الافتتاحية

” بدء الحكمة مخافة الرب ” (أمثال 9 / 10) العدد (43)

” بدء الحكمة مخافة الرب ” (أمثال 9 / 10)


 مخافة الرب “ في الكتاب المقدس

يتساءل البعض من المؤمنين قائلين : ” لماذا تتحدث نصوص الكتاب المقدس مرارًا عن ” مخافة الرب “ ؟ ألا تنتهي بنا هذه الآيات إلى الاعتقاد أن الله سيد قاسٍ، يُلقي الرعب في نفوسنا ؟ أليس الأجدر ان نُترجم عبارة ” مخافة الرب “ بـ ” احترام الرب “ ؟
قد نشعر بحرج إزاء الآيات المقدسة التي تتكلم عن ” مخافة الرب “، لأن كلمة ” مخافة “ في مصطلحاتنا الدارجة وأحاديثنا اليومية، هي مرادف لعبارة ” الخوف “، وهذا الأمر يتنافى وما كشفه لنا يسوع المسيح عن الله، فهو ما فتئ عن الشهادة لطيبة الله وحنانه ورحمة ذاك الذي يسـمّيه ” أبي وأبيكم “ (يوحنا 17/20). تَحَدّث القديس بولـس مرارًا عن روح التبنّي، الذي يجعلنا نقـول ” أبّا “، وهي عبارة تعبّر عن ثقة الولد بأبيه : ” لم تتلقّوا روح عبودية لتعودوا إلى الخوف، بل روحَ تَبَنٍّ، به ننادي أبّا، يا أبتِ “ (رومة 15/8. راجع غلاطية 5/4-7 ؛ يوحنا 17/20).
برغم هذا، ترد عبارة ” مخافة الرب “ أو ” مخافـة الله “ كثيرًا في الكتـاب المقدس، في عهديه القديم والجديد، فهل يمكن ان نمحي هذه الآيات بشطبة قلم، أم هل يمكن أن نسمح لأنفسنا أن نغيّر كلام الله، وكأننا ننقّح ما ورد فيه من آيات تتكلم عن ” مخافة الرب “ لأنها قد لا تنسجم ومزاجنا ؟
ان هذا الحرج الذي نشعر به إزاء عبارة ” مخافة الرب “ ناتج عن خطأ في تأويلها وتفسـيرها، وعن عدم اطلاعنا عن المعنى الحقيقي الذي يقصـده الكتاب المقدس… فلنحاول اكتشاف هذا المعنى الخلاصي.
” مخافة الرب “ لا تعني الخوف والجزع
عبثًا نحاول أن نشرح عبارة ” مخافة الرب “ على ضوء خبرتنا البشرية، أي على ضوء مشاعر الخوف والجزع التي تنتابنا إزاء الكائنات الخطرة التي تفوقنا قدرة، وذلك لكي نفهم ما يقصـده الكتاب المقدس بهذه العبارة، لأن علاقتنـا بالله صلة فريدة من نوعها.
علينا ان نميّز بين مضمـون هذه الآية الكتابية وبين الرعب الذي يشـعر به الإنسان إزاء قوى الطبيعة وما تسـببه من كوارث كالزلازل والفيضانات، وبيـن الخوف الذي يسيطر علينا أمام الناس الأشرار الذين نزعوا من قلوبهم المشاعر الانسانية، من رحمـة وشفقة وامتلأوا عوض ذلك بالقسـوة والهمجية، ويريـدون إلحاق الأذى بنا من جهة أخرى.
كما علينـا ان نميّـز بين مضمون ” مخافـة الرب “ وبين مشـاعر الرهبة والجزع التي تسـيطر على الوثنيين إزاء آلهتهم الخياليـة، التي تعكس كوابيسهم وأحلامهم المريضة.
فلكي نفهم فهمًا صحيحًا ما الذي تعنيه عبارة ” مخافة الرب “، علينا ان نشرحها على ضوء معرفتنا لله، وعلى ضوء العلاقة الفريدة الكائنة بين الله وبين الإنسان.
” مخافة الرب “ تعبير عن شعور الإنسان بالإجلال والإحترام
حينما نتعمّق في معاني النصـوص الكتابية، نفهم ان ” مخافة الرب “ ليسـت شعورًا سلبيًا، بل انها شعور إيجابي.
تعبّر ” مخافة الرب “ عن موقف المؤمن، وشعوره أمام سر الله، وذلك حينما يمثل أمامه. وهذا الشـعور تسببه معرفة الله الحي معرفة صحيحة، أي تلك التي تكشف للإنسان عظمة الله وجلاله.
بهذا يندرج مفهوم ” مخافة الرب “ في إطار شـعور المرء بـ ” الإحترام “، كما ذكرنا أعلاه.
ولكن كلمة ” الإحترام “ تعبيـر ضعيف بحد ذاته، وليس في إمكانه ان يعبّر تعبيرًا سديدًا عن الإجلال الذي يشـعر به الإنسـان إزاء عظمة الله وقداسته التي تفوق كل ما يُمكنه ان يتخيّل.
إن عبارة ” مخافة الرب “ تعبّر عن حقيقة علاقة الله بالإنسان. يجب الإقرار بالفارق المطلق الموجـود بين الله – الخالق وبين الإنسـانِ خليقتِه، فالله هو الذي استدعى الإنسان من العدم إلى الوجود، واستمرار وجوده متعلّق به.
يقول اللاهوتيان كارل راهنر وهربرت قورغريملر : ” إن الفعل الديني الذي به يتوجَّه الإنسـان، كخليقة، لعبادة الله، يضم بين اشكاله المختلفـة، شكل الخوف المقدس أمام الإله القدّوس المطلق، والذي يعلو كل فهم، فيه يتعرّف الإنسان تعلّقَه المطلق به… “(1).
تتضمن ” مخافة الرب “ محبة الله والثقة به والإطمئنان إليه
” مخافة الرب “ تتضمن محبتنا لله : يجب أن نميّز بين المخافة البنوية وبين الخوف العقيم. إن المخافة البنوية هي خوف الولد البار الذي يحب أباه ويخشى ان يزعجه أو يعصى أوامره محبةً به، والخوف العقيم الذي يتحلّى به العبد العاق الذي ارتكب خطأً خطيرًا، وكسـر أوامر سيّده، ويخشـى عودتـه لئلا يُنزل به العقاب. إن ” مخافة الرب “ هي مخافة بنويـة، التي تجعلنا أن نخشى ارتكـاب الإثم لأن هذا الأمر يسبب الإبتعاد عن الله أبينا الذي نكنّ له محبة بنوية، ونريـد ان نمكث قريبين منه دومًا. يعبّر اللاهوتيان كارل راهنر وهربرت قورغريملـر عن هذه الحقيقة بعبارات رائعة قائليـن : ” … تتجلّى (التوبة) وتدخل في محبـة الله. وبها نحب الله في ذاتيّته : إذ ذاك مخافة الله تصبح احترامًا محبًّا (الخـوف البنوي) : لا نحب الله خوفًا، نخاف منهُ محبةً (القديس فرنسيس السالزي)(2) “.
” مخافة الرب “ تتضمن الثقة به والإطمئنان إليه : لأن الله لا يريد إرهاب البشر، حتى عندما يظهر لهم، بل بالعكس يطمئنهم قائلاً ” لا تخف “، كما قـال لأبينا إبراهيم (تكوين 1/15) ولأبينا إسحق (تكوين 24/26) وللنبي موسى والنبي اشعيا (10/41). ردد يسوع هذه العبارة للرسـل حينما رأوه يمشي على المياه، فخافـوا (مرقس 50/6)، فالله يحيط البشر بعناية أبوية، تسهر على احتياجاتهم، وهكـذا فإن الإيمان بالله مصدر طمأنينـة وراحة، ويزيـل الخوف البشـري. بهذا لا تتناقض ” مخافة الرب “ والحب الواثق بالله.
” مخافة الرب “ تقود مسيرتنا إلى الخلاص
تُنبت فينا ” مخافة الرب “ تدريجيًا الرغبة الشـديدة في تحاشي كل ما يكرهه الله أبونا ويكدّره. أي ارتكاب الخطايـا، ولبذل كل الجهود للقيام بالأعمـال التي ترضيه، أي الأعمـال الصالحة، واستغفاره عن الخطايا التي ارتكبناها، والتحلّـي بالفضائل السامية التي تجعلنا مُرضِيين له. فمخافة الرب تصبح، على هذا النحو، طريقًا للخلاص.
تتضمن ” مخافة الله “ الخشية من الذات ومن ضعفنا البشري، الذي يجعلنا نسقط في الآثام، ولا نطبّق وصاياه وأوامره. ان تعرّفنا على حالتنا كخليقة ضعيفة، تجعلنا نكتشف حاجتنا الماسة إلى التوبة، خوفًا على خلاصنا.
إن يسوع المسيح نفسه ينبّهنا لنكون حذِرين وأن نخاف على خلاصنـا، وذلك في آيات عديدة، منها العبارة الرمزية الآتيـة : ” إذا كانت عينك اليمنى سـبب عثرة لك، فاقلعها والقها عنك، فلأَن يهلك عضـو من أعضائك خيـرٌ لك من أن يُلقى جسدك كله في جهنّم “ (متى 29/5)، وقوله : ” لا تخافوا الذين يقتلون الجسد ولا يستطيعون قتل النفس، بـل خافوا الذي يقـدر على ان يُهلك النفس والجسـد جميعًا في جهنّم “ (متى 28/10) ؛ وكقـول القديس بولـس ” لذلك يا أحبّائـي… إعملوا لِخَلاصكم بخوفٍ ورعدَة “ (فيلبي 12/2).
هكذا تصبح ” مخافة الرب “ فضيلة أساسية وطريقًا إلى الخلاص، كما يقول القديس بطرس ” إن الله لا يراعي ظاهر الإنسان، فمن خافه مِن أية أُمّةٍ كانت وعَمِلَ البِرّ كان عنده مَرْضِيًا “ (أعمال 34/10-35).
” مخافة الرب “ هي إحدى مواهب الروح القدس
يؤكد التعليم المسيحي للكنيسـة الكاثوليكية إن مخافة الرب هي إحدى مواهب الروح القدس السبع في الفقرة الآتية : ” مواهب الروح القدس السبع هي الحكمة، والفهم، والمشورة، والقوّة، والعلم، والتقوى، ومخافة الله “ (الفقرات 1831 و1845).
ويقول ان هذه المواهـب ” بكمالها تخص المسـيح ابن داود “ (الفقرة 1831) مشيرًا بذلك إلى نبوءة اشـعيا الآتية : ” ويخرج غُصنٌ مِن جِـذع يَسّى، وينمي فرعٌ من أُصوله، ويَحلُّ عليـه روحُ الربّ، روحُ الحِكمةِ والفهم، روحُ المشـورةِ والقوّة، روح العلم وتقوى الرب، ويتنعم بمخافة الرب “ (اشعيا 1/11-2).
يشرح كتاب التعليم المسيحي آنف الذكـر ماهيّة هذه المواهـب ومفاعيلها في نفوس المؤمنين، وبضمنها مخافة الرب قائلاً : ” مواهب الروح القدس هي التي تسـاند حياة المسيحيين الاخلاقية. وهذه المواهـب هي اسـتعدادات دائمة تجعـل الإنسان يتبع حوافز الروح القدس بطواعية “ (1830).
بهذا المعنى تصبح عبارة ” مخافة الرب “ مرادف عملي للتقوى، كما يقول إبن سيراخ : ” مخافـة الرب مجدٌ وفخرٌ، وسـرورٌ وإكليلُ ابتهاج، مخافة الرب تُبهجُ القلبَ، وتعطي السـرور والفرح وطول الأيام. للمُتّقي الربَّ حسنُ الخاتمة، وفي يوم موته بركةٌ عليه “ (سيراخ 11/1-13)، وبهذه الصفة تستحق مخافـة الرب التطويب والتهنئة، كما قالت العذراء مريم في نشيدها : ” لأن رحمـة الله للذين يتّقونه من جيلٍ إلى جيـل “ (لوقا 50/1)، وكما يقـول المزمور الآتي : ” طوبى للرجُلِ الذي يتّقي الربّ ويهوى وصاياه جدًا “ (المزمور 1/112).
فإذا أردنا حقيقةً إرضـاء الله وتطبيق وصاياه، وبهـذا تكمن سعادتنا في الدنيا وفي الآخرة، علينا البدء بمخافة الرب، كما ذكرت الآية المقدسـة، التي اخترناها عنوانًا للإفتتاحية ” بدء الحكمة مخافة الرب “ (أمثال 10/9).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى