القراءات الكتابية الطقسية

بارَكَنا بكل بركة روحيَّة بالمسيح (37)

بارَكَنا بكل بركة روحيَّة بالمسيح

الأب پول ربّان
قداس الأحد الثالث من القيامة
َبـاركَ اللهُ أبو رَبِّنـا يسـوعَ المسـيح. فقَد بارَكَنا كـلَّ بَرَكَةٍ روحِيَّـة، في السَّـمَواتِ في المَسـيح، 4ذلِك بِأنـَّه اختارَنا فيه قَبلَ إنشاءِ العالَم، لِنَكونَ في نـَظَرِه قِدِّيسينَ، بـِلا عَيبٍ في المَحبَّة، 5وقَدَّرَ لَنا مُنذُ القِدَم، أن يَتَبنَّانا بِيَسوعَ المسيح، على ما ارتَضَته مَشـيئَتُه، 6لِلتَّسْبيحِ بـِمَجدِ نِعمَتِه، الَّتي أنعَمَ بـِها علَينا في الحَبيب، 7فكانَ لَنا فيه الفِداءُ بـِدَمِه، أيِ الصَّفْحُ عنِ الزَّلاَّت، على مِقدارِ نِعمَتِه الوافِرة، 8الَّتي أفاضَها علَينا، بـِكُلِّ ما فيها مِن حِكمَةٍ وبَصيـرة، 9فأطلَعَنا على سِرِّ مَشـيئَتِه، أي ذلِك التـَّدبيـرِ الَّذي ارتَضى، أن يُعِدَّه في نـَفْسِه مُنذُ القِدم، 10لِيَسـيـرَ بالأزمِنَـةِ إلـى تـَمامِها، فيَجمَعَ تـَحتَ رأسٍ واحِدٍ هو الـمسـيح كُلَّ شَيء، ما في السَّمواتِ وما في الأرْض. 11وفيه أيضًا جُعِلْنا وَرَثة، وقد كُتِبَ لَنا، بِتَدْبيرِ ذاكَ الَّذي يَفعَلُ كُلَّ شَـيءٍ، كمـا تـُريدُه مَشـيئَتُه، 12أن نـَكـونَ مَن سَـبَقَ أن جَعَلوا رَجاءَ هـم في الـمسـيح لِلتَّسْبيحِ بـِمَجْدِه، 13وفيه أنتُـم أيضًا سَمِعتُم كَلِمَةَ الحَقّ، أي بـِشارةَ خَلاصِكم، وفِيه آمنتم فخُتِمتُم، بـِالرُّوحِ المَوعود، الرُّوحِ القُدُس، 14وهو عُربـونُ مِيراثِنا، إلى أن يَتِمَّ فِداءُ خاصَّتِه، لِلتَّسْبيحِ

س الكنيسة، وهي جسدُهُ
الرسالةُ إلى ” أهل أفسس “ هي إحدى الرسائل الأربع التي كتبها بولس وهو أسير (1/3 و1/4) في روما (السنوات 61-63). وقد أكّد في فصولها الثلاثة الأولى على فكرة الكنيسة، بكونها جسد المسيح وكماله وهو رأسها. وفي المسيح دُعي كل الناس، اليهود والوثنيون، المؤمنون والكَفَرة، ليشكّلوا جسمًا واحدًا. لأن المسيح أزال، بجسده، ودكّ الحاجِزَ الفاصل بينهم. لقد توحدت البشرية بالمسيح الذي فدى الجميع، وتلك مشيئة الله الآب، وحققها الروح القدس.
خذوا سِلاحَ… الجهاد
وفي الجزء الثاني، يدعو بولس ويشجّع ويبرهن ضرورة تلك الوحدة، فيرسم خطوط كيفية تحقيقها بأن يتخلّى المؤمنون عن إنسانِهم القديم، سلوكهم القديم – عن عقلياتهم، أفكارهم، عاداتهم – ويتجددوا روحًا وذهنًا (22/4) فيلبسوا إنسانية المسيح ويحققوا صورة الله خالق الكل، فيبنوا جسد المسيح، ملكوت الله (12/4-16). ولأجل ذلك يجاهدون روحيًا ضد الشر. ويصف الرسـول حتى الاسـلحة الإلهية للجهاد (13/6-18). ويُحدّدُ : 1. الاستعداد، فيحيا المؤمن في حالة إنذارٍ مستمر بالسلوك في الحـق (الحزام)، والبِرّ (درع) ؛ 2. ثم الوقاية، فيتّشـحوا بالايمـان (ترس)، والخِبرة (النعال)، والرجاء بالخلاص (خوذة) ؛ 3. وأخيرًا الهجوم، فيقاوموا كل ما يعيق مسيرةَ الخلاص، ويحاربوا الضلال والفساد والجهل بإعلان كلام الله (سيف) واللجوء الدائم إلى الصلاة.
إلتمسوا رسالة…
هذه الرسالة هي الأخت التوأم المكمّلة للرسالة إلى أهل قولسي، التي يدور الكلام فيها عن يسوع المسيح، انه الأول في كل شيء، فيه حلَّ كمالُ اللاهوت، وهو رأس الجسد – الكنيسة (15/1-20 و9/2-10). وما قاله بولس عن الرأس، الله المتجسد يُتمّمه هنا بالكلام عن جسد المسيح، الكنيسة، المتألّهة بالمسيح رأسها.
ثانيًا ـ تفسير نصّ الأحد الثالث من القيامة
سرُّ الخلاص…
نصّنا، يخصّ سرَّ الخلاص وسر الكنيسة. أي التدبير الإلهي لخلاص الإنسانية. يسبّح بولس الله قائلاً : ” تبارك الذي باركنا بكل بركات روحية سماوية “ تبارك : ” إله ربّنا يسوع المسيح “. أي الله كما كشفه لنا يسوع. فهذا الله قد صنع لنا، مجانًا، عظائمَ حققها في شخص يسوع، على مخططٍ خاص. أعطانا نِعمًا إلهية لم يكن الانسـان ليحلَمَ بها. لقد باركنا‍ ! أعطانا بركات، امتيازات تُريحُنا وتوفّر لنا السعادة. بركات ليست من صنع البشر، فلا تزول. حقائق ثبّتها الله وأعلنها فعرفناها في يسوع. وهذه البركات هي :
1- إختارنا… (آية 4) : إختار… فكّر فينا. فضّلنا… ميّزنا، لأنه أحبّنا جدًا ! ومنذ الأزل. ودعانا لشيء خاص سامٍ أفضل ما يصبو إليه الانسان. دعانا لقداسة وحقّ نشاركهُ فيهما بالمحبة فنرث مجدَهُ وراحته (2 قور 18/3). ليس عمل الله آنيًا بل أزليًا – أي لم يفكّر في غيرنا. ولن يندم عليه ولا يُغيّرُهُ.
2- تبنّانا… (آية 5-6) : أعادَنا مثل الإبن الضال أبناءً لـه وورثاءَ خيراته في ملكوته (رومة 17/8 وغل 7/4). لقد اتحدنا بيسـوع المسـيح وأصبحنا إخوتـه (رومة 29/8) ومعه أبناء الله (يو 12/1). ونعرف ما هي قيمة الابن وما هي حقوقه عند أبيه ! هو جزء منه، مكمّلُهُ. ويبني تعامله معه على الحب. وقد قالها يسوع : يا أبنائي (يو 33/13) أنتم أحبائي (يو 15/15). ويضيف انا اخترتكم. لسنا نحن إخترنا إلاهنا وطلبنا بركاته. بل هو بادر وأنعم علينا. وأكثر مما توقّعْنا… وقد حُرِمت من هذه البركات أجيالٌ بشرية كثيرة.. إنها نعمة مجانية لنا عظيمة. إننا أبناء الله، نحمل إسمَه ونرث ما له. وقد نِلنا من الآن ” مِن ملْئِه نعمةً فوق نعمـة “ (يو 16/1-18).
3- غَفر لنا… (آية 7-8) : بركة ثالثة مَنَحنا الله بموت المسيح. كانت البشرية ” كافرة “، رفضت الله وعبدت الأصنام وتمادت في الفساد (رومة 8/5)، لكنها بالمسيح نالت غفران آثامها وسيئاتها بدون ان تكون قد اعتذرت أو كَفّرت. هي محبة الله التي فاضت (رومة 16/9 و6/11)، فغسلت إثمَنا وطهّرته (عب 22/10)، وشقّت دربنا إلى حياة جديدة (عب 19/10-20، أف 18/2)، واستعدنا حقَ العودة إلى فردوس السعادة في صداقة الله.
4- أطلعنا على سِرّه… (آية 9-11) : بركة أخرى لنعرف الله على حقيقته. فقد كشف لنا بيسوع المسيح ما دبّره من الأزل هو : ان الزمان سينتهي، وقبل نهايته ترجع البشرية المنقسمة إلى وحدة أسـرة الله. في المسيح، بما عمله وعلّمه جمع شمل الكون من جديد بوحدة روحيـة. وظهر ما لنا – نحن أبنـاء الأزمنة الأخيرة، من بعد المسيح – من امتياز ودور لتحقيق هذه الوحدة. فقد حطّم، بدمه، الحاجز الفاصل بين شعب الله وأهل العالم، مُزيلاً كل أنواع الإنقسامات البشرية، زارعًا وصيةً جديدةً هي الحب والسلام، خالقًا انسانًا جديدًا (15/2-16) داعيًا لعيش الوحدة في الواقع، لا في الخيال أو الآمال.
5- إصطفانا… لمجده… (آية 12-14) : عاش شعب الله على هذا الرجاء وقد تحقق. والوثنيون لم يرجوا، ولكنهم أُشرِكوا في هذا الرجاء، وفي هذه النعمة (18/1). البشـرية كلها مدعوة إلى حمد الله، وتسـبيحِه، وتمجيده، وتعظيمه، على حكمته ومحبته وأمانته. الإنسان مدعو إلى أن يعترف بفضل الله ويشكره. وفي ذلك زيادة في النعمة.
هكذا، بالمسـيح، خلق الله الانسـانيةَ من جديد، وزوّدها بروح خاص تستطيع به أن تسـتعيد حياة صداقتها مع الله، كما خلقهـا في البدء، بل وأفضل من ذلك ان تتألّه.
ثالثًا ـ النص في إطاره الطقسي
واظِبوا على الصلاة…
والطقس عبادتنا الروحية الحقيقيّة، يغترف بها من كنز الوحي الإلهي. وتُذَكّر الصلوات بوعود الله وأعماله. منها وعوده لإبراهيم بأن تتبارك به الشعوب وتتوحّد (حوذرا 66/1) وبأن هذا الوعد قد تمّ وظهـر، في الإبن الحبيـب، السـر العظيم لخلاص العالم بتحقيق السلام للبشر، وقد كان قديمًا مخفيًا في الله (67/1). فالمسـيح حَلَّ بدمه الموتَ، وجمع الشـعوب في ملكوتـه، وقد خَسِره آدم وأعاده المسيح، وقد صار سيّد الكون (466/2). كان حب الله الكامل للخليقة مطبوعًا في وجه آدم، انما شوّهته الخطيئة، لكن المسيح صار ذبيحة الغفران والفداء، فصالح الكون مع الله، والبشر بينهم، وأعاد للحب نقاءَ هُ (464/2). وزيّننا بالقيامـة التي صالحت بين الخلائـق وجددتها كلها (393/2) بمواهب وبركات سماوية (409/2 و451)، لأننا ورثنا المسيح، ولأنها صيّرت البشرية جسمًا واحدًا حقًا للمسيح الذي لبسناه بالعماذ (391/2) فأصبح هو رأس حياته (393/2). وتُكثِر الصلوات من الحمد والتسـبيح والسـجود وتقـول : ” لِتُسبِحْه بالحمد والترنيم كل الشعوب والأمم واللغات “ (446/2).
رابعًا ـ التأوين
وفيه أنتم أيضًا…
كتب بولس لكنيسة معيّنة، ومن خلال ذلك أعلن الروح الحقيقةَ للعالم، ودعا كل الناس، في كل زمان ومكان ان يتفاعلوا معها. لأن الله جاء بابنه الوحيد لينال به العالم الحياة الأبدية (يو 16/3). فهل نفكّر ان الله قد اختار كل واحد منا ؟ وتبنّاه ؟ وغفـر له ؟ وكلّفه ان يواصل عمله، ويمجّد الله فيتمجّد هو ؟ هل نفكّر، ونحن خطأة، أن الله مدّ لنا يدَ الحب والرحمة (رومة 8/5) ؟ ونحن – من لبسنا المسيح – هل نقدر أن نقول مع بولس : ” حياتي هي المسيح “ ؟
قد سمعتم الحق…
لنتأمّل ونفكّر : أين نحن من سر المسيح ؟ أين البشرية منه ؟ هل عرّفْنا كل الشعوب بالمسيح على حقيقته، كما هو، لا كما صوّرناه وأطّرناه بأفكارنا وأذواقنا، وشوّهناه بتقاليدنا ؟ هل أدركت الأمم وقادتُها أن لها، بالمسيح، المستقبلَ المضمون والراحة والهنـاء ؟ قد تبنّى الله كلها، يحبها ويريد لها الحيـاة. بولس إفتهم هذا السر وإختبره وأذاعه. ونحن، ما مدى إدراكنا السر ومدى جهودنا لإعلانه ؟ المسيح لكل الناس وليس لِرُبع البشرية فقط. وكذلك الخلاص. ونحن أخوة المسيح وأبناء الله ما مدى اهتمامنا بقضية أبينا وأخينا ؟ دعوة العودة إلى الجنة المفقودة لكل أبناء آدم. لكن العودة لن تتم إلا بمعرفة المسيح والإنتماء إليه…
آمنتم… وخـُتـِمْـتـُمْ بالروح…
هل تؤمن، يا قارئي، أن دم المسيح وحده، عمله وحده، كلامه وحده، المسيح كله هو رجاء البشرية، وطبيبها المنقذ ؟! هل تسأل، وأسأل.. ونسأل لماذا شاء الله هكذا، وما هذه الحكمة ؟ أم نعود إلى أنفسنا، وندخل أعماق ذاتنا، وننظر هل نعيش في هذه البركات التي أفاضها الله لنا ؟ ونبحث عن ماذا نعمل لنعايشها ونشارك فيها كل الناس ؟ هل ندخل فكر الله وقلبه ونحاول تنفيذ ” سره، ومخططه، فنصبح للمسيح أعضاء حقيقيّة وحيّة تتجاوب مع تدبير الرأس، وتجتهد في إطار ” جسده “ لتجمع كل شيء في المسيح، فيصبح كلاً في الكل (6/4) ؟
ألا نستمر في اقامة مخططاتنا الخاصة، ونعزل من نشاء، ونرفض المسيح، باسم المسيح، ونخرج عن دائرة بركات الله ؟ هذه البركات الروحيـة السـماوية نَسمعُها في كل أحد وعيد في ختام القداس، لكن ما مدى تأثيرها علينا في بيوتنا، ودوائرنا وحيث نحيا معظم حياتنا ؟ لِنُراجعْ حياتنا، وقبل أن يفوتنا الوقت، لِنقرّر ان ندخل في ” لعبةِ الله “ حتى لا نخسر جائزَتَه، المجد الأبدي.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى