الافتتاحية

المسيحي بين تعلقه بأرضه وهويته (92)

المسيحي 

بين تعلقه بأرضه وهويته

الأب ألبير هشام نعوم 

   نعيش اليوم، أكثر من أي زمنٍ مضى، أزمة في داخلنا تتمثلُ في موقفنا من أرضنا. ففي وسط أجواء الإضطهادات والطرد من أرضنا، يتساءل المسيحي : ما هي علاقتي بـأرضي ؟ هل أتمسك بها على الرغـم من الطـرد أم أتركها إلى أرضٍ أخرى غريبة ؟ ما هو مقياس علاقتي بالأرض ؟

فهناك من يستعين بآيات من الكتاب المقدس تدعو إلى الثبات " ويُبغِضُكم جَميعُ النَّاسِ مِن أَجلِ اسمي. والَّذي يَثبُتُ إِلى النِّهاية فذاكَ الَّذي يَخلُص " (متى 22:10) أو بآيات أخرى تذكّر بوعود المسيح بالإضطهادات التي ستلاقينا… إلخ. وهناك من يلجأ إلى غيرها ليقول العكس : " وإِن لم يَقبَلوكم ولم يَستَمِعوا إِلى كلامِكم، فاخرُجوا مِن ذاكَ البَيتِ أَو تِلكَ المَدينة، نافِضينَ الغُبارَ عن أَقدامِكم " (متى 14:10)، " وإِذا طارَدوكم في مدينةٍ فاهرُبوا إِلى غَيرِها " (آ 23). ولكن الأحكام المستعجلة واللجوء لمثل هذه الطريقة في هذا الموضوع الشائك، قد يوقع في الخطأ ويؤدي إلى قرار وقناعة إيمانية خاطئة. فما الذي يحدد علاقتي بأرضي ؟

قبل أن نجيب عن هذا السؤال، لا بدّ أن نشير إلى مفهوم الأرض الذي نعنيه هنا. فالأرض التي نقصدها ليست فقط الأرض المجردة، بل كل ما يجعلني متعلقًا بهذه الأرض : الأهل والأقارب، الناس الذين أعرفهم، ظروف هذه الأرض الإقتصادية والإجتماعية والسياسية…

وعلينا أيضًا أن نجيب عن سؤال آخر، قد يبدو لأول وهلة تقليديًا ولكنه ضروري في كل وقـت : لماذا نحـن مسيحيون ؟ مـا الذي يميـزنا كمسيحيين ؟ ما هي مسيحيتنا ؟ المسيحية ليست نظرية معينة ولا نوعًا من الأفكار الخالدة، بل المسيحية بالدرجة الأولى علاقة مع شخص المسيح الذي كشف لنا من هو الله. هذه هي هوية المسيحي الأولى والأخيرة.

وإن كان أساس المسيحية، كما قلنا، علاقة مع شخص المسيح، فهذا لا يعني أنها ديانة تبتعد عن أرض الواقع. فيسوع الذي نؤمن به هو الناصري الذي وُلِد (تجسد) على أرضنا هذه وعاش وتربى فيها. وبالتالي المسيح لا يدعونا لنكره هذه الأرض، ولا يوعدنا بأرضٍ أخرى، بل يدعونا لنعيش ملكوته على أرضنا هذه. حتّى الحياة الأبدية التي نؤمن بها تبدأ أولاً بمعرفة المسيح على هذه الأرض " حياة الأبد هي أن يعرفوك أنك أنت الإله الحقّ… " (يوحنا 3:17).

نفهم من ذلك أن علاقة المسيحي بالأرض تمرّ بالضرورة عن طريق المسيح. فعلاقة المسيحي بالأرض تأتي من المسيح ومن الرسالة التي يعطيها المسيح للمسيحي. لستُ أطلبُ هنا البقاء أو الخروج، بل أطلب ما يطلبه المسيح منّا جميعًا، وهو الأمانة له أولاً، الأمر الذي ننساه كثيرًا في هويتنا المسيحية.

وهنا سؤال آخر يطرح ذاته : ما علاقة المسيح نفسه بالأرض ؟ من جهة، كان المسيح يهرب مما كان يجعله يتعلق بالأرض " مَن أُمِّي ومَن إِخوَتي ؟ "، ليس لأنه يقلل من قيمة أمّه وأخوته (أرضه)، بل لأنه لا يريد أن يحدد رسالته بعلاقاته مع الأرض، لأن له رساله أكبر وأشمل : " ثمّ أَشارَ بِيَدِه إِلى تَلاميذِه وقال : هؤلاءِ هم أُمِّي وإِخوَتي. لأَنَّ مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات هو أَخي وأُختي وأُمِّي " (متى 46:12-50). لكن المسيح، من جهةٍ أخرى، تجسد على الأرض وعاش رسالته في ظروف وزمان ومكان معينين.

على المسيحي أن يوازن بين تحرره من أيّ أرض وتمسّكه فقط بهويته الأساسية (علاقته مع المسيح) من جهة، وبين عيش هويته المسيحية والرسالة التي يطلبها المسيح منه في أرضه وفي ظروف مكانية وزمانية واقعية. فالرسالة التي يطلبها المسيح من المسيحي تحتاج إلى أرض : ظروف ومكان وزمان معينين، وإلاّ بقيت رسالةً مثالية لا قيمة لها !

أخيرًا لا بدّ من القول : علينا ككنيسة أن نحافظ على هويتنا المسيحية بالدرجة الأولى وليس على أي هوية أخرى : سياسية، إجتماعية،…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى