جحشٌ محمَّلٌ بمعان سامية العدد (33)

جحشٌ محمَّلٌ بمعان سامية
المقدّمـــــة
حينما نحتفل بمراسيم ” احد السعانين “، ونتأمّل في مشهد دخول يسوع المسيح الإحتفالي مدينةَ اورشـليم، تَسـترعي انتباهَنا الشخوصُ الذين يتكوّن منهم موكب الإحتفال والادوارُ التي يؤدّونها والتراتيـلُ التي ينشـدونها، فنرى يسـوع محاطًا بتلاميذه الذين ينظّمون مسيرة الموكب، والجموعَ التي تفرش ثيابها على الطريق، والناسَ الذين يقطعون اغصانا من الاشجار ويطرحونهـا على السـبيل، والصبيانَ الذين يصرخون : ” اوشعنا لابن داود “.
إلاّ أن هناك كائنًا حيًا آخر يشارك في الموكب، لا نُعيره أهميةً كبرى، ويمرّ مفسّرو الكتب المقدسـة والواعظون على ذكره مَرَّ الكرام، ألا وهو الجحش الذي امتطاه يسوع اثناء المسيرة. فاذا دققنا النظر في النصوص الإنجيلية التي تسرد حدثَ ولوج يسوع الإحتفالي، لرأينا أن هذا الحِمار الصغير، قد نال شرفًا أثيلاً لم ينلْه احد من زملائـه من قبلُ. ولن ينولَه مِن بعدُ، وأن ذِكره سـوف يتردد على ألسُن البشـر، كل مَرّة تأملوا في هذه النصوص الكريمة. إن هذا الحيوان اللطيف هو إحدى الشخصيات الرئيسة والمهِمّة في مشهد دخول يسوع المدينة المقدسة، لأنه يُسْهِم إسهامًا فعّالاً في الكشف عن معاني هذه المراسيم وأبعادها، وفي تعرّف هويةَ يسوع المسيحانية، والصفات السـامية التي تتحلى بها رسـالته الخلاصيـة، والسمات الرائعة التي سيتصف بها ملكوته على الارض.
إختار يسوع بنفسه هذه المَطيـّــة
لربما يتبادر إلى اذهاننا أنّ هذا الحيوان اللطيف وُجِدَ مصادفةً في هذا المكان الذي مَرَّ به الموكب، فامتطاه يسوع ليرتاح من التعب الذي عاناه من السير على الاقدام في الطريق الطويلة الممتدة بين قريـة بيت فاجي وبين مدينـة اورشـليم. ولكن الإنجيليين الاربعة يُجمِعون على قول عكس ذلك، إذ إنهم يؤكّدون أن يسوع نفسـه إختار هذه المطيّة بقرار اتخذه مسـبقًا، وذلك لهدف في نفسـه، كما يذكر البشير مرقس في الفقرة التالية :
(( ولما قربـوا من اورشـليم، ووصلوا إلى بيت فاجي وبيت عنيـا، عند جبل الزيتون، أَرسلَ إثنين من تلاميذه، وقال لهما : ” إذهبا إلى القريـة التي امامكما، فما إن تدخلانهـا حتى تجدا جحشًا مربوطًا لم يركبه أَحدٌ من الناس، فحُلاّ رباطه واْتيا به. فإن قال لكما قائلٌ : ” لِمَ تفعلان هذا ؟ “ فقولا له : ” الربُّ محتاجٌ اليه “، فيرسـله إلى هنا في الحال. فذهبـا، فوجدا جحشًا عند بابٍ على الطريق، فحَلاّ رباطَه. فقال لهما بعضُ الذين كانوا هناك : ” ما بالكما تَحُلاّنِ رِباطَ الجحش ؟ “، فقالا لهـم كما أَمرهما يسـوع، فتركوهما. فجاءَ ا بالجحشِ إلى يسـوع، ووضعا ردائَيهما عليه فرَكبه… )) (مرقس 1/11-7). (راجع كذلك متى 1/21-3، لوقا 28/19-35، يوحنا 12/12-14).
لماذا اختار يسوع هذا الحمار الصغير ؟
إختار يسوع هذا الحمار الصغير، لأن ركوب هذا الحيوان الأليف كان العلامة والاشارة التي اعطاها الانبياء للمؤمنين، ليكتشفوا المسـيح المنتظر، فلقد سـبق أنْ أكّدوا أنّ المسـيح المخلّص الآتي سـوف يمتطي جحشًا يوم دخوله مدينة اورشليم دخولاً احتفاليًا، وبهذا اراد يسـوع ان يكمّل أقوال الانبيـاء التي تنبـأت عن هذا الحدث، كما يقول الانجيلي متى : {إنما حدث هذا ليتمَّ ما قيل على لسان النبي :
” قولوا لبنتِ صهيون، هوذا ملككِ آتيًا اليكِ،
وديعًا راكبـــًا على أَتانٍ، وجحشِ ابن دابّـة “ (متى 4/21-5)}
أشـار الرسول متى بهذه الآيات إلى اقوال النبي زكريـا التي دُوِّنت في القرن السادس قبل الميلاد، ولقد اجرى الانجيلي تغييرًا طفيفًا عليها، إذ قال النبي زكريا : ”…إبتهجي جدًا يا بنتَ صهيون واهتفي يا بنتَ اورشليم، هوذا ملككِ آتيـًا اليكِ… راكبًا على حمار وعلى جحشِ ابنِ اتان “ (زكريا 9/9).
المعانى النبويّة لدخول يسوع اورشليم
رسم الانبياء، الذين عاشوا قبل مجيء يسوع قرونا عديدة، صفاتِ المسيح – الملك الذي وعد به اللهُ البشرَ، وقالوا إن المسيح الآتي سيكون من سلالة الملك داود النبي (راجع اشعيا 6/9 و1/11-5، 2صموئيل 13/7).
يعرف يسوع اقوال الكتب المقدسة معرفةً تامة، لذا دخل مدينة اورشليم دخولاً إحتفاليًا، راكبًا على جحشٍ، لان مدينـة القدس هي عاصمـة ابيـه الملك داود، ويريـد ان يبيّـن انه هو المسـيح – الملك، الوريث الشرعي لداود، وانه يريد ان يؤكّد أن الاسلوب الذي اختاره لهذا الدخول يكمّـل أقوال الانبياء.
لذا سمح للجماهير ان تعلنـه ملكـًا بهتافاتهـا : ” تبـارك الآتـي باسـم الرب، ملك اسرائيل “ (يوحنا 13/12)، و” تبارك الآتي باسم الرب، تباركت المملكـة الآتيـة، مملكـة أَبينا داود “ (مرقس 9/11) و” هوشـعنا لابن داود “ (متى 9/21). ردَّ يسوع على الفرّيسـيين المحتجّين على هتافات الجماهير قائـلاً : ” الحق اقول لكم : لو سكتَ هولاء، لهتَفَتِ الحجارة “ (لوقا 40/19).
المعانى الرمزية التى تحملها هذه المطـيّة المتواضعة
لا يدخل ملوك الارض عواصمَهم راكبين حميرًا، بل ممتطين جيادًا قوية معدّة للحرب، وترمز إلى السيادة على مواطنيهم، لذا يزيّنون صدورَهم باوسمتهم الدالة على سـلطتهم الملكية، ولأن الحصان كان في العهد القديـم رمز السـلطة والقوة المسلّحة، كما يقول النبي داود : ” لا يجعل الله في قوّة الفرس هواه “ (مز10/146).
أكدّ النبي زكريّا أنّ الملك – المسيح الآتي – سيختلف عن سائر الملوك، لذلك سـيركب جحشًا متواضعًا، كما يقول : ” ابتهجي يا بنتَ صهيون واهتفي يا بنتَ اورشـليم، هـوذا مَلِكك آتيًا اليكِ بارًا، مُخلِّصًا وضيعًا، راكبا على حمار وعلى جحشٍ ابنِ أتان “ (زكريا 9/9).
حينما اختار يسـوع جحشًا ليركبه اثناء دخوله الإحتفالي إلى عاصمته القدس الشـريف، اراد ان يبيّن ان مُلكَه يتّسـم بالوداعـة والطيبـة والخدمة، لأن مَهَمّة الجحش هي خدمةُ الآخريـن وحملُ اثقالهـم، إنه رمـز اللاعنف، متعـوّد تحمّلَ الإهانات، وبرغم ذلك يبقى مسالمًا.
يسوع مثالــُنا الاسمى فى ممارسة السلطة والمسؤولية
وصف يسـوع نفسـه يومًا بقوله ” إني وديعٌ ومتواضعُ القلب “ (متى 9/11)، تضمّنت رسـالته التبشـيرَ بالوداعـة، كما قال في خطبتـه على الجبل ” طوبى للودعـاء، فانهم يرثون الارض “ (متى 4/5). لم يتقدم يسـوع ليملك على النـاس بالعنف وبالإكراه، بل غزا قلوبَ البشـر بالوداعة والطيبـة والحب، لانه استخدم سلطته ليخدم الناس، وليس ليخدموه، كما قال يومًا : ” لم يأتِ ابنُ الانسان ليُخدَم، بل ليَخدُمَ، ويَفديَ بنفسه جماعةَ الناس “ (متى 28/20).
عبّر يسوع عن مفهومه للرئاسة، كخدمة متواضعة، في مستهل عشائه الفصحي الاخير، حينما قام وغسـل أرجلَ تلاميذه، وقدّم شـرحًا لمبادرته قائلاً : (( أتفهمون ما صنعتُ اليكـم ؟ انتم تدعونني ” المعلّم والرب “، وأصبتـم في ما تقولون، فهكذا أَنا. فإذا كنتُ انا الرب والمعلّم قد غسلتُ أقدامكم، فيجب عليكم أنتم أيضًا ان يغسل بعضُكم أقدامَ بعض. فقد جعلتُ لكم من نفسي قُدوة لتصنعوا أنتم ايضًا ما صنعتُ إليكم )) (يوحنا 13/13-15).
نقتدي بيسوع حينما نمارس المسؤولية في العائلة، او في المجتمع على مثاله، لذا علينا ممارسة هذه المسؤولية بتواضع، فلا نستعلي على مرؤوسينا، ويجب ان يتّسم أسـلوبنا بالوداعة في تعاملنا مع اولادنا. لا يصبح حامل المسـؤولية المسـيحي قويًا مقتدرًا حينما يسـتخدم العنف والقسـوة في أداء واجبات حاله، فذلك – لعمري – هو الضعف بعينه، ولكن عليه ان يُظهِر قدرتَـه وقوتـه عِبر محبـة متفانيـة، وخدمـة متواضعة، وبهذا يصبح المسيح يسوع مثاله الاسمى في ممارسة مسؤولياته في الحياة.