القراءات الكتابية الطقسية

الميلاد الثاني والتجديد بالروح (40)

الميلاد الثاني والتجديد بالروح
الاب بول ربان
(11/2) فنعمة الله، ينبوع الخـلاص لجميـع البشـر، اشـرقـت… (14) ضحّى بنفسـه.. حتى يفتدينا من كل شـر، ويطهّرنـا ويجعلنـا شـعبه الخاص الغيور على العمل الصـالح (15) هكـذا تكلـمْ وعـظْ ووبّخْ… (1/3) ذكّرْ المؤمنين ان… (4) لمـا ظهر لُطفُ الله مخلّصنـا ومحبته للبشر، (5) خلَّصَنا لا لأي عمل صالح عملناه، بل لأنه شاء برحمته أن يخلّصنا بـِغُسـْلِ الميلاد الثانـي، والتجديد الآتي من الروح القدس، (6) الذي أفاضه الله علينا وافرًا بيسوع المسيح

 إلى إبني… تكلّمْ.. عِظْ.. وبِّخْ
من هو طيطس ؟ يوناني أهداه بولس إلى الإيمان (4/1)، يُعتقد انه انطاكي من حيث رافق بولس وبرنابا حاملاً التبرعات إلى اورشليم بسبب مجاعة سنة 50. لم يرغمه الرسل على الختانة (غل 7/2 وأع 30/11). انه رفيق بولس وأول معاون له ذكره الكتـاب (2 كور 23/8)، أشـرف على عملية التبرعات أيضًا عند الكورنثيين (2 كور 6/8 و16)، كما ابتدأهـا في مقدونيـة (2 كور 1/8-6). يبدو حريصًا ومهتمًا بالكورنثيين، ويوحي الثقـة عند بولـس بحيث يوكلـه بمَهَمّات صعبـة، لا جمع التبرعات فقط، بل يوفده أيضًا لحل الخلافات في كورنثية (2 كور 5/7-7)، ولخدمة في دلماطية (2 طيم 10/4) ينجح فيها ويريح الرسول فيكلفه أخيـرًا بتنظيم كنيسـة كريت وقيادتها راعيًا يجعل من نفسـه قدوة للمؤمنيـن (7/2) يعلّمهم ويهذبهم في الإيمان : تكلم، عِظ، وبخ (11/1-14 و15/2).
* نظـِّم… علـِّم… ذكـِّر…
أما الرسالة، فبرغم قِصَرها، تحوي تعليمًا غنيًا وصريحًا، أيدته الرسـالة إلى طيمثاوس، هو مَهَمّة الأسقف الرعوية. ويختصرها في ثلاث نقاط : (1) الراعي يهتم برعيتـه، ينظم إدارتهـا، ويقيم لها خدامًا قديريـن (5/1-16). (2) الراعي يعتني بإيصال التعليم الصحيح، بكل السبل إلى المؤمنين كافة (1/2-15)، لا سيّما بالمثل، حتى يخزى الخصوم (8/2) ولا يكـون لهم فرصة الطعـن في العقيدة أو الأخلاق (7/2). (3) الراعي ينبّه وينصح ويذكّر شعبه ثم يطالبه بكل عمل صالح (2/3 و8)، وهذا علامة مميزة لشـعب الله (14/2) فيتجـرد عن سـلوكه السـابق ” بِغُسْلِ الميلاد الثاني “ ويتجدد بروح المسيح ليقوم بِرّه على قوة الله (5/3-7).
2. نعمة الله تخلص بالمعموذية
إستعمل النص عبارة غنية جدًا. الخلاص يتم ” بِغُسْلِ الميـلاد الثاني والتجديد بقوة الروح “. ماذا يعني بها بولس ؟ ما هو الميـلاد الثاني ؟! حتى نفهمه نقـرأ (يو 3/3-5) : لا خلاص إلا لمن يولد من فوق، من المـاء والروح، أي يولد من الله بالإيمان، وليس من الجسد باللحم والدم (يو 12/1-13)، بواسطة يسوع المسيح (بقبوله والإنتماء إليه). والمعموذيـة هي السـبيل إلى ذلك : ” من آمن واعتمـذ يخلص “ (مر 16/16). يتم الميـلاد الثاني فعلا ” بِغُسْـلِ “ ماء العماذ. هذا العماذ الذي يغمس المؤمـنَ في قبر جرن الماء، فيموت عن الحياة الجسـدية المحضة، الملوثة بدنس الخطيئة، ويولد من جديد من الجرن لحياة جديدة روحية، إلهية. حياة لا يعطيها له الأبوان بقـوة اللحم (الجسـد)، بل يمنّ بها عليه الله نفسـه على يد الروح القدس (لو 35/1)، الذي يسكب ويوزع كنوز المسيح التي اكتسبها للبشرية بقيامته. يموت المؤمن، بالعمـاذ، عن الشـر الذي يلوثه ويغتسـل عنه فيقوم للبِر (روم 3/6-5)، برارة صداقة الله وحبه. عماذ المؤمن ولادة ثانية من موت المسيح وقيامته. والحياة الجديدة التي يتمتع بها ليست استنشـاق حر للهواء، بل هي تنفس هواء الله، فتجري في عروقه القيم الإلهية : الحق، الحب، الصلاح، الطيب، التفاهم، البناء… بالولادة الأولى ينتمي المرء إلى الإنسانية الخاطئة، وبالمعموذية يولد من الله، فيتطهر من التلوث الذي شوّه طبيعته، ويعود يتمتع بالنقاء والبِر الإلهي، وله الروح القدس، روح الله الذي ينصره على كل ” روح شرّير “ (1 يو 1/4-6).
* علـّمهم أن يحافظوا على الإيمان الصحيح
إن الولادة الثانية تجعل الإنسان خليقة جديدة. لأن المسـيح ” أزال القديم وجعل كل شيء جديدًا “ (2 كور 17/5). من صورة الله وشـبيهه في الحياة أصبح الإنسان ” إبنًا ووريثًا “. هذا هو التجديد، الجديـد بالروح القدس. الروح المرفرف على الخليقـة الأولـى (تك 2/1) والذي أشرف على التجسد (لو 35/1) وأفِيض علـى البشـرية (أع 2/2-4) يخلق المؤمن بشكل جديد في العماذ. فيتغيـر جذريًا في فكره وعمله، فيرى الأمور في جوهرها كما يراها الله ويريدها (روم 2/12). لا يعني التجدد التغيير في الخارج، ما قد ينفخـه فقط (روم 3/12)، بل يعني امتـلاك قوة باطنيـة تجعله يعرف الله بسهولة، معرفة حقيقية (2 كور 16/5) ويجاهد باستمرار في فكره وقلبه ضد الشر والأشرار، خالعًا إنسانه القديم (قول 9/3)، مرتفعًا نحو الله، متشبهًا ومتحدًا به في باطنـه ومتجددًا (فلا يعتق بعد) يومًا بعد يوم (للأبـد) (2 كور 16/4)، لابسًا الإنسان الجديد (أف 22/4-24)، المسـيح نفسه (غل 20/2). فيعمل أعمال الله، ويبلغ أقواله كالمسيح. ويبقى جديدًا لا يشيخ ولا يضعف، بل يبقى مثل خالقه (قول 10/3) رفيعًا، قويًا لا تنال منه أمواج الشـر، يحقق دومًا ما هو حق وبِر وعدل وخيـر، يكون جديدًا إذ يتخلّى الإنسان، باسـتمرار، عن السلوك البشـري المحض ” الذي تفسده الشهوات “، ويتغير ” روحًا وذهنًا “، ويتبنى مثل الله ” البِر وقداسة الحق “ (أف 22/4-24)، ويبلغ ملء قامة المسيح (أف 13/4) أي ما يوافق سعة الله (أف 19/3).
* ظهر لـُطفُ الله وشاءت رحمته
إن الخلاص يتحقق بين قطبيـن : الله الذي يبـادر ويعطي، والإنسـان الذي يقبل ويفعّل نعمة الله. بادرة الله مجانيـة بسبب لطفه ومحبته الفائقة ورحمته التي لا تقاس (4/3-5) : وقد أدى الله دوره. وعمل الإنسـان أن يعايش ميـلاده الثاني ويستمر جديدًا، فعليًا، فيتأهب لكل عمل صالح (2/3 و8) فتشع فيه الحيـاة الإلهية، ويغتني (1 طيم 18/6) بسـلوك متميز مختلف عن أهل العالـم (12/2-13) يحرص عليه (2/14) فيكـمّ أفواه أعداء الإيمـان (11/1) ويُخزي الخصوم ويُفحـم جهالة الأغبياء (1 بط 15/2 وطي 8/2) ويشهد له ” البِر والتقوى والمحبة والصبر والوداعة… “ (1 طيم 11/6).
3. السبّاح إذا لم ينزع قميصه يغرق
هكذا قالت صلاة السـهرة للأحد الثانـي للصيف (حوذرا 186/3). إن لم ينزع الإنسان شره يغرق في عالم الفساد. والذي يقدر أن ينزعه منه ويغسله هو المسـيح بالمعموذيـة. إنه لعجب عظيم. ان حشـا الماء تحبـل وتلد أجنّـة كاملين. حتى لو ولدت الـميـاه الدبيبـة والطيـر (تك 20/1) لكنه لـم يسـمع قط ان الإنسـان تولده الـميـاه !! (119/1). لأن مياه المعموذيـة تغسـله (241/1 و181/3) وتجـدد صنعـه (149/1) وتكرمه بامتياز أبناء الله (142/1) وتورثه حياة جديدة (260/1). إذ حبله الرب في حضن المـاء جنينًا جديدًا لا يعـرف الموت (144/1) لأنه يلبـس الروح القدس (156/1). هذا هو الميلاد من الروح والماء. ويجدر هنا ذكر طقس العمـاذ، فهو يؤكّد بصريح العبـارة ان المعمَّذ يولد ولادة جديـدة، من الله، من فوق، وتتجدد طبيعته، وينـال ضمان الحيـاة الأبديـة، لقد ” ولد بجدة الحيـاة “ (قول 9/3-10) وأصبح إبنًا لله، وأخًا للمسيح، وشريكًا في موته وقيامته (حوذرا 466/2-467).
4. بشّرنا نحن أيضًا كما بشّر أولئك
ما كتبه بولس يتحدّى تلميذه ليشمل مسيحيي كل الدهور. وقد كثر الحديث، في العقود الأخيـرة، عن ” الميلاد الثاني “ و” التجديد “. حدث لي أن غاب مؤمـن عن القداس. ثم رأيته في نشاط روحي للكنيسة. سألته عن الغياب فأجابني ببساطة ” غبيـة “. أما عرفت ؟ ماذا حصل ؟ لقد ولدت ثانيـة ! لقد تجددت ! وبعد ؟ أقول قد تجددت. الآن عرفت المسيح فانتقلت، كما يلزم، إلى الكنيسة… !! ولما شرحت له ” الميلاد الثاني “ استغرب.. فاضطرب وإنحرج. ” لقد خدعوني إذن ! كانوا ذئابًا بلباس الحمـلان ؟ “. وكنتِ ابنة لحواء !! يؤكد بولـس ان المعمذين انتموا إلى قيامة المسـيح وتجددوا (روم 3/6-5)، وبطرس يكتـب : ” انكم ولدتم ولادة ثانية، لا من زرع فاسد، بل من… كلام الله الحي الباقي “ (1 بط 23/1) وكلنا نحن المسـيحيين قد ” اعتمذنا “ ! والسـؤال هو : ما مدى عمـق إدراكنا للمبدأ، وقوة عيشـنا له ؟ ما مدى قناعتنا وإلتزامنا بما نعلنه ؟ هل يكفي اننا قد إلتزمنا به حينًا ؟ أو اننا نصبو ونحلم بمعايشته ما دمنا في الكنيسـة فقط ؟ هل نخاف من كل جديد ونتشبث بالتراث ؟
الحياة كلها في تجدد مسـتمر، لا لضمانها فقط بل لتحسـينها أيضًا. الطبيعة تتجدد كل ربيـع. الحيـة تنزع جلدها كل سنة. خلايـا جسد الإنسـان في تجدد مستمر، وإلا يموت. توقف التجدد موت وزوال. أما التجدد، فضمان البقاء واقتناء خيرات جديدة. صحيح أن التجدد يتطلب جهادًا ونضالاً. ولا غرابة فيه. ” ملكوت الله ما زال في جهاد، والمجاهدون يأخذونه عنوة “ (متى 12/11). لأن أبناء العالم لا يكلّون عن محاربة الحق والإيمان. ولكن هل يليق بأبنـاء الملكوت أن يكونوا أقل غيرة منهم ؟ (لو 8/16). لنتذكر جهاد بولـس ويقول إنه يمـوت كل يوم من أجل المسيح (1 كور 31/15) ليكون بلا عيب في يوم ربنـا (1 كور 8/1). إن كانت الأشجار تتجدد كل سنة وتعطي ثمرًا، فعلى الإنسان أن يتخلص كل يوم من أخطائه ورذائله، لانها تُميته أو تُعيق نمو المسيح فيه، فيبقى إيمانه أخضر وحبـه فاعلاً فيعطـي الثمار المرجـوّة مثل شـجرة الحياة (رؤ 2/22).
هكذا يدعونا عماذنا وتجددنا لا إلى تغيير إيماننا، ولا إلى حذف عبادتنا، ولا إلى تبنّي بوق الدعاية لكل جديد برّاق، بل إلى العيـش، كالمسـيح، شـاهدين للحق والحب، كما تريده رسـالتنا (يو 37/18 ولو 48/24 وأع 8/1). هذه الدعوة موجّهة إلى كل مؤمن، كل مؤسسة،
كل كنيسـة، كل بلد… إلى المؤمنيـن من كل الأديـان.. إلى العالم أجمع. لنتجدد بطرق تفكيرنا في عرض الحقيقة. وباسلوب تصرّفنا. وعند تعاملنا مع كل إنسان، أي إنسان. لنصوّر فينا أعمال المسيح، ونعكس صورة مجد الرب، بل نتحول إليها، مطهّرين أنفسنا من أدناس الجسد والروح، ونتمّ تقديسنا في مخافة الله (2 كور 1/7).

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى