القراءات الكتابية الطقسية

تواضعٌ وطاعة (31)

تواضعٌ وطاعة
الاب بشار متي وردة
الاحد الاول من الصليب والرابع من ايليا
(( وافتكروا في هذا في أنفسكم أي ما افتكر فيه يسوع المسيح أيضًا. الذي إذ هو في صـورة الله لـم يكن يحسـب هـذا اختلاسـًا ان يكون عديلاً لله، لكنه أخلى ذاتـه وأخـذ صـورة عبـدٍ وصـار فـي صـورة الناس فوجِدَ في الهيئة كإنسـان، فوضع نفسـه وأطاع حتى المـوت، موت الصليب، فلذلك رفعه الله جدًا وأعطاه اسمًا أفضل من الاسماء كلها. لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة مما في السماوات وعلى الأرض وتحت الأرض. ويعترف كل لسـانٍ ان يسـوع المســيح هـو الـرب لمجد الله أبيه )) (فيلبي 5/2-11)

يتفق معظم علماء الكتاب المقدس على أن النص أعلاه يتضمن واحدًا من الأناشيد الليتورجية المسيحية الأولى التي كانت تُرتل في كنائس انطاكية. تعددت تفاسير هذا النشـيد، ولا أريد أن أضيّع القارئ في متاهـات التفاسـير، بل أن أُكمل ما طُرح في المقالات السابقة من أن جواب الإنسان لفعل الله الخلاصي في إقامة يسوع المسيح من بين الأمـوات يتطلّب منه إيمانًا ملتزمًا. وهذا الإيمان يعني إنفتاحًا لعمـل الروح، الذي يتجسّد في موقف الطاعة والتواضع الذي يعيش بمقتضاه المؤمن أمام الله الذي يُبادر إليه منعمًا، وهو موضوع هذه الأسطر التي سـأشدّد فيها على تعابير أسـاسية تُعتبر مفاتيح لفهم النص أهمها : صورة الله، تواضَع واطَاع.

أعاد الملك فيليب الثاني (وهو والد الاسـكندر الكبير) بناء مدينة فيلبي عـام 358-357 ق.م. واستوطنها مهاجرون عملوا في مناجم الذهب التي اشتهر بها القسم الشمالي من المدينة. تمتعت مدينة فيلبي بأهمية خاصة في إقليم مكدونية الروماني ولا سيما في عالم التجارة. جاءها بولس في رحلته التبشيرية الثانية يُرافقه كل من سيلا وطيموثاوس ولوقا (اعمال 9/16). وفيها ذاق بولـس لأول مرة التعذيب الرومـاني، الذي لم يعدّه شيئًا إزاء فرحة ولادة جماعة مسيحية فيها ارتبطت به بعلاقة خاصة، فكانت أقرب الجماعات إلى قلب بولس، وقد حاول دائمًا ان يزورهم ويتتبع اخبارهم. كتب إليهم الرسالة التي بين أيدينا الآن، والتي يُمكن أن ندعوها بحق رسـالة الفرح، يشكرهم فيها على وقوفهم معه في ضيقه. لا بل كانت الجماعة الوحيدة التي قبل منها بولس عونًا ماديًا (فيلبي 15/4-16).

يعود بنا بولس من خلال هذا النشيد إلى عالم الكتب المقدسة. فيجدر بنا أن نقرأ هذا النص على ضوء قصة الخَلْق الواردة في سـفر التكويـن، وما كتب عن الحكمة التي كانت منذ البدء عند الله وعن قصد الله للانسان (سيراخ 24)، واخيرا ما قاله اشعيا في العبد المتألم (اشعيا : الفصول 52-54). إذ ذاك فقط يُمكننا ان ندخل عالم الكنيسة وتعبّدها ليسـوع المسـيح الطائع والمتواضـع والمُتألم والمُمجد.
يحثّ بولس الفيلبيين أولاً أن يكون لهم موقف المسيح. فيُناشد مؤمني فيلبي أن يلتزموا هذا الموقف في علاقاتهم الشخصية، لانه التعبير الحقيقي الوحيد عن الوحدة مع المسيح، وفيه يُعبّر المؤمن عن هويته المسيحية المميزة. كما يريدهم ان يتأملوا عمليًا معنى ان يتقاسموا روح المسيح، من خلال التزام موقف التواضع والطاعة التي أظهرها يسـوع نفسه في تجسـده وقبوله الصليب. فالانفتاح لعمل الروح والتلمذة للمسيح، يعني أساسًا تلمذة طلاّبه. ومن متطلباتها الأساسية هو أن يكون للمؤمن الذهنية نفسها التي كانت ليسوع، أن يرى العالم ويتعامل معه مثلما كان يسوع يراه ويتعامل معه، وسيأتي هذا حتمًا بتأثيرات إيجابية على علاقاته الأخوية. يجعل بولس يسـوع المسـيح مثالاً حيًا يُقتدى به، ولا سيما في انفتاحه لعمل الروح، إضافة إلى مطالبته بأن يتعاملوا بينهم كما لو أنهم المسيح.
ولكن ما معنى ” صورة الآب “ في هذا النشيد ؟ تُعيدنا هذه العبارة الى الصفحات الأولى من الكتاب المقدس حيث يُخلق آدم، على صورة الله، ليعكس مجد الله (تك 27/1، 1 كور 7/11). إنه ابن الله (لوقا 38/3). ينسحب الله من الخليقة (يُخلي ذاته) عندما يخلق آدم ليترك له المجال رحبًا ليأخذ المسـؤولية على الخَلْق، ويُواصل عمـل الله، وهو ما يستحسنه الله نفسـه (تك 28/1-31). فلا نقرأ في النص أن عمل الخَلْق انتهى، بل أن الله اسـتراح من عملـه الذي عمـل (تـك 2/2)، ويُفترض ان يُكمل آدم هذا العمل. إلا أن آدم الأول أراد التسـلط والسـيادة على الكـون استحقاقًا لا نعمة (تك 5/3-22). فتشامخ وتكبّر فسقط وفقـد صـورة الله التي كان يحملهـا. وبعصيانه دخل الموت إلى العالم، فذاقه كل مَن أخطأ وعصى. فلم يكن قصد الله للإنسان أن يموت، بل أن ابليس صنعه.
واجه آدم الثـاني – يسـوع المسـيح – التجربة عينها، أي أن يُعلن سيادته وربوبيتـه كحق طبيعي. فكل إنسـان يخرج من يد الله هو بارٌ، لكن الخطيئة تُفسد هذه البرارة. آمن بولـس والمسيحيون الأوائل ببرارة المسـيح وبراءته من أي خطيئة (روم 4/1، 2 قور 21/5، يو 46/8). وكان برّه يفوق بر الناس. لكن يسوع لم يتباهَ أو يفتخر بهذا الامتياز، بل اختار حياة العبد : الألم، الذل والخزي وأخيرًا المـوت. اختار الطاعة حتى وإن قادته إلى المـوت (العبد المُتألم في اشـعيا 52-54) ليُمجدّه الآب ويُعلنه ربًا (فيلبي 7/2-9). فعندما يُخلي المسيح ذاته، ويأخذ صورة العبد (الطاعة والخدمة)، فهو يعكس مجد الله الذي يُخلي ذاته في عمل الخَلْق الأول، فيخرج عن ألوهيته ليُهيئ للإنسان مجالاً ليعيش إنسانًا حقًا. طاعة المسيح للآب تتجلى في استسلامه إلى إرادته (عبر 7/10)، بحيث نستطيع أن نقول إن حياة يسوع كانت كلها فعل طاعـة واستسـلام العبد إلى سـيده. هذا الاستسـلام الذي يقـوده إلى مصيـر مؤلـم (موت الصليب). إلا أن الله الذي كان المُبادر دائمًا، يرفعه ويمجده بفعل القيامة من بين الأموات، التي تأتي كجواب الله على فعل طاعة يسوع، الذي خلّص الإنسانية من سـقطتها الأولى.
هذا التصريح، كون كل مَن وضع نفسه سيُرفع ممجدًا عند الله، ليس تعليمًا جديدًا، أو اختراعًا بولسيًا، بل هو من صلب تعليم يسوع نفسه : (( فمَن وضع نفسَه وصار مثل هذا الطفل، فذاك هو الأكبر في ملكوت السموات )) (متى 4/18)، (( ومن رفعَ نفسه وُضِع، ومَن وَضعَ نفسه رُفِع )) (لوقا 11/14). فما يُميّز يسوع المسيح بالنسبة إلى المسيحيين الأولين، ليس كونه إبنًا لله، وذا طبيعة إلهية فقط، بل كونه إنسانًا اختار التمسك بطاعة كاملة لله، ويعترف الله بطاعته هذه، فيرفعه عظيمًا ممجدًا.
ما معنى رفعه الله ؟ يعني ان الله اعترف به وبحياته. فليست إقامة الله للمسيح فعل الله للمسيح فقط، بل هي اعتراف من الله وتثبيت – تصديق – لحياة يسوع المسيح. اي ان الله يقول : هذا هو إنسان العهد الذي اريده معي. فيكون يسوع المسيح بكرًا لاخوة كثيرين، ولدوا (( لا من دم ولا من رغبة لحم، ولا من رغبة رجل، بل من الله ولدوا )) (يو 13/1)، يعني من خلال الطاعة لكلمة الله. بذلك يُكمّل ما يطلبه الرب من الإنسان وهو أن يُجري الحق ويُحب الرحمة ويسير بتواضع مع إلهه (ميخا 8/6). إنها لعلاقة مُتبادلة، أطرافها : إله بادر مُحبًا، وإنسان تجاوب متواضعًا مع عمل روح الله المُحب، لتأتي هذه العلاقـة بخَلْـق جديـد، وهذا ما تنشده صلوات فترة الصليب. صعود خشبة الصليب هو ممكن لإنسان يقبل متواضعًا تكميل إرادة الله في حياته، فيقول نعم لهذه الكلمة، وهذه الطاعة ترفعه وتعطيه إسمًا أعظم من كل الأسماء، إنه الرب يسوع المسيح.

الصليب : فعل الله الخلاصي
برغم أن صلـوات الأحد الأول من الصليب لا تتحدث بشـكل مباشـر عن مفهومي التواضع والطاعـة مثلما تقدم، بل تراها ترنّم وتنشـد ثمار هذا التواضع والطاعة التي قدّمها يسوع المسيح لأبيه السماوي، فيرفع المؤمن صلاته في فترة الصليب وإيليا شاكرًا الله على فعله الخلاصي وما أنعم به على الإنسان فجعله خلقًا جديدًا، وابدع علاقة سلام معه لا يقوى الشرّير عليها. الشرير الذي بلبل الإنسانية وجعلها في اضطراب، هوذا يُخزى ويضطرب لتدخل الله الخلاصي. والصليب، الذي كان عثـرة، أضحى للإنسـانية منبع خلاص لأنه حمل حياة طاعة واستسلام إلى الله، متأتية من إنفتاح تام للروح الذي يرفرف على خَلْق جديد، ويُعيد إنسانية آدم إلى بهائها الأول.
لذلك نلاحظ ان صلوات الأحد الأول والفترة الطقسية اللاحقة ترتّل مسـبّحة مفاعيل عمل الله الخلاصي التي نلناها بالصليـب، وأولهـا السـلام والمصالحة التي صارت بين الله وشعبه، وبين الشعوب كلها، فلا مجال للشر لأن يتسلّط على الإنسـانية بعدُ. فصليب يسـوع يشهد لتحرر الإنسان من عبودية الشر والموت، فيكون شجرة حياة لآدم وأبنائه.

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى