الافتتاحية

الميلاد على ضوء القيامة العدد (48)

الميلاد على ضوء القيامة



هدف الإنجيلي لوقا من سرد أحداث الميلاد
ماذا كان هدف القديس لوقا من سرد أحداث ميلاد يسوع المسيح في الفصل الثاني من إنجيله ؟ هـل كان هدفه ان يسحر قرّاءه بإحياء ذكريات عاطفيـة دافئة لأحداث أحاطت بولادة الطفل يسوع للتخفيف من وطأة مصاعب الحياة الحاضرة ؟ 
كلا، ليس هدف لوقا هذا. للإنجيلي لوقا أهداف عديدة، يمكننا اختزالها على النحو الآتي : إنه يريد ان ينقـل إلينا فحوى إيمانه الشخصي وإيمـان المسيحيين الأولين، الذين دوّن إنجيله في زمانهم، بيسوع المسيح ؛ ويريد كذلك الإجابة عن تساؤلات معاصري المسيح ومعاصريه من اليهود والوثنيين، مستفسرين ” من هو يسوع ؟ “.
إنه سؤال طرحه كل إنسانٍ آتٍ إلى العالم على نفسه منذ الميلاد عِبر الأجيال كلها، وما زال يطرحه كل البشـر حتى يومنا هذا. إن جـواب الإيمان يقدم لنـا مفهوم الميلاد ومعناه. ليس في إمكان أحد ان يحتفل بعيد الميلاد بدون تفرّس في وجه هذا الطفل الذي يسألنا بدوره ” من أنا بالنسبة إليكم ؟ “.
الميلاد على ضوء قيامة يسوع
لربما استغرب البعض إذا قلنا إنه ليس في الإمكان الرد على هذا السؤال إلاّ إذا سلّطنا ضوء القيامـة على الميلاد، فـلا يمكننا أن نفهم ميلاد يسـوع إلاّ إذا تذكّرنا قيامته المجيدة، من دون انتصار المسيح على الشر والموت لما تحدثنا اليوم عن الميلاد. لولا قيامة الرب يسوع من بين الأموات، لأحاط السكوت بالقبر يوم الجمعة العظيمة، ولنُسيَ يسـوع كما نُسيَ ملايين الناس الذين ولدوا قبلـه أو بعده. ان فجر القيامة غيّر كل شيء.
حينما نتفرّس اليوم في طفل المغارة، فإننا نسجد في هذا الطفل ليسوعَ القائم من بين الأموات، أي يسوع الحي، يسوع الحاضر بيننا ومعنا وفينا في كل لحظة.
نستقبل يسوع عِبر كلمة الله وأسرار الكنيسة
نستطيع إلتقاء يسوع واستقباله يوميًا من خلال اشـتراكنا في القـداس الإلهي وتناول القربـان المقدس، والاقتـراب مـن سر التوبة والمصالحة وتقبّل سـائـر أسـرار الكنيسـة. كمـا يمكننـا اسـتقبال يسوع الحي يوميًا من خلال تأملنا بصفحـة مـن صفحات الكتاب المقدس، الذي يحتوي على كلام الله، ويسوع المسيح هو كلمة الله المتجسدة (يوحنـا 1). هكذا يحل يسوع الحي في حياتنا، ويُصبح قلب كل واحد منا مغارة حقيقية مجردة من الأنانية، ومزينة بالمحبة والفضائل، ولائقة بمقامه.
لقاء يسوع من خلال اخوته البشر
قال المـلاك للرعـاة : ” ها إني أبشّـركم بفرح عظيم يكون للشـعب كلّه “ (لوقا 10/2)، بهذا يدعونا عيد الميلاد إلى البهجة.
ولكن لنتذكر الآلاف من اخوتنا البشـر الذين تطل عليهم هذه المناسـبة وهم
يعيشـون في ظل المنازعـات والحروب والأوضـاع غير الآمنة وفي مُخيّمـات اللجوء، لنتذكر آلاف الأخوات والأخوة الذين سيمرّ عليهم هذا العيـد وهم يعانون من الأمراض والفقر والحزن والعزلة ؛ هل ان فرحة الميلاد ليست موجّهة إليهم ؟
أتقتصر فرحة الميلاد على الناس الذين تسير امورهم على ما يرام ؟ كلا، إن الملاك قال لرعاة بيت لحم إن فرحة الميلاد هي ” للشـعب كله “، إنها تشـملنا جميعًا من دون استثناء، ولكن يجب ان نعرف أين توجد هذه الفرحة.
إن الفرحة، التي يعد بها الملاك، لا توجد في قعر قناني المشروبات الكحولية ولا على الموائد العامرة بأنواع الأطعمة الدسمة، ولا في حفلات النوادي، إذ كل هذه المظاهر تدفعنا لنفتش عن الفرح حيث لا يوجد. لأننا مجرّبون ان نخلط بين أفراح هذا العالم وبين السـعادة التي يتحدث عنها يسـوع حينما يقول : ” طوبى للودعاء، طوبى لأطهار القلـوب، طوبى لفاعلي السـلام، طوبى للفقـراء، طوبى للباكين الآن… “.
من الغريب أن طريق الفـرح يمرّ بالصليب، عكس ما يعتقـده الناس، يكفي لنقتنع من هذا ان نتأمل مغـارة بيت لحم، ونتأمل فقر العائلة المقدسـة، وبساطة الرعاة، وضعف الطفل المولود الذي أبصر النور وسطَ العوز وتهديدات هيرودس، وإراقة دماء الأطفال، بينما هو ملك الملوك.
ليس فقـر المغارة هو الأمـر الأهم : بل هو ملكوت الله الذي يشـير إليـه، هذا الملكوت الذي يملكه ” المسـاكين بالروح “ فقط، حتـى حينما يُحتفل بالعيـد وسطَ الرفاه.
إذا ما احتفلنا بعيد الميلاد وسـط مظاهر الغنى والترف، لنتذكّرْ دومًا ان كل هذا يأتينا من الله، وعلينا ان نضع الرب في الصـدارة من حياتنا ونشكره علـى هذه العطايا. أما إذا احتفلنا بعيـد الميلاد وسـط مظاهر العوز والدموع والظلام، فَلْتحفرْ هذه المعاناة مكانًا ليسـوع في قلبنا، ولْننصتْ إليه برحابةِ صَدْر قـائلاً : ” طوبى للفقراء… “.
يمكننا أنْ نؤكد إن فرحة الميلاد هي في متناول يد الذين يبكون، لا بل يقدمها الله لهم بالمقام الأول ؛ لأن يسوع يأتي لكي يسلّيهم ويخفف من آلامهم. لذلك فإنه قرر ان يحتاج إلينا لنقدمها لهم. فلكي تشع فرحة الميلاد على كل إنسان، يطلب منا يسوع ان نقاسم الفقير لقمة العيش، وان نزور الذين يعانون من مصائب هذه الدنيا، وان نغفر لمن أساءَ إلينا، وان ننتبه إلى الجار الحزين.
” أبشّركم بفرح عظيم… “ لن تكون ذكرى ميلاد الرب احتفالاً حقيقيًا ونزيهًا إذا لم نجعل منه فرصة تسلية وفرح لأخوة يسـوع المسـيح الحزانى والمتألمين والمرضى والمهاجرين، فنزورهم ونمسح الدمعة من مآقيهم… لأن يسوع أراد ان يكون شبيهًا بهم، فولد فقيرًا ومهاجرًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى