الميلاد، لقاء لترميم علاقة قديمة (100)
الميلاد، لقاء لترميم علاقة قديمة
"لا تخافوا! ها انا ابشركم بخبرٍ عظيمٍ يفرح له جميع الشعب" (لو ٢: ١٠)
الأب هاني جرجيس
مقدمة
" البشرى "، هو ترجمة اللفظ اليوناني " انجيل " واللفظ لا يدل على كتاب، بل على بلاغ مفرح سبق ووجدناه عند النبي إشعيا (٤٠: ٩، ٥٢: ٧). لإعلان حدث سعيد، حدث تحرير شعب الله من المنفى البابلي (القرن ٦ ق.م). في أيام يسوع، وفي العالم العادي، " البشرى " هي حدث سار يطبع بطباعه تاريخ البشرية : انتصار، ولادة، تتويج الملك… وهنا تأتي الأهمية الكبرى للحدث السعيد الذي يُعلن : يسوع الناصري هو " المسيح " و" ابن الله ". ونحن أمام صفتين كبيرتين أعطيتا لنبِّي الجليل[1].
يمكننا أن نميز في هذا النص ثلاثة أصعدة : الوقائع التاريخية، والتفسير التعليمي، وفكرة لوقا الشخصية.
- إن ذهاب يوسف ومريم الى بيت لحم وولادة يسوع في الفقر تشكل الواقعين التاريخيين الجوهريين. أما الظروف الأخرى فقد ذكرت باهتمام أقل.
- إن التقليد المدراشي (التعليمي) يهتم بالزاوية العجيبة التي لهذه الوقائع، وهي : ظهور الملائكة، المجد الالهي الذي يعلن الأزمنة الاخيرة، تحقيق أقوال النبي ميخا.
- وأولى هذه النبؤات (ميخا ٥: ١-٤) تشدد أن المسيح هو الملك الداودي المنتظر.
- والثانية (ميخا ٤: ٧- ١٠) تصرّح بأن الملكية المعلنة ليست ملكية داود، بل ملكية الله نفسه (يهوه يملك عليهم ميخا ٤: ٧). إن شعب العهد القديم شدد دائمًا أن الملوك لم يحكموا إلا باسم الله.
يمكننا أن نعزو إلى التقليد المدراشي التعارض الظاهر في القصة ما بين جماعة فقراء صهيون ومدينة أورشليم. ومريم تظهر وكأنها " بنت صهيون الجديدة " (ميخا ٤: ١٠، ٥: ٢) والفقراء المحيطون بها يحيطهم هذا " المجد " الذي كان إلى ذلك الحين وقفًا على الهيكل (حزقيال ٤٠: ٣٥).
- أما فكرة لوقا الشخصية فتظهر خاصة في التعابير التي اختارها من مفهوم الفصح (مثلاً : مخلص، بكر، رب). فكأنه يريد القول إن هذا الطفل هو رب الكل وفقره هو فقر الصليب.
- " وكانت مريم تحفظ هذه الأحداث في قلبها " لأنها تعتبر الميلاد في بيت لحم كعلامة نبوية لسر أعمق سيتجلى بعدئذٍ.
- إن وصف التعجب الذي يشمل شهود الميلاد هو إيمان مسبق بسرّ المسيح القائم من بين الأموات. (لوقا ٤، ٢٢، ٨: ٢٥، ٩: ٤٣، ١١: ١٤- ١٦، ٢٠: ٢٦، ٢٤: ١٢ و٤١).
كما أن موضوع التمجيد مرتبط في أمكنة أخرى بظهور المسيح الفصحي (لوقا ٢٣: ٤٧، ٢٤: ٥٣، أعمال الرسل ٢: ٤٧)[2].
- علاقة حميمية، صورة مثالية
كل شيء يبدأ بخَلق الكون والاعلان أنه صالح لأنه خرج من يد الله، وبخَلق الإنسان المصنوع على صورة الله ومثاله ليسود على هذا الكون. والرجلُ والمرأة اَللذان هما موضوع عناية الله واهتمامه وُضِعا في جنّة الله ليعيشا في السعادة ويتمتعا مع الله بحياة حميمة يُمكن أن تدوم إلى ما لا نهاية. ولكنَّ هذه الرؤية المثالية لا تطابقُ الواقعَ الذي يعيشه الإنسان اليوم. فلقد حصل ما حصل، فبدأت مأساة لا نزالُ نعيش آثارها إلى الآن.
تكبرا آدم وحواء وأرادا أن يكونا مُساويين لله. اعتبرا أنهما يعرفان الخير والشر، ورغبا أن يتحررا من الخضوع لأمر أُعطي لهما. فكانت الخطيئةُ الأولى التي تكمُن في العصيان لله والتمرّد على أوامره. حينئذ زالت الحياة الحميمة مع الخالق وضاعت حالةُ السعادة والبراءة.
ولكن بقي بصيص أمل: سيخرج من نسل المرأة من يتغلّب على قوى الشرّ في العالم. ولقد رأى التقليدُ المسيحي في هذا القول إنباءً عن مجيء يسوع المسيح الذي سيتغلب على الخطيئة والشر والموت. قال القديس بولس في هذا الصدد : " إن الخطيئة دخلت في العالم على يد إنسان واحد، وبالخطيئة دخل الموت… إذا كانت جماعة كثيرة قد ماتت بزلة إنسان واحد، فبالأولى أن تفيض على جماعة كثيرة نعمةُ الله الموهوبةُ بإنسان واحد، ألا وهو يسوع المسيح " (روم 5: 13- 15)[3].
لقد شوه الإنسان صورة الله، وفقد الحياة الحميمية معه، وتوترت العلاقة بينهم والله، وبتكاثر وانتشار البشرية على الأرض ازدادت معها الخطيئة، وبالخطيئة سادت شريعة العنف والقتل واهدار كرامة الانسان. لقد تسلط الإنسان على أخيه الإنسان، وحلت شريعة الانتقام محل شريعة الرحمة والحب، فلم يعد الإنسان يسلك شريعة الله، بل يعيش بمشورة الشرير. لكن الله سيحقق مخططه الخلاصي في العالم بواسطة الأبرار الذين يعيشون تحت كنف الله ويعملون حسب إرادته. لذلك يلتزم الله بعهده معهم، وهذا واضح في قول الله لنوح " ها أنا مقيم عهدي معكم ومع نسلكم من بعد " (تك ٩: ٩).
لم يتوقف الله أبدًا خلال التاريخ من المبادرة بمحاولات عديدة ليثني الإنسان عن الخطيئة ليرجعه إلى صورته الأولى، فيحدثنا الكتاب المقدس عن أنبياء كثيرين كانوا صوت الله للإنسان، في زمن كثر فيه الظلم والشر. إن زمن الوعد بالخلاص انتهى بولادة يوحنا المعمدان، أما زمن اتمام المواعيد فيبدأ مع يسوع المسيح. فيوحنا رسالته واضحة وهي تهيئة الطريق أمام يسوع، أما يسوع فهو رغبة الله التي بها يلتقي الإنسان ليرمم العلاقة معه مرة أخرى، بل وهي فرصة للإنسان ليستعيد إنسانيته مرة أخرى على مثال إنسانية يسوع المسيح، الكلمة المتجسد، الكائن مع الله منذ الأزل. لقد بدأ خلاص الله داخل تاريخ البشر، بخبر بشارة الملك لمريم (لو ١: ٣١).
فيسوع المسيح صورة الله التي بلا عيب، لبس جسدنا الناقص والمشوّه بالخطيئة، ليعطينا القدرة اللازمة للتغلب على الخطيئة، والعودة مرة أخرى إلى حضن الله.
وفي هذا يقول القديس اوغسطينوس " لقد صار الله إنسانًا بارًا يشفع عن الخطأة أمام الله (الأب) وبالتصاقه بنا شابهنا من جهة الناسوت حتى ينزع عنا ما هو ليس على شبهه أي شرنا ! "
إن ميلاد يسوع، كلمة الله، هو إخلاء للذات وتجرد يهدف أساسًا إلى إعادة العلاقة المنقطعة بين الله والإنسان المتمرد، فالإنسان مخلوق علائقي، ولا يمكن أن يجد نفسه خارج العلاقة مع الله.
يقول القديس أوغسطينوس " اللهم، لقد خلقتنا لذاتك، ولن تجد نفوسنا راحة إلا إذا استراحت فيك "، " لقد كنت معي ولكن انا من أجل شقاوتى لم أكن معك يا الله ".
إن ولادة يسوع المسيح هي بشرى الفرح التي علينا أن نستقبلها بوعي واستعداد قلب، فثمرة التجسد الالهي هي أن يفهم الإنسان ويعي أن هويته متأصلة في الله، وأن دعوته إلهية. لذلك عليه أن ينزع الإنسان القديم المشبع بالغرور والأنانية، والحقد، والشهوات، البغض… ويلبس الإنسان الجديد الذي على مثال يسوع المسيح فيتحلى بالوداعة، التواضع، المحبة، الانفتاح، التضحية، والمبادرة…
فالله الذي بادر لفتح طريق العودة إليه مرة أخرى فلبس ضعفنا وتنازل ماحيًا وغافرًا ذنوبنا، يدعونا اليوم لفتح ابواب قلوبنا والانطلاق تجاه إخوتنا حاملين الغفران والتسامح لكل من أساء إلينا، ساعين إلى بناء علاقات مع أخوتنا، قائمة على المبادرة وإخلاء الذات والمحبة والغفران.
لقد رغب الله أن يلتقي كلٌ منا لقاءً شخصيًا، فلبس جسدنا الضعيف، لينتشلنا من غربتنا، وينزع عنّا كل الحواجز، وهكذا تصالحنا مع الله وبالتالي مع ذواتنا، وأصبحنا قادرين على الانفتاح على الآخرين وقبولهم.