الافتتاحية

” الموتُ والحياة في يد اللسان “ (الأمثال 21/18) العدد (38)

                            ” صن لساني عن الشر “
                                        (مزمور 34 / 14)   
          
   ” الموتُ والحياة في يد اللسان “ (الأمثال 21/18)

نلفظُ أحيانًا كلماتٍ بخفّة، وننساها حالما نطقنا بها، فتتبخر من ذاكرتنا من دون أن نقيس جسامة الآثار التي تتركها فينا ولدى الآخرين.
لا بُدَّ أن كُلَّ واحدٍ منا تأَثَّرَ يومًا ما بعبـارات وجّهها الآخـرون إليه، تأثيرًا خيّرًا كان أو سيئًا، أَكانت تلك العبارات كلمات تشجيع أم تقريع، اقوالَ محبة أم حقد، الفاظَ مديح أم ذم.
إِننا نذكرُ أحيانًا، وبعد سـنين طويلة، بعض جمل وُجهت إلينـا، فتركت أَثرًا حاسمًا في نفوسنا، لربما قد نسـيها قائلوها، ولم يبقَ لها أثرٌ في ذاكرتهـم ؛ كما تكفي أَحيانًا ملاحظة طيّبة من شخصٍ نثقُ به لنحسّن نظرتنا السلبية عن إنسـانٍ ما، وتكفي أحيانًا أُخرى عبارتان أو ثلاث لتدمّر سمعة شخص آخر.

” أقِمْ يا ربِّ حارسًا على فمي وراقب بابَ شفتيَّ “ (مز 3/141)

يشبّهُ الرسول يعقوبُ اللسانَ بدفّة السفينة قائلاً : ” انظروا إلى السفن، فإنها على ضخامتها وشِدَّة الريـاح التي تدفعها، تقودُها دفَّةٌ صغيـرة إلى حيث يشـاءُ الربّان ؛ وهكذا اللسان، فإنه عضو صغير، ومن شأنه أَن يفاخِرَ بالأشياء العظيمة “ (يعقوب 4/3-5). إن حجم دفّة السفينة صغير جدًا. وموضوعة في مؤخرة الباخرة، ولكن قدرتها كبيرة، إذ يمكن لإنسان واحد ان يحرّكها، فتتوجّه السفينة الضخمة بالإتجاه الذي يريد. كذلك الأمر بالنسبة إلى اللسـان، فحجمه صغير، ولكن قدرته كبيرة، إذ في امكانه توجيه حياة الانسان كلها بالإتجاه الذي يرغب فيه الانسان. يمكننا استخدام لساننا، كسـائر الهبات التي انعـم الله بها علينا، لعمل الخيـر أو لارتكاب الشر.
لا يجوز ان ندع الخشية من الإنزلاق في زلاّت اللسان أن تدفعنا لملازمة الصمت. لا يقول الرسول يعقوب إن الصمتَ هو افضل من الكلام، بل ما يطلبه هو ضبط اللسـان، لا يجوز أن يصبح الإمتناع عن الحديث بديلاً من التحكّم في لساننا، فإذا كان في مستطاع لساننا ان يجدّف ويُلحق الأذى بالآخرين، ففي إمكانه أيضًا ان يبارك الله ويسـلّي الحزانى ويشـجّع الخائفين ويصلـح ذات البَين بين المتخاصمين، كما يقول القديس يعقوب ” … باللسان نبارك الرب الآب، وبه نلعن المخلوقين على صورة الله. من فم واحد تخرج البركة واللعنة “ (يعقوب 8/3-10).
ان مَهَمّة توجيه ” دفّتنا الصغيرة “، أي لساننا، تقع على عاتقنا.

لنتحاشَ التكلّمَ قبل التفكير

يمكن لكلامٍ ننطق به بتسـرّع، ونحن في سورة الغضب، ان يُحدثَ أَضرارًا، يصعب تعويضها ؛ ولقد شبّه الرسـول يعقوب اللسـان بالنار التي تأكل الأَخضر واليابس قائلاً : ” أُنظروا ما أَصغر النار التي تحرق غابة كبيرة، واللسان نارٌ أيضًا وعالم الأثمِ. اللسـان بين أَعضائنا يدنِسُ الجسمَ كلَّه، ويحرق الطبيعـة في سيرِها، ويحترق بنار جهنم “ (يعقوب 5/3-6).
إن الأذية التي يُلحقها اللسـان بالآخرين تشبه الضرر الذي يسـببه حريق في الغابة، إذ لا يترك فيها شيئًا. فيجعل الاشجار الباسقة كومة رماد خامد.
وكما إنه من الصعب التحكّم في النار التي تشبّ في الغابة، لانها تنتشر بسرعة ويصعب إخمادها ؛ كذلك لا يمكن للانسـان ان يتحكّم في الضرر الناجم عن زلاّت لسانه. فلا يمكننا إسـتعادة كلمة قلناها عن شـخص، إفتراءً أو نميمةً، ولا يمكننا القضاء على إشاعة روّجناها للاساءَ ة إلى سمعة فتاةٍ أو فتى مثلاً، فتدمّر حياتهما ؛ لذا علينا ان نفكّر مليًا قبلمـا ننطِق بالكـلام، لانه إذا خرج من افواهنا، فإنه يفلت من سيطرتنا، ولقد قال احد الحكماء : ” ثلاثة أَشياء لا يمكن إرجاعها ثانية : السهم المقذوف، والكلمـة المقولة، والفرصة الضائعـة “، فحين نقول كلمة لا يمكن إرجاعها ثانيةً، لذا علينا ان نفكّر مليًا قبل ان نتكلم، لأن الرب سيحاسبنا عن كل كلمة قلناها، ولقد حذّرنا يسوع نفسه من زلاّت اللسان قائلاً : ” أَقولَ لكُم، ان كل كلمة باطلة يقولها الناس يحاسَبون عليها يوم الدينونة، لأَنك تُزكّى بكلامك، وبكلامك يُحكم عليك “ (متى 36/12-37).
” إذا كان احدٌ لا يَزلُّ في كلامه، فهو انسان كامل “ (يعقوب 2/3)
علينا، أثناء الاحاديث الساخنة، والثرثرات التافهة، والنقاشات الحامية، ان نلازم الصمت لحظات قليلة ونوجّه افكارنـا إلى الله السـاكن في أَعماق نفوسـنا، لكي تطابق خلجاتُ قلوبنا إرادتَه السامية، فتنسجم كلماتنا البشرية وكلمته الازلية.
إن توجيه فكرنـا، في هذه الحالات، إلى الله يمنعنـا من الانزلاق في هفوات اللسان، ويساعدنا على التحكّم فيه، فنستعين بأنوار الروح القدس وقوته ومواهبه، لنوجه ” دفّة حياتنا “ الإتجاه الصحيح، أي نحو الصلاة والخير والقداسة.
إن الذي يتمكّن من التحكم في لسانه، يستطيع التحكّم في سيرته أيضًا. فالكلام هو الوسيلة الاساسية للعمل والتعبير عن موقف كل انسان، إذ من خلال الكلام يخرج الانسان من ذاته ويتجه نحو الآخريـن. للكلام قوة خارقة لعمل الخيـر أو لفعل الشر، وليست الكلمات التي ينطق بها اللسان مجرّد اصوات تتبدد في الهواء، فمن خلال الكلام، يعمل الانسان كله ؛ ويمكن ان ينطق اللسـان بكلمات حب أو عطاء أو خيانة أو حقد أو تدمير.
لذا فإن اللسان هو العضو الاقوى والاكثر تأثيرًا بين سائر الاعضاء. فالذي يمكنه ان يُخضع لسانه لوصايا الله وأوامره، يستطيع إخضاع كل كيانه لله، ويسير في درب الصلاح ويتسلّق سلم القداسة والكمال. بهذا المعنى قال يعقوب الرسول ” إذا كان أحدٌ لا يَزلُّ في كلامه، فهو إنسان كامل “.
ما العمل مع الأولاد الثرثارين ومع الأولاد السكوتيين ؟
يميل بعض الأولاد إلى الثرثرة، ويتّسـم آخرون بروح الصمت والسـكوت ؛ فعلينا ان نساعد كلَيهما (الفئتين) على حسن استعمال موهبة الكلام التي منحها الله إيّاهما… كيف ذلك ؟ يمكننا تقديـم العون لكل فئة من هؤلاء من خلال التأكيـد على ما هو ايجابـي لدى كل واحدٍ منهـم : يتمتـع الأولاد الذيـن يمتلكـون طبعًا متحفظًا بصفـات ثمينـة، هي مواهب الإصغـاء والإنتبـاه والرزانة والفِطنـة. انها لعمري مزايـا نفيسة ؛ اما اولئك الذين يميلون إلى كثرة الكلام، فلا يجوز ان نُقلقهم، لان حالتهم لا تعكس بالضرورة وجود نقيصة أو رذيلة، بل هي بالأحرى موهبة يجب إستثمارها ووضعها في خدمة الآخرين.
ليتدرّبْ ويتعلم الثرثارون الإسـتماع إلى الآخريـن، ويزِنوا كلماتهـم، ويقولوا الحقيقة كما هي من دون ان يغمسوا انفسهم في سيل من الكلمات ؛ وعلى السـكوتيين ان يعرفوا ان فتح الشـفاه وسيلة لفتح القلوب للآخرين، الذين هم في حاجة ماسة إلى كلامهم.
مهما يكن طبعنا، لا يُقاس حسن استعمال لساننا بعدد الكلمات التي ينطق بها، بل بمقدار المحبـة التي تعبّر عنها، فمن فضلات القلب يتكلم اللسـان، كما قـال يسوع : ” من فيض القلب يتكلم اللسان “ (متى 34/12).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى