الافتتاحية

اليوبيلات الكهنوتية العدد (62)

                                                             اليوبيلات الكهنوتية


إحياء ذكرى سني البذل والعطاء
يحتفل الأساقفة والكهنة بين الحين والآخر بيوبيلاتهم الأسقفية أوالكهنوتية : إما باليوبيل الفضي، أي بذكرى مرور خمس وعشرين سنة على خدمتهم الأسقفية أو الكهنوتية ؛ أو باليوبيل الذهبي، أي بذكرى مرور خمسين عامًا على أداء رسالتهم الراعوية…
يقيم المحتفلون بهذه المناسبات السنية قداديس خاصة، ليعبروا عن شكرهم لله على النـعم التي أغدقها عليهـم، وعلى العطايـا التي مـنحها الرب للمـؤمنين بواسطتهم، خلال هذه السنوات الطوال.
وتُنظم لهم حفلات في قاعات الكنائس ليشاركهم الأهل والأصدقاء فرحتهم بقص كعكة اليوبيل وبتقديم التهاني والهدايا بهذه المناسبة العطرة.
إن هذه اليوبيلات فرص ذهبية، تدعونا لنتأمل بسمو الرسالة التي يؤديها آباؤنا وإخوتنا الأساقفة والكهنة، وبالدور الذي يقومون به في حياتنا الإنسانية والمسيحية، ولنعبّر عن مشاعر الشكر وعرفان الجميل من أجل سنين طويلة من البذل والعطاء لنا، ولنحدد دور المؤمنين في حياتهم وفي رسالتهم السامية.
يا أيها الكاهن، كم هي سامية الدرجة التي تقوم بخدمتها !
تعبر الترتيلة الآتية، التي ننشدها أثناء الرسامة الكهنوتية عن عظمة الكاهن وعن سمو رسالته :
” يا أيها الكاهن، كم هي سامية الدرجة التي تقوم بخدمتها ؛ إن ( الملائكة ) خَدمة النار والروح تهابها. إن ( الملاك ) جبرائيل مجيد و( الملاك ) ميخائيل جليل وتشهد اسماؤهما بذلك، ولكن إذا قورنا بالكهنوت، فإنهما صغيران جدًا “.
يقول القديس يوحنا ماري فيانيّ – خوري آرس – : ” إن الكاهن عظيم، ولن يقدر أن يفهم عظمته إلاّ في السماء… كم ان منزلة الكاهن سامية، ان الله نفسه يطيعه، إذ يتلفظ بكلمات وجيزة ( في القداس )، فيسمعه الرب، وينحدر مـن السماوات ويسكن في القربان المقدس “.
منحنا يسوع، بواسطة الكهنوت، الذي أسسه خميس الفصح، سلطة الإحتفال بأسرار الكنيسة، يقول البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة ” الأفخارستيا حياة الكنيسة “ : ” لا يمكن، في جماعة ما، أن يحتفل بالسر الأفخارستي شخص آخر غير الكاهن المرتسَم “ (29). فبدون الكاهن لا توجد الأفخارستيا. علمًا أن مركزالحياة المسيحية هو الأفخارستيا، إنها الهبة الأسمى التي منحنا إياها يسوع، وننالها بواسطة الكاهن فقط.
ماذا كان مصيرنا بدون الكاهن، إذًا لأصبحنا رعية بدون راعٍ، يقول القديس يوحنا ماري فيانيّ : ” دع خورنة عشرين سنة بدون كاهن، ستجدهم يعبدون الحيوانات “، أي يعبدون أصنام هذا القرن : المادة، المال، اللذة… إلخ، أي كل ما ليس هو ” الله “ تعالى.
الكاهن يرافق مسيرة حياتنا الارضية من المهد وحتى اللحد
يرافق كهنتنا مسيرة حياتنا الأرضية منذ المهد وحتى اللحد. بعدما يستدعينا الله من العدم إلى الوجود، يمنحنا الكاهن سر العماد ويفتح أمامنا الباب للحصول على سائر أسرار الكنيسة، فيه نصبح أبناء الله وأعضاء في شعبه، أي الكنيسة ؛ وبواسطة سر التثبيت، يحل علينا الروح القدس ويغمرنا بمواهبه السنية، وحينما نصل سن البلوغ ونبدأ التمييز بين الخير والشر، ونختار الخطيئة أحيانًا، يمنحنا الكاهن غفران الله في سر التوبة، ويغذينا بالخبز السماوي، أي القربان المقدس ؛ وحينما نكبر يمنحنا سر الزيجة وبواسطته يمنح الزوجين النعمة ليعيشا بحب وقداسة ويربيا أولادهما تربية صالحة، وحين نصاب بأمراض خطيرة يمنحنا مسحة المرضى، الذي يخفف من أوجاع المرض ويشفيه إذا رأى الله ذلك خيرًا للمريض، وحينما يقترب المسيحي من عتبة الموت يمنحه الكاهن الزاد الأخير أي القربان المقدس، ليمسك الرب بيده فيجتاز عتبة الأبدية بسلام.
أورد قداسة البابا بندكتس السادس عشر في رسالته بمناسبة بدء السنة الكهنوتية قول القديس يوحنا فياني الآتي : ” من الذي استقبل نفوسنا لدى دخولها هذا العالم ؟ إنه الكاهن، من الذي يغذيها ليزودها بالقوة لتقوم بحَجّها نحو الأبدية ؟ إنه الكاهن، من الذي يعدّها لتمثل أمام الله، إذ يطهرها للمرة الأخيرة بدم يسوع المسيح ؟ إنه الكاهن ؛ دومًا الكاهن. وإن كانت هذه النفس توشك على الهلاك ( بسبب الخطيئة )، من الذي يمنحها الطمأنينة والسلام، إنه الكاهـن أيضًا… إن الكاهن هو كل شيء بعد الله… “.
ويستطرد خوري آرس قائلاً : ” ما الفائدة من بيت ممتليء من الذهب، إذا لم يوجد أحدٌ يمكنه أن يفتح الباب ؟ إن الكاهن يمتلك مفتاح الكنوز السماوية، وهو الذي بإمكانه أن يفتح الباب، لأنه الوكيل الذي إئتمنه الله على خيراته… بهذا يواصل الكاهن عمل الفداء على الأرض “.
عرفان الجميل
حينما نستعرض حياة أساقفتنا وكهنتنا بإنصاف، سوف نكتشف بسهولة سخاءَهم في خدمـتنا حتى بذل الذات، لذا فإنهم يسـتحقون شـكرنا وعرفاننا بالجميل بجدارة.
إنهم يؤدون رسالتهم وسط صعوبات جمة، لا بل يعرضون حياتهم لخطر الموت أثناء أداء واجبهم الرعوي من أجلنا ؛ ألم يستشهد مثلث الرحمة المطران فرج رحّو رئيس أساقفة الموصل على الكلدان بتاريخ 2008/3/3 مع ثلاثة من مرافقيه، بعدما قام بمراسيم درب الصليب في كنيسة الروح القدس في الموصل ؟ ألم يستشهد الأب رغيد عزيز كني قرب الكنيسة ذاتها، بعد إقامته للقداس نهار الاحد 3 حزيران 2007 ؟ ألم يستشهد القس بولس إسكندر كاهن كاتدرائية مار أفرام بتاريخ 2006/10/11 في الموصل، ألم يستشهد القس يوسف عادل عبودي، راعي كنيسة مار سيوريوس الانطاكي في بغداد بتاريخ 2008/4/5 ؟.
كم كانت بطولية مواقف العشرات من كهنتنا الذين خُطفوا، وذاقوا التعذيب لعشرات الأيام، ثم أُطلق سراحهم ؟ ولكنهم عادوا إلى خورناتهم بعد هذه الخبرة المؤلمة ليواصلوا خدمتهم لنا بكل شجاعة ونكران الذات.
ألا يستحقون منا مشاعر الإحترام والإجلال والشكران وعرفان الجميل ؟
أجل يجب علينا أن نرفع للرب آيات الحمد والشكر الذي منحنا هؤلاء الآباء والإخوة : إنهم هبة غالية من الله، لا تقدَّر قيمتها إلاّ حينما نفكر بالمؤمنين المحرومين من الكهنة في شتى أنحاء العالم.
يظهر شـكراننا الحقيقي خاصةً حينما يلمس آباؤنا وإخوتنا الأسـاقفة والكهنة تجاوبًا لدينا لتوجيهاتهم، عندما يرون أن تضحياتهم تثمر فينا، إذ يرون أننا نزداد محبة لله وللقريب، ونطبق مبادئ الإنجيل السامية في حياتنا، وحينما نمارس واجباتنا الدينية كالإشتراك في القداس وفي سائر أسرار الكنيسة التي هي القنوات التي توصل إلينا نعم الخلاص.
مكانتنا في حياة الكاهن ودورنا في أداء رسالته
نطالب من كاهننا أن يكون حاضرًا وجاهزًا للقيام بالخدمات الراعوية باللحظة التي نطالبه بها، لا بل نبالغ أحيانًا بالإكثار من مطاليبنا. وكلما قدم لنا خدماته، نطالبه دومًا بالأكثر.
إن هذا الإستعداد الدائم لكهنتنا لخدمتنا وسخاءهم لا يمنعنا من توجيه الإنتقادات اللاذعة، والإفتراءات الكاذبة أحيانًا إليهم.
نطالب أن يكون كاهننا إنسانًا مثاليًا يجمع في شخصه كل الصفات الحسنة، أي أن يكون عالمًا، خلوقًا، قديسًا، ورعًا، سخيًا و… و… وأن تكون حياته خالية من أي خطأ أو نقيصة… أي الأمور التي لا يمكن أن تجتمع في إنسان واحد على هذه الأرض. بينما يجب أن نقبل كاهننا كما هو، أي بحسناته ونقائصه، كما يحاول أن يقبلنا هو كما نحن في الواقع بحسناتنا ونقائصنا.
دون ريب لدينا أحيانًا أسباب وجيهة حينما نوجه اللوم والإنتقاد إليه، بسبب ما نعدّه من أخطاء نجدها فيه. ماذا يجب ان يكون موقفنا في هذه الحالة ؟ أليس أن نقابله ونبدي رأينا بكل إحترام ولطف، اننا بذلك سوف نزيل الكثير من سوء الفهم ونصل إلى نتائج مُرضية.
لا يتمكن كاهننا ان يقوم بكافة واجباته الراعوية إذا لم نكن على إستعداد لمساعدته في القيام بالفعاليات الخورنية ؛ ولقد طالبت الكنيسة ان يكون للعلمانيين دور كبير في أداء رسالة التبشير، علينا أن نساعده في إدارة الخورنة ونقدم له العون الذي يطلبه، في النشاطات الرعوية المختلفة، كإلقاء دروس التثقيف المسيحي، وإعداد المراسيم الطقسية، ومساعدة الفقراء… إلخ
دون ريب إن كهنتنا سعداء لأنهم لبوا دعوة يسوع لهم وأصبحوا كهنة. أفلا يخطر ببالنا ان نظهر لهم صـداقتنا ومحـبتنا الأخـوية، خاصةً حينما يتعرضون لبعض الازمات الخطيرة، لنساعدهم فيجتازونها بسلامة. إن أخطر الازمات التي قـد يتعـرض لها الكاهـن هي ” العزلـة “. إننا لا نقصـد بعبـارة العزلـة ” إختلاء الذات“ للتفرغ للصلاة والتأمل وإعداد المواعظ… ولكن نقصد بالعزلة حينما نترك كاهننا يجابه صعوبات الحياة وحيدًا، دون أن يجد أصدقاء من الرعية يقفون إلى جانبه ويقاسمونه هذه الاوقات ؛ قد تعرضه هذه الأمور لشتى الأخطار، إذ وصلت الحالة بالبعض إلى الإدمان في تناول الكحول، ومن ثم الموت.
كم كاهن بدأ حياته الكهنوتية بحماسة وإيمان وقّاد، ولكن بسبب مواقف اللامبالاة، لا بل العداء أحيانًا، التي لقيها من مؤمنيه، جعلته يصاب بالإحباط، ولربما لترك رسالته الكهنوتية.
رسالة قداسة البابا
نود أن نختم هذه الإفتتاحية بفقرة هامة وردت في رسالة الحبر الأعظم البابا بندكتس السادس عشر إلى الكهنة بمناسبة السنة الكهنوتية بتاريخ 19 حزيران 2009 :
…نذكر بكل محبة وتقدير، ألهبة العظيمة المتمثلة في الكهنة، ليس للكنيسة فقط، إنما للبشرية نفسها.
إنني أفكر في جميع هؤلاء الكهنة الذين يقدمون للمؤمنين المسيحيين وللعالم أجمع التقدمة المتواضعة واليومية…
كيف لنا إلاّ أن نوضح جهودهم الرسولية وخدمتهم الدؤوبة والخفية ومحبتهم المنفتحة على العالم ؟ وماذا عن الأمانة الجريئة التي يظهرها العديد من الكهنة الذين يبقون أوفياء لدعوتهم، دعوة ” أصدقاء المسيح “، على الرغم من الصعاب وسوء الفهم الذي يواجهونه…
لا أزال شخصيًا أحفظ في قلبي ذكرى حية لأول كاهن مارست إلى جانبه خدمتي عندما كنت كاهنًا شابًا، فقد ترك لديّ مثالاً للتفاني الراسخ في خدمته الرعوية، إلى درجة أنه توفي عندما كان يحمل الزاد الأخير لمريض في حالة خطرة “.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى