القراءات الكتابية الطقسية
الملكوت، حياة أبدية مع الله (88)
الملكوت، حياة أبدية مع الله
الأب ميسر بهنام المخلصي
الأحد الأول من الدنح
وكانَ موسى يَرْعى غَنَمَ يِتْرُوَ حَمِيه، كاهِنِ مِدْيَن. فساقَ الغَنَمَ إلى ما وراءَ البَرِّيَّة، وانتَهى إلى جَبَلِ اللهِ حُوريب. فتَراءى لَه مَلاكُ الرَّبِّ في لَهيبِ نارٍ مِن وَسَطِ عُلَّيقَة. فنَظَرَ فإِذا العُلَّيقَةُ تَشتَعِلُ بِالنَّارِ وهيَ لا تَحتَرِق. فقالَ موسى في نَفْسِه : ((أَدورُ وأَنظُرُ هذا المَنظَرَ العَظيم ولِماذا لا تَحتَرِقُ العُلَّيقَة)). ورأَى الرَّبُّ أَنَّه قد دارَ لِيَرى. فناداه اللهُ مِن وَسَطِ العُلَّيقَةِ وقال : ((موسى موسى)). قال : ((هاءَنذا)). قال : ((لا تَدْنُ إلى ههُنا. اِخلَعْ نَعلَيـكَ مِن رِجلَيكَ، فإِنَّ المكانَ الَّذي أَنتَ قـائمٌ فيـه أَرضٌ مُقَدَّسة)). وقال : ((أَنا إِلهُ أَبيكَ، إِلهُ إِبْراهيم وإِلهُ إِسحق وإِلهُ يَعْقوب)) فسَتَرَ موسى وَجهَه لأَنَّه خافَ أَن يَنظُرَ إلى الله. فقالَ الرَّبّ : ((إِنّي قـد رَأَيـتُ مذَلَّةَ شَعْبي الَّذي بِمِصْر، وسَمِعـتُ صُراخَه بسَبَبِ مُسَخِّريه، وعَلِمتُ بآلاَمِه. (خر 1:3-7)
تاريخ شعب الله طويل، ينطلق من خبرة الخلاص كمرحلة أولى ضمن مراحل عديدة، مؤسس على رجاء لا ينقطع في أية مرحلة، على الرغم من التراخي أو التعثر هنا وهناك. نحن أمام إيمان متحرك يُنقل من جيل إلى آخر، ينمو ويتطور متأثرًا بفعاليات البشر، فلا يصبح من بعد مجرد عودة للماضي، بل يخلق حاضرًا جديدًا على ضوء مركزية الخلاص الذي يتجه نحو أرض الميعاد إنطلاقًا من خبرة الخروج من مصر ويمنح كل تاريخ الآباء السابق، من إبراهيم إلى أسباط يعقوب معنى وقيمة. يصبح الله المخلص خالقًا ومرافقًا في عهد لا ينقطع، متجهًا نحو ملكوت، تتحقق خبرة حاضره مستقبلاً، وسيأتي لاحقًا (أش 6:11-10). يأخذ صورًا عديدة وأشكالاً شتى، لكنه في النهاية حضور ومُلك على شعب، ضمن جو من السلام والخير والمشاركة (أش 7:52) : ” ما أجمل الجبال في إقدام المخبر بالسلام والمبشر بالخير، المخبر بالخلاص “. يكمن المدلول الخلاصي في ان الله يكشف عن نفسه كملك، يتأسس ملكوته على التدخل ضمن مسيرة تستمر بالسير نحو النور الموعود، كما يقول القديس بطرس (2 بط 19:1) ” سراج منير يضيء حيث الظلام إلى ان يشرق كوكب الصبح “. هذا النور الذي أنبأ عنه الأنبياء، ربما لم يكن واضحًا لكنه ينكشف شيئًا فشيئًا، يأخذ جسدًا، يدعونا إليه مع ابراهيم ويعقوب وموسى، لا بل يأتي إلينا في شخص إبنه يسوع، حيث يلتقي الله بالإنسان.
نحن لا نولد مؤمنين
هرب موسى بعد أربعين سنة من العيش الرغيد في مصر نحو البرية، لتبدأ منها خبرة جديدة ستكون مفتاح رسالته ودعوته. إنها خبرة الراعي في البرية، بعيدًا، وحيدًا، ربما أصبحت زمنًا من التنقية. عاش أربعين سنة أخرى، لكن مع تكوين روحي، بعيدًا عن كل تكبر وسلطة، أصبح حقًا مستعدًا للقاء الله. فتأخذ خبرته الماضية، التي كانت سبب هروبه من مصر (11:2-21)، منحى آخر. هناك ثلاثة مواقف تشير في ظاهرها إلى نوع من القوة والتسلط، لكنها في العمق تشير إلى موقف الله ذاته، وبذلك يظهر موسى في شخصه إمكانية أن يكون مختارًا لمهمة غير متوقعة، بل هي أكبر من كل توقعاته وانتظاراته، مهمة أن يكون مختار الله في تحرير شعبه والسير به في برية إختبر هو مسبقًا صعوبتها، لكنها تصل به إلى أرض تدر لبنًا وعسلاً.
إنها دعوة للصمت، نتأمل فيها، مثل موسى، صوت الله الذي يكلمنا. كل ما علينا هو أن نمنحه لحظات من الصمت، وفيها سيشكلنا ويجعلنا نولد من جديد.
لقاء مع الله (خر 1:3-2)
هوذا راعي إسرائيل الصالح يخرج عابرًا البرية، باحثًا عن قطيعه بهمّة، يعبر تلك البرية القاسية ليصل إلى جبل حوريب (سيناء)، جبل الله، حيث تراءى له الله. هو لم يختر لا المكان ولا الزمان لهذه الرؤيا، إلا أن أسباب وجوده وسط هذه البرية من جهة (11:2-21)، والطريقة التي عاشها خلال الأربعين سنة الثانية، كان لها دور في تشكيل هذه الشخصية القريبة من قلب الله. إنه الراعي الصالح الذي يتكلم عنه يسوع (يو 10)، يجذب إهتمام الله نحـوه، فتكـون ساعة اللقاء (2:3). يقـول لنـا النص : ” فتراءى الرب له “. سمح الله لموسى أن يراه. كيف يمكن أن يرى الإنسان الله ؟ يقول سفر الخروج (34) ” لا يمكن للإنسان أن يرى وجه الله ويبقى حيًا “، ذلك النور الذي لا يستطيع الإنسان أن يتحمله. مع ذلك يخبرنا النص عن لقاء مع الملاك، يسبق اللقاء مع الرب ويهيء الطريق له. لكن الحوار هو بين الله ذاته والإنسان، والملاك ليس إلا تعبيرًا عن الحضور الإلهي من جهة، وتخفيفًا من قوة حضوره من جهة أخرى. وما يميز هذه الرؤية أنها في لهيب النار، من وسط العليقة. النار تدل على الله، تحرق كل ما هو ليس بأصيل ونقي، وتعطي لكل ما له أصل نقاءً ولمعانًا. العليقة، هذا النبات الشوكي الضعيف وسريع الإشتعال، إذ لم يختر الله شجرة مهمة، كالزيتون، النخل، السنديان ولا الكرمة. يأخذ الرب ما هو ضعيف، ويختار ما ليس بمهم في فكر البشر. موسى نفسه ضعيف هارب، لكنه لا ينسى ذلك الشعب المستضعف الخانع تحت حكم فرعون، الذي خلقت فيه البرية الإحساس بالآخر وبكل ما في العالم، على الرغم من كل قسوة البرية وقسوة العالم، هو مزدرى من الجميع، لا أحد يحسب له حسابًا. في زمن يسوع كانوا يمنعون الرعاة من دخول الهيكل للصلاة، لكن الله يختار من يجد فيه خلاصه ” يختار الضعفاء ليخزي الأقوياء، يختار من ليسوا بشيء ليخزي الذين يحسبون نفوسهم شيئًا ” (1 كو 27:1). في قلب موسى تشتعل نار المعرفة نحو قمة الجبل، نحو السامي، الله يدعوه إليه ويجتذبه.
نداء نحو الداخل 3:3-4
نحن نعرف أن العليقة تشتعل بسرعة، متحولة إلى رماد. أما هذه العليقة فهي من نوع آخر. هذه النار لا تشبه أي نار، تلفت إنتباه موسى، تحول ما في قلبه إلى خارجه. الله يلفت إنتباهنا إليه من خلال أمور بسيطة، فلا نحتاج من بعد إلى الكثير من المعجزات والظهورات.
يحاول موسى فهم ما يحدث، إنه يتقدم نحو النار (3)، يريد أن يرى ما هناك ويفهم ما الذي يحدث. وهذا ما نفعله اليوم، كثيرًا ما نبحث وندرس ما يحدث، نفتح قبور الشهداء لنتأكد من أن أجسادهم باقية لم تفنَ كي نثبت قداستهم، أو نحلل نوعية الزيت ونحدث ضجة كبيرة، وكأن المعجزة تتوقف على كل ما هو غريب وصعب وشاذ. لكننا بالحقيقة لا نحتاج لكل ذلك كي نتوجه إلى الله، لأننا في النهاية لا نستطيع، لأن الله فوق تصورنا وفوق إمكانيتنا، بل هو الذي يكشف ذاته لنا ويتنازل ويرينا نفسه. هـو يـرى ويهتـم، ويعطي الجواب عن كل تساؤلاتنا وحتى فضولنا. ” ورأى الرب أنه مال لينظر، فناداه من وسط العليقة “. لكن الله لا يرى كما نحن نرى، الإنسان يرى الوجه، أما الله فيرى القلب، وكذلك نداء الله فهو داخلي، في أعماق القلب. يرى الإنسان ملاك الرب (2) أما الله فهو يرانا (4)، هو يرى موسى ويناديه مرتين ” موسى، موسى “، مرتين يعني معرفة وتشديدًا على أنه ينتظر جوابًا، ينتظـر النعم، ” صمـوئيل، صموئيل “، فجاء الجـواب ” تكلم، يا رب، فإن عبدك يسمع “. وقال الرب ” موسى موسى، فقال ” نعم، هاءنذا، لبيك “.
المكان مقدس (خر 5:3-7)
يحذر الله موسى من الإقتراب لأن المكان مقدس، تقدس بحضور الله، أي أصبح مكرسًا لله، فليس هو من بعد إلا لخدمة الله، لذلك عليك أن تخلع نعليك، أن تتجرد، علامة على الإستعداد للجلوس أطول وقت ممكن والإصغاء، القضية ليست قضية إحترام وتقدير، ولكن، كما قلنا، نحن مستعدون لنسمع وأن نعطي كل الوقت لله. أن نترك قلبنا لله، فلا يصبح للوقت قيمة أمام الله، يصبح كله سبتًا له. بمعنى ما نفعله في كل الأيام الستة الباقية نقدمه يوم السبت لله، وهكذا ما نعمل طوال أيام حياتنا نقدمه تقدمة للرب. هذه هي إحدى الكلمات العشر (خر 8:20 و21:34). ” إحفظ يوم السبت “، أساس وتلخيص كل الكلمات الأخرى. هكذا يضع موسى نفسه كليًا بين يدي الله. والخليقة كلها مدعوة لعمل ذلك من خلال آباء إسرائيل (6)، لا تستطيع الخليقة كلها أن تنظر وجه الله وتبقى على قيد الحياة. الرؤية هي إستسلام كلي وتوجه حقيقي من الداخل نحو الله، الإنتباه لحضور الله في العالم، والتقرب من هذا الحضور بترك الذات تتجه نحو الله. وهذا ما يطلق عليه النص إسم (الخوف).
قراءة ليومنا
حياتنا مثل عليقة مليئة بالأشواك، وهذا ما يقلقنا ويزعجنا، لكن الله يشعل تلك العليقة، يصبح حاضرًا في عجزنا ومرضنا وضعفنا وهمنا، يظهر ذاته لنا، لا يبحث عن شخص خارق ولا عن علامات مبهرة، بل يجعل حضوره مبهرًا فينا فيعطينا ذلك الإشراق الذي يدهش العالم على الرغم من كل ضعف. فهل نحن مستعدون أن نتخلى عن تذمرنا ويأسنا وأن نحول طرقنا ونظرنا من العالم بإتجاه الجبل ؟ هل أنا مستعد أن أستدير وأغض نظري عن العالم فأرى ما هناك في الأعلى ؟ بالحري هل نحن مستعدون أن ندرك أن طرق الله تختلف عن طرق الإنسان ؟ وهكذا نسمح لله أن يتوجه إلينا، يكلمنا، وأن نسمع له. عندما يرى الله محاولتي لرؤيته، بأني أريد أن أراه، وأشتاق لتلك الرؤية، يكشف هو من ذاته نفسه لي، لست من بعد بحاجة للخوارق كي أرى حضوره في عالمي. وهذا لا يتم إلا عندما نقوم بخلع نعلينا، خلع كل ما هو وضيع ومتسخ فينا، لأن الأرض التي نقف فيها عندما ننظر الله تصبح مقدسة. عندما نرفع أعيننا نحو السماء، إنما ندعو الله أن ينظر إلينا، لذلك علينا أن نخلع أنانيتنا، وأن نترك كل الأفكار المسبقة وكل ماضٍ أليم. علينا أن نسجد، ننسى ذاتنا. الحذاء يعني الحرية، نوعًا من القوة والشخصية، لكي نلتقي الله ونراه يجب أن نترك شخصنا وحريتنا وكل وجودنا بين يديه.
الأب ميسر بهنام المخلصي
الأحد الأول من الدنح
وكانَ موسى يَرْعى غَنَمَ يِتْرُوَ حَمِيه، كاهِنِ مِدْيَن. فساقَ الغَنَمَ إلى ما وراءَ البَرِّيَّة، وانتَهى إلى جَبَلِ اللهِ حُوريب. فتَراءى لَه مَلاكُ الرَّبِّ في لَهيبِ نارٍ مِن وَسَطِ عُلَّيقَة. فنَظَرَ فإِذا العُلَّيقَةُ تَشتَعِلُ بِالنَّارِ وهيَ لا تَحتَرِق. فقالَ موسى في نَفْسِه : ((أَدورُ وأَنظُرُ هذا المَنظَرَ العَظيم ولِماذا لا تَحتَرِقُ العُلَّيقَة)). ورأَى الرَّبُّ أَنَّه قد دارَ لِيَرى. فناداه اللهُ مِن وَسَطِ العُلَّيقَةِ وقال : ((موسى موسى)). قال : ((هاءَنذا)). قال : ((لا تَدْنُ إلى ههُنا. اِخلَعْ نَعلَيـكَ مِن رِجلَيكَ، فإِنَّ المكانَ الَّذي أَنتَ قـائمٌ فيـه أَرضٌ مُقَدَّسة)). وقال : ((أَنا إِلهُ أَبيكَ، إِلهُ إِبْراهيم وإِلهُ إِسحق وإِلهُ يَعْقوب)) فسَتَرَ موسى وَجهَه لأَنَّه خافَ أَن يَنظُرَ إلى الله. فقالَ الرَّبّ : ((إِنّي قـد رَأَيـتُ مذَلَّةَ شَعْبي الَّذي بِمِصْر، وسَمِعـتُ صُراخَه بسَبَبِ مُسَخِّريه، وعَلِمتُ بآلاَمِه. (خر 1:3-7)
تاريخ شعب الله طويل، ينطلق من خبرة الخلاص كمرحلة أولى ضمن مراحل عديدة، مؤسس على رجاء لا ينقطع في أية مرحلة، على الرغم من التراخي أو التعثر هنا وهناك. نحن أمام إيمان متحرك يُنقل من جيل إلى آخر، ينمو ويتطور متأثرًا بفعاليات البشر، فلا يصبح من بعد مجرد عودة للماضي، بل يخلق حاضرًا جديدًا على ضوء مركزية الخلاص الذي يتجه نحو أرض الميعاد إنطلاقًا من خبرة الخروج من مصر ويمنح كل تاريخ الآباء السابق، من إبراهيم إلى أسباط يعقوب معنى وقيمة. يصبح الله المخلص خالقًا ومرافقًا في عهد لا ينقطع، متجهًا نحو ملكوت، تتحقق خبرة حاضره مستقبلاً، وسيأتي لاحقًا (أش 6:11-10). يأخذ صورًا عديدة وأشكالاً شتى، لكنه في النهاية حضور ومُلك على شعب، ضمن جو من السلام والخير والمشاركة (أش 7:52) : ” ما أجمل الجبال في إقدام المخبر بالسلام والمبشر بالخير، المخبر بالخلاص “. يكمن المدلول الخلاصي في ان الله يكشف عن نفسه كملك، يتأسس ملكوته على التدخل ضمن مسيرة تستمر بالسير نحو النور الموعود، كما يقول القديس بطرس (2 بط 19:1) ” سراج منير يضيء حيث الظلام إلى ان يشرق كوكب الصبح “. هذا النور الذي أنبأ عنه الأنبياء، ربما لم يكن واضحًا لكنه ينكشف شيئًا فشيئًا، يأخذ جسدًا، يدعونا إليه مع ابراهيم ويعقوب وموسى، لا بل يأتي إلينا في شخص إبنه يسوع، حيث يلتقي الله بالإنسان.
نحن لا نولد مؤمنين
هرب موسى بعد أربعين سنة من العيش الرغيد في مصر نحو البرية، لتبدأ منها خبرة جديدة ستكون مفتاح رسالته ودعوته. إنها خبرة الراعي في البرية، بعيدًا، وحيدًا، ربما أصبحت زمنًا من التنقية. عاش أربعين سنة أخرى، لكن مع تكوين روحي، بعيدًا عن كل تكبر وسلطة، أصبح حقًا مستعدًا للقاء الله. فتأخذ خبرته الماضية، التي كانت سبب هروبه من مصر (11:2-21)، منحى آخر. هناك ثلاثة مواقف تشير في ظاهرها إلى نوع من القوة والتسلط، لكنها في العمق تشير إلى موقف الله ذاته، وبذلك يظهر موسى في شخصه إمكانية أن يكون مختارًا لمهمة غير متوقعة، بل هي أكبر من كل توقعاته وانتظاراته، مهمة أن يكون مختار الله في تحرير شعبه والسير به في برية إختبر هو مسبقًا صعوبتها، لكنها تصل به إلى أرض تدر لبنًا وعسلاً.
إنها دعوة للصمت، نتأمل فيها، مثل موسى، صوت الله الذي يكلمنا. كل ما علينا هو أن نمنحه لحظات من الصمت، وفيها سيشكلنا ويجعلنا نولد من جديد.
لقاء مع الله (خر 1:3-2)
هوذا راعي إسرائيل الصالح يخرج عابرًا البرية، باحثًا عن قطيعه بهمّة، يعبر تلك البرية القاسية ليصل إلى جبل حوريب (سيناء)، جبل الله، حيث تراءى له الله. هو لم يختر لا المكان ولا الزمان لهذه الرؤيا، إلا أن أسباب وجوده وسط هذه البرية من جهة (11:2-21)، والطريقة التي عاشها خلال الأربعين سنة الثانية، كان لها دور في تشكيل هذه الشخصية القريبة من قلب الله. إنه الراعي الصالح الذي يتكلم عنه يسوع (يو 10)، يجذب إهتمام الله نحـوه، فتكـون ساعة اللقاء (2:3). يقـول لنـا النص : ” فتراءى الرب له “. سمح الله لموسى أن يراه. كيف يمكن أن يرى الإنسان الله ؟ يقول سفر الخروج (34) ” لا يمكن للإنسان أن يرى وجه الله ويبقى حيًا “، ذلك النور الذي لا يستطيع الإنسان أن يتحمله. مع ذلك يخبرنا النص عن لقاء مع الملاك، يسبق اللقاء مع الرب ويهيء الطريق له. لكن الحوار هو بين الله ذاته والإنسان، والملاك ليس إلا تعبيرًا عن الحضور الإلهي من جهة، وتخفيفًا من قوة حضوره من جهة أخرى. وما يميز هذه الرؤية أنها في لهيب النار، من وسط العليقة. النار تدل على الله، تحرق كل ما هو ليس بأصيل ونقي، وتعطي لكل ما له أصل نقاءً ولمعانًا. العليقة، هذا النبات الشوكي الضعيف وسريع الإشتعال، إذ لم يختر الله شجرة مهمة، كالزيتون، النخل، السنديان ولا الكرمة. يأخذ الرب ما هو ضعيف، ويختار ما ليس بمهم في فكر البشر. موسى نفسه ضعيف هارب، لكنه لا ينسى ذلك الشعب المستضعف الخانع تحت حكم فرعون، الذي خلقت فيه البرية الإحساس بالآخر وبكل ما في العالم، على الرغم من كل قسوة البرية وقسوة العالم، هو مزدرى من الجميع، لا أحد يحسب له حسابًا. في زمن يسوع كانوا يمنعون الرعاة من دخول الهيكل للصلاة، لكن الله يختار من يجد فيه خلاصه ” يختار الضعفاء ليخزي الأقوياء، يختار من ليسوا بشيء ليخزي الذين يحسبون نفوسهم شيئًا ” (1 كو 27:1). في قلب موسى تشتعل نار المعرفة نحو قمة الجبل، نحو السامي، الله يدعوه إليه ويجتذبه.
نداء نحو الداخل 3:3-4
نحن نعرف أن العليقة تشتعل بسرعة، متحولة إلى رماد. أما هذه العليقة فهي من نوع آخر. هذه النار لا تشبه أي نار، تلفت إنتباه موسى، تحول ما في قلبه إلى خارجه. الله يلفت إنتباهنا إليه من خلال أمور بسيطة، فلا نحتاج من بعد إلى الكثير من المعجزات والظهورات.
يحاول موسى فهم ما يحدث، إنه يتقدم نحو النار (3)، يريد أن يرى ما هناك ويفهم ما الذي يحدث. وهذا ما نفعله اليوم، كثيرًا ما نبحث وندرس ما يحدث، نفتح قبور الشهداء لنتأكد من أن أجسادهم باقية لم تفنَ كي نثبت قداستهم، أو نحلل نوعية الزيت ونحدث ضجة كبيرة، وكأن المعجزة تتوقف على كل ما هو غريب وصعب وشاذ. لكننا بالحقيقة لا نحتاج لكل ذلك كي نتوجه إلى الله، لأننا في النهاية لا نستطيع، لأن الله فوق تصورنا وفوق إمكانيتنا، بل هو الذي يكشف ذاته لنا ويتنازل ويرينا نفسه. هـو يـرى ويهتـم، ويعطي الجواب عن كل تساؤلاتنا وحتى فضولنا. ” ورأى الرب أنه مال لينظر، فناداه من وسط العليقة “. لكن الله لا يرى كما نحن نرى، الإنسان يرى الوجه، أما الله فيرى القلب، وكذلك نداء الله فهو داخلي، في أعماق القلب. يرى الإنسان ملاك الرب (2) أما الله فهو يرانا (4)، هو يرى موسى ويناديه مرتين ” موسى، موسى “، مرتين يعني معرفة وتشديدًا على أنه ينتظر جوابًا، ينتظـر النعم، ” صمـوئيل، صموئيل “، فجاء الجـواب ” تكلم، يا رب، فإن عبدك يسمع “. وقال الرب ” موسى موسى، فقال ” نعم، هاءنذا، لبيك “.
المكان مقدس (خر 5:3-7)
يحذر الله موسى من الإقتراب لأن المكان مقدس، تقدس بحضور الله، أي أصبح مكرسًا لله، فليس هو من بعد إلا لخدمة الله، لذلك عليك أن تخلع نعليك، أن تتجرد، علامة على الإستعداد للجلوس أطول وقت ممكن والإصغاء، القضية ليست قضية إحترام وتقدير، ولكن، كما قلنا، نحن مستعدون لنسمع وأن نعطي كل الوقت لله. أن نترك قلبنا لله، فلا يصبح للوقت قيمة أمام الله، يصبح كله سبتًا له. بمعنى ما نفعله في كل الأيام الستة الباقية نقدمه يوم السبت لله، وهكذا ما نعمل طوال أيام حياتنا نقدمه تقدمة للرب. هذه هي إحدى الكلمات العشر (خر 8:20 و21:34). ” إحفظ يوم السبت “، أساس وتلخيص كل الكلمات الأخرى. هكذا يضع موسى نفسه كليًا بين يدي الله. والخليقة كلها مدعوة لعمل ذلك من خلال آباء إسرائيل (6)، لا تستطيع الخليقة كلها أن تنظر وجه الله وتبقى على قيد الحياة. الرؤية هي إستسلام كلي وتوجه حقيقي من الداخل نحو الله، الإنتباه لحضور الله في العالم، والتقرب من هذا الحضور بترك الذات تتجه نحو الله. وهذا ما يطلق عليه النص إسم (الخوف).
قراءة ليومنا
حياتنا مثل عليقة مليئة بالأشواك، وهذا ما يقلقنا ويزعجنا، لكن الله يشعل تلك العليقة، يصبح حاضرًا في عجزنا ومرضنا وضعفنا وهمنا، يظهر ذاته لنا، لا يبحث عن شخص خارق ولا عن علامات مبهرة، بل يجعل حضوره مبهرًا فينا فيعطينا ذلك الإشراق الذي يدهش العالم على الرغم من كل ضعف. فهل نحن مستعدون أن نتخلى عن تذمرنا ويأسنا وأن نحول طرقنا ونظرنا من العالم بإتجاه الجبل ؟ هل أنا مستعد أن أستدير وأغض نظري عن العالم فأرى ما هناك في الأعلى ؟ بالحري هل نحن مستعدون أن ندرك أن طرق الله تختلف عن طرق الإنسان ؟ وهكذا نسمح لله أن يتوجه إلينا، يكلمنا، وأن نسمع له. عندما يرى الله محاولتي لرؤيته، بأني أريد أن أراه، وأشتاق لتلك الرؤية، يكشف هو من ذاته نفسه لي، لست من بعد بحاجة للخوارق كي أرى حضوره في عالمي. وهذا لا يتم إلا عندما نقوم بخلع نعلينا، خلع كل ما هو وضيع ومتسخ فينا، لأن الأرض التي نقف فيها عندما ننظر الله تصبح مقدسة. عندما نرفع أعيننا نحو السماء، إنما ندعو الله أن ينظر إلينا، لذلك علينا أن نخلع أنانيتنا، وأن نترك كل الأفكار المسبقة وكل ماضٍ أليم. علينا أن نسجد، ننسى ذاتنا. الحذاء يعني الحرية، نوعًا من القوة والشخصية، لكي نلتقي الله ونراه يجب أن نترك شخصنا وحريتنا وكل وجودنا بين يديه.