الافتتاحية

(( تجـدونَ طِفـلاً مُقَمَّطـًا مُضْجَعـًا في مـذود )) العدد (28)

                                           (( تجـدونَ طِفـلاً مُقَمَّطـًا مُضْجَعـًا في مـذود ))

                                                                                                                       (لوقا 2 / 12)
المقدّمـــــة
كانت مدينة القياصرة والاباطرة، روما الخالدة، قد بسطت سلطانها قبل ألفي سنة على البلدان المطلّة على حوض البحر الابيض المتوسط، من بينها قطر صغير يُدعى حاليًا فلسطين، جرى فيه حدث خطير، غيّر مجرى تاريخ البشر، فلقد وُلِدَ المسيح، الكلمة المتأنس، في قرية صغيرة من قراه، اسمها (( بيت لحم ))، وذلك ببيت بسيط، ووضع في مذودٍ وضيع.
وُلِدَ الربُّ في سكون الليل وهدوئه، لان الله يفتقد البشر دوما في الهدوء والسكينة، من دون ازعاجهم، كما حدث للنبي ايليا (1ملوك 12/19)، ولكن هذا الصمت أثار ضجة هائلة في ارض البشر، فصدحت السماء بأُنشودة الملائكة : (( المجد لله في العُلى، وعلى الارضِ السلام، والرجاءُ الصالح لبني البشر )) (لوقا 14/2)، لا زال صدى هذه الترتيلة يتردد في بقاع الدنيا كلها الى يومنا هذا.
ذهب يسوع الى ضيعة (( بيت لحم )) مع مريم امه ويوسف مربيه، يسجّل اسمه في مدينة أجداده، تنفيذًا لأمرٍ أصدره أوغُسطُس، قيصرُ روما، الذي أراد إحصاء سكان إمبراطوريتِه، وبذلك فتح طفل المغارة (( كتابَ الحياة )) للبشرية كلها، فاقتفى مليارات من البشر خطواته، عبر الفي سنة، ليدوّنوا أسماءَ هم في (( سجل العماذ )) الذي فتحهُ لهم.
سيحتفل البشر جميعًا، عبر القرون والاجيال، وفي ارجاء المعمورة كلها، بذكرى هذه الليلة السعيدة، لان ولادة يسوع مثّلت منعطفًا حاسمًا في حياتهم، إذ خلّصهم المولود الالهي من إثمهم، وحررهـم من ربقة خطيئتهم، وصالحهـم مع الله ابيـه، كما أكّد الملاك للقديس يوسف : (( سَتَلِدُ (مريم) ابنًا فَسَمِّهِ يسوع، لانه هو الذي يُخَلِّصُ شعبه من خطاياهم )) (متى 21/1).

علامة الخلاص


لن يخلّص الملك الجديد شـعبه متربعًا على عـرشٍ متعالٍ، محاطًا بمظاهـر الغنى والترف، متسربلاً بثياب أُرجوانية موشّاة بالذهب واللآليء الكريمة، بل باسلوب جديد، لن يخطر ببال أحدٍ من ابناء آدم، فقد اقتحم الرب عالمهم تحت مظاهر الفقر والتجرد. إنها علامات المخلص الجديد المميّزة، كشفها الملاك للرعاة، ليتعرّفوا من خلالها عليه قائلاً : (( اني أُبشركم بفرح عظيم، يعمُّ الشعبَ كلَّه : وُلد لكم اليوم مخلصٌ في مدينة داؤد، هو المسيح الرب، واليكم هذه العلامة: تجدون طِفلاً مُقَمَّطًا مُضْجَعًا في مذود )) (لوقا 10/2-12).
وُلد مالك السـماوات والارض في أجواء تُخيمّ عليها الفاقة والحاجة والزهد، فأبصر النور في كهف حقير عوض قصر كبير، ووُضع في مذود صغير بدل مهد وثير، واحتفل به رعاة بؤساء مكان ملوك وأمراء، واختار والدته مريم ومربّيه يوسف من الفقراء وليس من الأثرياء، كما يؤكد الانجيل المقدس قائلاً : (( لم يكن لهما موضعٌ حيث نزلا )) (لوقا 7/2).

الفقر المُغني

ان فقر يسوع مُغنٍ، لانه يُفهِم البشر ان مالك خيرات هذه الدنيا الحقيقي هو الله وحده، هو باريها وهو الذي يُغدقها عليهم، وذلك وكالةً، اي سيـأتي يوم عاجلٌ أو آجلٌ يسترجـع فيه المولى تعالى هذه الاموال ليسـلمها لأيدٍ أُخرى، وعلى الوكيل ان يـؤدي الحساب عن حسن استخدام اموال سيده، لذا على الانسان ان يستغل هذه الاموال حسب توجيهات الباري عزّ وجل، وبموجب رغبته وارادته، اي على الانسان ان يستخدم هذه الخيرات لفائدته الخاصة ولخدمة الآخرين وللقيام باعمال البِر والاحسان، وبهذا سوف يُغني وجوده على هذه الارض وفي السماء بالأجر الذي لن ينفد.

طوبى لفقراء الروح

مهّد يسوع للانسان سبيل السـعادة والفـرح من خلال تعاليمـه السـامية ومبادئـه الرفيعـة، التي اوجزها في خطبتـه الشـهيرة المسماة (( التطويبات )) (متى 3/5-12)، بيّن فيها ما هو الموقف الذي يجب على الانسـان ان يتبنـاه ازاء المال، لئلا يصبح مصدر شقاء وتعاسة بل وسيلـة تمنحه الفرح على هذه الارض والسعادة الابديـة في السـماء، قائلاً : (( طوبى لفقراء الروح، فان لهم ملكوت السماوات )) (متى 3/5).
ان اقوال يسوع تناقض روحية هذا العالم، الذي يجعل السعادة في الغنى المادي وما يرافقه من تكديس الاموال والتعلق بمتاع هذه الدنيا ورفاه العيش.
لو كان العالم على صواب، لما كان الانتحار منتشرًا في البلاد الغربيـة الثرية اكثر من الاقطار الفقيرة. تنقل الينا وسائل الاعلام بين الحين والآخر اخبار بعض نجوم التمثيل والغناء، الذين حازوا على الشهرة وعلى الاموال الطائلة، ولكنهم يضعون حدًا لحياتهم الارضية. ان عبادة المال تُذيب من قلب الانسان الحنان والرقة لسائر البشر، وتسبب المشـاكل معهم، حتى مع ذوي القربى. أليس حب المال سـببًا رئيسًا في اثارة النزاعـات في الاسـر، الى حد تفكك عُرى المحبـة بين افرادهـا، لا بل الهجـران ؟ ألا يمثل حب المال السبب الرئيس في الحروب بين الدول ؟ هكذا يسبب اللهاث وراء المال القلق والاضطراب والشقاء.
لذلك طوّب يسوع (( الفقر الروحي ))، لئلا يتعرض الانسان لعبادة ربّين : الله والمال (متى 24/6 ؛ لوقا 13/16).

لا يعني (( الفقر الروحي )) العوز والفاقة

لم يغبط يسوع بقوله (( طوبى لفقراء الروح … )) العوز والحرمان والبؤس، لانه قد حارب بنفسه الدَّ اعداء الانسان، الا وهو الجوع. ألَمْ يجترح معجزتي تكثير الخبز والسمك لإطعـام الجماهير الجائعـة الملتفـة حوله لسماع كلامـه لئلا تخور قواهـا ؟ (متى 13/14-21 ؛ 32/15-38)، الم يأمر المؤمنين ليقيتوا الجائعين، مماثلاً نفسه بهم، واعدًا بالسعادة الابدية لمطعمي الجياع في غروب حياتهم، قائلاً لهم : (( تعالوا يا مباركي ابي، رِثوا الملكوت المُعَدَّ لكم … لاني جعتُ فأطعمتموني … كلما صنعتم شيئًا من ذلك لواحد من اخوتي هؤلاء الصغار … فلي صنعتموه … فيذهب هؤلاء الابرار الى الحياة الابدية ))، وانذر الانانيين الذين يصدّون ابواب قلوبهم امام الفقراء بالتعاسة الابدية قائلاً : (( اليكم عنّي ايها الملاعين الى النار الابدية … لاني جعتُ فما أطعمتموني … أيَّما مَرَّةٍ لم تصنعوا ذلك لواحـد من هـؤلاء الصغـار، فلي لم تصنعـوه، فيذهب هـؤلاء الى العـذاب الابـدي )) (متى 31/25-46).
لا يتنافى (( الفقر الروحي )) واقتناء خيرات هذه الدنيا، فلقد خلقها الله وقَدَّمها للانسان ليقتنيها ويستغلها لخيـره وخيـر الآخرين. قال البـاري تعالى لآدم وحواء بعد خلقهما : (( انموا واكثروا واملأوا الارض واخضعوها وتسلَّطوا على أسماك البحر وطيور السماء وكل حيوانٍ يدبُّ على الارض … ها قد أعطيتكم كل عُشبٍ … وكلَّ شجر فيه ثمر … يكون لكم طعامًا )) (تكوين 28/1-29).

يقوم (( الفقر الروحي )) على تجرّد القلب

يقوم (( الفقر الروحي )) الذي يعلّمه طفل المغارة للانسان على تجرّد القلب، فلا يكون قلب الانسان متعلقًا تعلقًا مفرطا بالاموال التي اقتناها. ان الفقير نفسه، وان كان مُعدَمًا، قد يكون قلبه ملتصقًا بالارض وخيراتها اكثر من أثرى غني على الارض.
يعلم فقر يسوع الانسانَ الحكمة والفطنة، مذكّرًا إياه أن حياة هذه الدنيا ليست الاّ توطئة للحيـاة الابدية، عبثًا يقضي ساعات نهاره ويبدد ايام اسبوعه ويحرق سني عمره في جمع المال، مهملاً خيره الروحي، فلا يكلّف نفسه عناءً لاقتناء الفضائل، فيصبح غنيًا باموال هذه الدنيا الفانية ومفتقرًا إلى الحسنات.
يلّقن مذود بيت لحم الانسانَ القناعةَ والاكتفاء، فالقناعة ثراء لا ينضب، والاكتفاء غنى لا ينفد، يجعلان الانسان يعيش في طمأنينة وراحة البال. يصبح الانسان اسيرَ حاجات الدنيا، كلما اقتناها امتلكته. عاشت العذراء مريم والقديس يوسف في جوِ فَقرِ مغارة بيت لحم المُغني، مكتفين بالكلمة المتأنس، يسوع المسيح، تنقصهما خيرات هذه الدنيا، ولكن لا شيء يعوزهما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى