تجلى مجد الله (42)
الاب باسل سليم يلدو
عيد التجلّي
في السـنةِ الّتي مـاتَ فيهـا عُزِّيَّا الملِكُ رأيتُ الربَّ جالِسًا على عرشٍ عالٍ وانتشـارُ أذيالـهِ يَمـلأ هيكلَـهُ. والسـرافون قائمـون مـن فوقه سـتةُ أجنحةٍ سـتةُ أجنحةٍ لكلِّ واحدٍ منهم. باثنين يسترون وجوههم وباثنين يسـترون أرجلهـم وباثنيـن يطيـرون. وينــادون بعضهـم بعضًـا قائليـن : “ قُــدوسٌ قُدُّوسٌ قـُدُّوسٌ رَبُّ الجنـودِ الأرضُ كلهـا مملـوءةٌ من مجــدهِ “. فتزعزعــت عتبـة الأبوابِ من صوت المُنادي وامتلأ البيـتُ دُخانًا. فقلـتُ : ويلٌ لي قد دَهِشـتُ لانـي رجـلٌ دنـسُ الشـفتيـن وأنـا مُقيمٌ بينَ شـعبٍ دنِـسِ الشِـفاهِ وقد رأت عيناي الملِـكَ ربَّ الجُنـود. فطـار إليّ أحدُ السَّـرافين وبيدهِ جمـرةٌ أخـذها بملقطٍ مـن المذبـح، ومسَّ فمي وقـال لي : “ هـا إن هـذه قـد مسـَّت شَفَتيْك لكي يـزول إثمُـك وتغفَـرَ خطايـاك “. وسـمِعت صوتَ الرب قائِلاً : “ من أرسـلُ ومن ينطلق “، فقلت : “ هاءنذا فأرسِلْني “. فقـال لي : “ إنطلقْ وقـل لهؤلاء الشعب : إسمعوا سـماعًا ولا تفهموا وانظروا نظرًا ولا تعرِفـوا. قد غلظ قلبُ هذا الشعب وثقلت أذناهُ وطمستْ عيناهُ لئلا يُبصرَ بعينيـهِ ويسـمعَ بأذنيـهِ ويفهـم بقلبـهِ ويتوب فيُغفرَ لهُ “. فقلت : “ إلى متـى أيهـا الـربُّ “. فقــال : “ إلى أن تصيـر المـدنُ خربــة بغيــر سـاكن والبيـوت بغير إنســان والأرض تخـرب وتقفـر. ويُقصـي الـربُّ البشــر ويكثـــر الخَـــواء في الأرض. والــذيــن يبقــون فيهـــا يكونـون واحـدًا مــن عشــرة ثــم تعــــودُ وتصيرُ إلى الحريـق كالبُطمـة والبلّوطة الساقطة عن أصلها إلا انَّ غرْســتها زرْع مقدسٌ “.
(اشعيا 1/6-13)
1. الإطار التاريخي الذي ورد فيه نص (اشعيا 1/6-13)
كانت السنة التي مات فيها الملك عُزِّيَّا هي سنة (740 ق.م.) تقريبًا. لقد ظل أبرصَ إلى أن مات، لأنه حـاول أن يقوم بالخدمـة كرئيس الكهنـة (انظـر 2 أخ 18/26-21). ومع ان عُزِّيَّا كان، على وجه العموم، ملكًا صالحًا، وحكم مدة طويلة حكمًا ناجحًا، فالكثير من أبناء شعبه تحولوا عن الله.
لقد كان اشـعيا حديث السـن حين دعاه الله إلى خدمـة النبـوءة في السـنة (740 ق.م.) ودام نشاطه ما لا يقل عن 40 سـنة. يرافق ظهوره على سـاحة التاريخ عصرَ الإزدهار الذي عرفته مملكة يهوذا في المدة الطويلة التي ملك فيها يوآش (أو عزريا : راجع 2 مل 8/14 و21-22) والذي نتج عنه إنتشار الترف. لم يسَعِ النبي إلا ان يندّد بما كان يعدّه نقيض العدل الذي أراده الله، وان ينذر بغضبه.
إن رؤيا اشعيا هي دعوته ليكون رسـولاً لشعبه، وقد أوكِلت لاشعيا رسـالة صعبة، إذ كان عليه أن يخبر الشعب الذي كان يعتقد انه مبارك من الله، يخبرهم بأن الله مزمع أن يُهلكهم بسبب عصيانهم.
2. التحليل الكتابي – البيبلي
ان العرش، وملائكـة السـرافيم المحيطين به، والهتاف المثلث : ” قـدوس، قدوس، قدوس “ كل هذه أكدت قداسة الله. فالسـرافيم طبقة من الملائكة، اسـمهم مشتق من كلمة ” سرف “ العِبرية بمعنى ” يحـرق “، ربما للدلالة على نقاوتهم كخدام الله. ففي زمن ساد فيه الفسـاد الأدبي والروحي، كان من المهِم أن يـرى اشعيا اللهَ في قداسته. فالقداسة تعني الكمـال الأدبي والنقاء والإنفصـال عن كل خطيئة. ونحن أيضًا في حاجة إلى اكتشـاف قداسة الله. فإن إحباطاتنا اليوميـة، وضغوط المجتمع وتقصيراتنا، كل هذه تُضعف وتُضيّق نظرتنا إلى الله. ونحن في حاجة إلى ان تكون لنا نظـرة الكتاب المقدس إلى الله السـامي المرتفع، حتـى نستطيع أن نتعامل مع مشـاكلنا وهمومنا. فمتى رأينا كمال الله الأدبي بوضوح، فإننا نتطهر من الخطيئة، وتتنقّى أذهاننا من مشاكلنا، ونستطيع أن نعبد الله ونخدمه.
عندما رأى اشعيا الربَّ، وسمع تسبيح الملائكـة، أيقن انه نجـس أمام الله، ولا رجاء له في بلـوغ مقياس الله للقداسـة. ولكن عندما مسّ الملاك فمَ اشعيا بجمرة، قيل له إن خطاياه قد غُفـرت. ولم تكـن الجمرة هي التي طهرته، بل الله. وكان رد فعل اشعيا انه أسلمَ نفسَه تمامًا لخدمة الله. ومهما كانت صعوبة مَهَمَّتِه، فإنه قال : ” ها أنا أَرسِلْني “. لقـد كانت عملية التطهيـر المؤلمة لازمة قبل أن يستطيع اشعيا القيام بالمَهَمة التي كان الرب يدعوه إليها، فقبل أن نقبل دعوة الله للتحدث عنه للمحيطين بنا، يجب أن نتطهّر أولاً كما حدث لاشعيا، ونعترف بخطايانا، ونستسلم لسيادة الله. وقد يكون استسلامنا لتطهير الله لنا، مؤلمًا، ولكن لا بدّ أن نتطهّر، حتى يمكننا أن نمثّل الله الذي هو كلّي الطهارة والقداسة، تمثيلاً صادقًا.
3. الإطار الليتورجي
* علاقة هذه القراءة بنصوص الصلاة الفرضيّة :
تدور صلاة الفرض حول تجلّي المجد الإلهي والنور الإلهي اللذَين أزالا ستار الظُلمة، ففي إحدى صلوات العيـد التي تسبق مزامير الصبح الموضوعـة من قِبَل البطريرك مار ايليا أبو حليم (الحـوذرا – المجلد الثالث ص506-509)، فِكرتُها مطابقـة لفكرة نص (اشعيا 1/6-13) إذ تذكر المقام الإلهي الرهيب المحاط بمجموع الملائكـة والسرافيم كما تذكر حالتنا الضعيفة القائمة أمام هذا المشـهد (اشعيا المعترف بأنـه دنس الشفاه) لأننا شعب خاطئ أمام الرب الرحيم الذي يرأف ويرحم ويغفر للخطأة.
ان هذه الصلاة تعكس نص اشعيا من خلال تجلّي عظمة الرب الذي لسنا أمامه سوى خطأة دنسي الشفاه، ولكن الله المتجلّي لنا هو أبو ربنا يسوع المسيح وأبونا الرحيـم الذي يطهّر دنَسَـنا، وينقّينا من الخطيئة، ويقبل شـفاعة الأنبيـاء والرسل الذين سمعوا كلمته.
* علاقة هذا النص مع القراءات الكتابية الأخرى لهذا العيد :
نلاحظ في قراءات العهد القديم (القراءة الأولى خروج 1/19-9، 18/20-21) والقراءة الثانية (اشعيا 1/6-13) مع نص الإنجيل (متى 1/17-9) تشـابهًا في محاور القراءات الرئيسية :
1- كل مشهد من المشاهد يرافقه ظهور وانكشاف مجد الله، في جبل سيناء وفي الهيكل وعلى جبـل طابور، حيث صـورة إعلان المجد الإلهي من خـلال علامات الطبيعة وغيرها.
2- طرف ثانٍ لمشـهد الظهور مثل الشـعب الخارج من مصر أو اشعيا أو تلاميذ المسيح.
3- إقامة اتفاق عهـد أو حمل رسـالة، إذ في سـيناء يُبرم اتفاق بيـن الله واسرائيل (الوصايا العشر). واشعيا يُدعى ويكلَّف برسـالة من قبل الله. والتلاميذ أيضًا يشهدون للمسيح.
يشترك نص اشعيا أيضًا بعلاقة مع القراءة الثالثة لعيـد التجلّي، وهي رسـالة بولس الرسـول (عبرانيين 18/12-29) حيث تذكر مشـهد التجلّي الذي إقترب منـه المؤمنون، فهو ليس حدثًا أو صورة من مظاهر مخيفة، بل هو مشهد إحتفال من مدينة الله ومن يسوع المسـيح. إنه إقتراب من نِعمَة مجانيـة، تشجّع للإقتـراب والبقاء قريبـًا من ما تجلّى لنا، كما يدعو النص إلى التقوى والورع والمحافظـة على هذه النِعمَة.
4. رسالة هذه النبوءة لعالمنا المعاصر ( تأوين )
إن نظرة اشعيا السـامية إلى الله تعطينا لمحة عن عظمة الله وقوته. وإدراك اشعيا نجاستَه أمام الله، مثال يشجّعنا على الإعتراف بخطيئتنا. وصورة الغفران له تذكّرنا بأننا نحـن أيضًا قد نلنا غفرانًا. وعندما ندرك مدى عظمة الله، وشـناعة خطيئتنا، ومدى أبعاد غفران الله، فإننا ننال قوة للقيام بعمله.
لقد قال الله لاشعيا إن الناس سيسمعونه ولكنهم لن يفهموا رسالته، لأن قلوبهم تقسّت، حتى لتستعصي عليها التوبة. لذا قرر أن يتركهم لعصيانهم وقساوة قلوبهم. فلماذا أرسل الله اشعيا ما دام يعرف ان الشعب لن يصغي ؟
مع ان الأمة نفسها لن تتوب، وستحصد الدينونة، فإن بعض الأفراد سيسمعون. فيبين الله في خطته من أجـل البقية (الزرع المقدس) من اتباع أُمناء، فالله رحيم حتى في أحكامه. ويمكننا أن نتشـجع بوعد الله بحفظ شـعبه. وإذا كنا أُمناء له، فإننا نستطيع أن نثق برحمته.
ولكن متى يصغـي الناس ؟ عندما يصِلون إلى النهاية ولا يجـدون لهم ملجأ سوى الله. وكـان هذا سـيحدث عندما تصيـر الأرض خربة بفعـل الجيـوش الغازية، ويؤخذ الشعب إلى السبي. ويشير ” العُشْر “ أما إلى الذين بقوا في البلاد بعد السبي، أو من رجعوا من بابل لتعمير البلاد. فكل جماعة منهما كانت نحو عُشْر مجموع السكان.
فمتى سنُصغي نحنُ إلى الله ؟ هل علينا، كيهوذا، أن نجتاز كوارث قبـل أن نُصغي إلى أقـوال الله ؟ فلنتأمّل في ما يمكن أن يقوله الله لنا، ونعمـل به قبل فوات الأوان