تواضع وطاعة : ولادة جديدة (32)
الاب بشار متي وردة
قدّاس عيد الميلاد
” فقبلَ أن يأتي الإيمان، كنّا بحراسـة الشـريعة مُغلقًا علينا من أجل الإيمان المُنتظر تجلّيه. فصارت الشـريعة لنا حارسًا يقودنا إلى المسـيح لنـُبرر بالإيمـان. فلّمَّا جـاء الإيمــان، لم نبقَ في حكمِ الحارس، لأنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، فإنكم جميعًا، وقد اعتمذتـُم في المسـيح، قد لبستم المسيح : فليس هنـاك يهـودي ولا يونـاني، وليـس هناك عبد أو حر، وليـس هناك ذكرٌ وأَنثى، لأنكـم جميعًا واحدٌ في المسـيح يسـوع. فإذا كنتم للمسيح فأنتــم إذًا نَسلُ إبراهيم وأنتم الورثة وفقًا للوعد “.
(غلاطية 23/3-29)
الميلاد
قام بولس بخبرات إيمانية عدة، اصبحت له أشـبه بولادة جديـدة بالرب يسوع، تعلَّم كيف يقف متواضعًا أمـام الله ليُعلن أن إيمانـه بيسوع المسيح القائم من بيـن الأموات حرره ليكون في خدمة الله والناس. من مدينـة أفسـس سـمع أخبارًا لا تُرضيـه عن الفوضى التي تعيش فيها كنائس غلاطية بسـبب أولئك الذين يدعون المؤمنين لأن يبدأوا مسـيرة الإيمان من الناموس فيُكملوا متطلباته. انهم يعتبرون شـرطًا للدخول الى الحياة المسيحية. فما كان من بولس الا أن يُدافع بشدّة عن الرسـالة التي عايشـها بين كنائس غلاطية، منطلقًا من خبرته الشخصية التي تجعله يُناضل من أجل الحرية المسيحية التي اختبرها نعمةً لا إستحقاقًا. والحُرية لا تعني رخاوة أو صرامة، بل قُدرة الإنسان على الوقوف متواضعًا أمام الله، فيُصغي إلى كلمته مطيعًا ويُعبّر عنها خدمةً للآخريـن، مُحبًا إياهم حبه لنفسه. هذا الموقف يتيح له أن يستقبل الكلمة التي تلده إنسانًا جديدًا، ويعود ويُجسّدها في حياته، مُقدمًا إياها للعالم خلاصًا.
وجّه بولس رسالته إلى ” كنائس غلاطية “ (غل 2/1) على الأرجح من مدينة أفسس، وكانت هذه الكنائـس تتكون من تلك الجماعات المسـيحية المنتشرة في مقاطعة غلاطية وسط آسيا الصغرى. من الواضح ان بولس كتب رسالته إلى جماعة معينة في المقاطعة، كان معظمهـا من الأممييـن الذين اهتدوا على يد بولس (ربما خلال رحلته الثانية ؟). يرجّح معظم الباحثين ان المعنيين هم الجماعة التي سـكنت شـمالي مقاطعـة غلاطية، ويستبعد آخرون أن تكون الرسالة قد وُجهّت إلى الجماعة التي سكنت جنوبي المقاطعـة، والتي تألّفت من مسيحيين من أصل يهودي ويوناني.
لقد قَدِمَ إلى غلاطية مسيحيون من أصل يهودي يقولون إن مَن آمن بالمسيح، عليه أن يتهوّد أولاً، أي أن يُختن ويحفظ ناموس موسى، وهو ما لم يطلبه بولـس منهم، بل أرادهم مؤمنين بالخلاص الذي قدّمه الله بيسوع المسيح. فهل أخطأ بولس ؟
الإيمان والطاعة هما التعبير الحقيقي لإنسان دخل في عهد مع الله، مستعدًا لأن يجعل من حياته مجالاً لعمل الروح. آمن بولـس بأن الله بادر إلى شعبه بلقاءات عدة، واختبر بولس ذلك شخصيًا، لا في طاعته للشريعة ومتطلباتها فحسب – ولا يُلام بولس في هذا الأمر – بل من خلال الإيمان بفعل الله الخلاصي في إقامة يسوع المسيح. الشريعة كانت وما زالت، في فكر بولس، وسيلة بها يحاول الإنسان أن يقدم جوابًا إيمانيًا به يُظهر أمانته لله ولعهده مع شعب اسرائيل. ولكنها (أي الشريعة) وسيلة لا غير، ولا يُمكن أن تحل محل الله. فلا يُمكن بأي حال أن يقف الإنسان أمام الله مطالبًا بتبريره بناءً على إتمامه متطلبـات الشـريعة. الشريعة صالحة لكونهـا تُطلع الإنسـان على ما يتوقعه إله العهد منه. ولكنها لا تُقدم الخلاص، فالخلاص فعـل الله المُقدَّم لنا بالإيمـان بيسوع المسيح. فلا نخلص لأننا حفظنا الشريعة الموسوية، بل لإيماننا بيسوع المسيح والتزامنا بأن نعيش وفقًا لحياة إيماننا.
فيكون لإيماننا بُعد عملي حي في انه جواب على مبادرة الله الخلاصية. يتوقف هذا الجواب على الإنفتـاح لعمل الروح، أي على إخلاء الذات للروح، وإصغـاء متواضـع ومُطيع لفعله فينا. وهكذا يُولد الإنسـان جديدًا بالروح. ولكن البشـارة الحقيقيـة هي أن الإنسـان المؤمن تمّكن أخيرًا من التجاوب بإيمانه على مبادرة الله الخلاصيـة، فجعل من حياته رحمًا يحتضن كلمة الله الخلاّقة، فيلدها خلاصًا للآخرين. هكذا يكون هذا الإنسان قد تعمّذ بالمسيح، ولبس المسيح، أي صار مسيحًا (ماشيحًا)، كلمة الله الخلاصية للآخرين.
ويُقدم بولس ابراهيم نموذجًا إيمانيًا مميزًا. فإنه قد سـمع الكلمة، وآمن بها من خلال تعابير الطاعة التي أبداها أمام الله، لا سيّما في ثقته بأنّ الله قادر أن يخلق منه نسلاً يحمل وعده للأجيال برغم عجز ابراهيم جسديًا عن ذلك (تك 1/12-9). وهذا الإيمان مكّنه من أن يطيع ثانية، ويرضى بأن يجعل اسحق تقدمة رضى وامتنان لله (تك 22). وهذا كله كان قبل أن تكون الشريعة. فلمـاذا الإرتبـاط بعبودية الشريعة، في حيـن أن لنـا حيـاة حـرة فـي يسـوع المسـيح. اختبـر بولـس خلاصـه وحريتـه من خلال إيمانه بيسوع المسيح والذي مكّنه أخيرًا أن يقف حيًا متواضعًا أمام الله ومنفتحًا أمام الآخرين، بدون لوم أمام الشريعة، على نور النعمة التي تحفزه بيسوع المسيح، ليُحب قريبه حبه لنفسه (غل 14/5). حُرية المسيحي تكمن إذن في وقفته أمام إله بادر إليه مخلصًا، ويُشـركه في عهد ابرمه معه، فيجعله بذلك مسـؤولاً عن الخلاص. إيمان الإنسـان بيسوع المسيح يُثبت فيه هذه الحرية، فهو من الآن مسؤول لا عن خلاص نفسه فحسب، بل عن خلاص القريب.
كيف صار الخلاص لنا ؟ إذا كانت قيامة يسوع المسيح فعل الله الخلاصي، وكان الإيمان بها جواب الإنسان لهذه المبادرة، فالميلاد يوحّد الفعلين معًا. فالمرنِّم في التسبحة الطقسية (بريـخ حنـانا) والتي تُرتـل في فترتي البشـارة والميلاد في صـلاة الفرض الصباحي في الطقس الكلداني، يُشـير إلى ذلك بوضوح. فبرغم ان الترنيمة تعليمية في المضمون، إلا أن فيها اعترافًا إيمانيًا رائعًا. فالمصلّي يعترف أن الله الحنّان بادر إلينـا بكلمته من خلال النبوءة. وإنسـان العهد بجوابه الحر والمطيع لهذه المبادرة يُفرّغ حياته ليجبل منها الروح جسدًا جديدًا على صورة الآب ومثاله. ويُقدم لنا مريمَ نموذجًا للأرض التي تسـتقبل كلمة الله بـ ” نعم “ راسخة، وتقبل فعل الروح فيها. هذا الانفتاح للروح القدس يُمكنها من أن تُقدم ” الماشـيحا “، المخلص للعالم. إنها تولد إنسانة جديدة، وهي تلد الإنسان الذي يُريده الله شريكًا له في العهد ” هذا هو ابني الحبيب “.
كانت إرادة الآب، وما زالت، أن يكون الإنسان على صورته وشـبهه، إلا أن رفْض الإنسان، ولأنه حر، جعلاه بعيدًا عن الله الذي شاءه دائمًا قريبًا. مريم العذراء عظيمة لا لأنها أم يسوع المسيح فقط، بل لانها سمحت لله أن يكون بيننا. البعض يقول، مريم وسيلة ليس إلا، وإلهنا لا يستخدمنا وسائل، بل يسألنا الإيمان، عارفًا أن فينا القدرة على التجاوب معه، برغم ان لنا إمكانية رفضه. ” نَعم “ مريم جعلت يسوع بيننا ” عمانوئيل “، وجعلت صلاتنا تسـبحةً، وهي أعظم صـلاة يُمكن أن يُقدمهـا الإنسـان. مريم هي إنسان العهد المتواضع (أمة) والمطيع (ليكن لي حسب قولك)، ولكنها كنيسـة الله التي تُقدم بتجاوبهـا المطيع الخلاص للعالم، ” ولد لكم اليوم مخلص وهو المسـيح “. خلاصنا ليس غفـران خطايانا أولاً (وهو ما ترغب فيه الشريعة) بل وقوفنا أمام الله شركاء في عهدٍ أبدي معه.