل بمناسبة إجتراح هذه المعجزة حينما كلّم الشعب قائلاً : ” يا بني إسرائيل، لماذا تعجبون من ذلك ؟ ولماذا تحدقون إلينا. كأننا بذاتِ قوّتنا أو تقوانا جعلناه يمشي ؟ إن إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، إله آبائنا، قد مجّد عبده يسوع الذي أسلمتموه إلى الموت…. فقتلتم سيد الحياة. فأقامه من بين الأموات، ونحن شهود على ذلك. ومن فضل الإيمان بإسمه أن ذاك الإسم قـد شـدّد هـذا الرجل الذي تنظرون إليه وتعرفونـه، والإيمـان الذي مـن عنـــد يســوع هـــو الــذي وهــب لهــذا الـرجـــل كمــال الصحـة هــذه بمـــرأى منكــم جميـعًا ” (أعمال 12:3-16).
(1) خياط بيجان : كتاب الصلاة لمدار السنة الطقسية (حوذرا)، القسم الثالث، ص فى-ؤد 85-
خياط بيجان، كتاب الصلاة : المصدر السابق ص 85
(3) خياط بيجان : كتاب الصلاة، ص 85.