القراءات الكتابية الطقسية

المسيحي ابنُ حر (28)

 المسيحي ابنُ حر
الاب يوحنا عيسى

قداس الاحد الاول من الميلاد

? ” فأنتــُم، يــا إخـوَتــي، أبنـــــاءُ الـوَعــــدِ مِثــلُ إســـحقَ. وكمــا كـــانَ المَولـودُ بحُكــمِ الجسَــــدِ يَضطَهِــدُ المَولــــودَ بحُــكــُمِ الــرُّوحِ، فكــذلِكَ هيَ الحـــالُ اليـومَ. ولكِـنْ ماذا يَقـولُ الكِتـــابُ ؟ يَقــولُ : ” أطـرُدِ الجارِيَــةَ وابنـَهـا، لأنَّ ابـنَ الجارِيَـةِ لنْ يَرِثَ معَ ابنِ الحُرَّةِ “. فما نـَحنُ إذًا، يا إخوَتي، أبناءُ الجارِيَةِ، بَلْ أبناءُ الحُرَّةِ.

سياق النص

” فالمَسيحُ حَرَّرَنا لِنكونَ أحرارًا. فاثبُتوا، إذًا، ولا تـَعودوا إلى نِيرِ العُبودِيَّةِ “
                                  (غلاطية 28/4-31 ؛ 1/5)

المسيحي انٌ حر

ورد هذا النص في سياق الرسالة التي كتبها القديس بولس إلى أهل غلاطية، هذه الرسالة، شأن الرسالة إلى أهل رومة، تشهد على نزاع قام وجدال دار بين بولس من جهة وبين خصومه من جهة أخرى.
والجدير بالذكر هنا إن السـواد الأعظـم من أهل غلاطيـة كانوا من الأمميين الذين اهتدوا على يد القديس بولس من الوثنية.

يتناول القديس بولس، في هذا النص، كما في الرسالة، موضوعًا كبيرًا ورئيسًا طالما اختلف فيه مع خصومه ألا وهو موضوع التبرير.
ففيما كان يرى القديس بولس بأن الإيمان وحده كاف للتبرير، فإن خصومه راحوا يدعون ويطالبون المسيحيين المنحدرين من أصل وثني بأن يتهودوا طريقًا إلى تنصيرهم، الأمر الذي يتطلب منهم حفظ الشريعة والختان.
إلا أن القديس بولس الذي إهتدى إلى المسيح وإلى إنجيلـه، بعد أن كـان يهوديـًا وعلى المذهب الفرّيسي، حافظًا الشريعة بحذافيرها، لا يرى ضرورة أو حاجة إلى تهويد هؤلاء، ذلك أنّ المسيح قد حررهم من الشريعة. فيخطأ المرءُ كثيرًا، كما أخطأ الفريسـي الذي كان يصلـي أمام الله، اذا ما اعتقد بأن البِر يأتيه من أعمال الشريعة.
وفضلاً عن ذلك، فإن دور الشريعة قد انتهى بمجيء يسـوع المسـيح الذي افتـدانا وجعلنا نصير أبناء الله. يكتب القديس بولس قائلاً : ” فلما تم الزمان، أرسل الله إبنه مولودًا لإمرأة. وعاش في حكم الشريعة، ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، حتى نصير نحن أبناء الله. والدليل على انكم أبناؤه هو إرساله إبنه إلى قلوبنا هاتفًا : ” أبي، يا أبي “. فما أنت بعد الآن عبد، بل ابن، وإذا كنت إبنًا فأنت وارثٌ بفضل الله “ (غل4/4-7).
فلقد تحـررنا إذن، بيسـوع المسيح، من الخطيئـة والموت والشـريعة وصرنا أبناء احرارًا لله.
تلك هي الحقيقة الرئيسة والكبرى التي كشفها لنا يسوع المسيح، ومن ثم القديس بولس، ألا وهي حقيقة أبوّة الله وبنوّة الإنسان، هذه البنوّة التي تنبع منها حرية المسيحي والتي تحدد هويته ودعوته.
أما الحرية، التي يتحدث عنها القديس بولس والتي يدعو إليها، فهي ليست أيَّ حرية كانت، كأن تكون الحرية الاجتماعية أو السياسـية أو الاقتصاديـة، وإنما الحرية الدينية، هذا الواقـع الديني الذي يجـب على المسـيحيين أن يعيشـوا فيه، شـرط ألا تكون هـذه الحريـة فرصة للجسد.
وإذ يتكلم القديس بولس عن هذه الحرية، فإنما يتكلم مدفوعًا بالاختبار الذي عايشه بقوة إبان دعوته واهتدائه حيث خسر كل شيء ليربح المسيح. فعايش هذا التحول الجذري في حياته، التحول من الشريعة إلى المسيح فالإنجيل، وبالتالي إلى الحرية التي ترمز إليها سارة في حين أن العبودية ترمز إليها هاجر (غل 24/4-25).

إن طقسنا الكلداني يشير بقوة إلى هذا التحول الجذري الذي حدث في حياتنا باكتسابنا هذه الحرية وبالتالي معايشتنا هذه الحالة الجديدة، من خلال تأكيده الدائم على حقيقة كون المسيح المخلص والمحرر، هذا المخلص الذي أرسله أبوه (الحوذرا، الجزء الأول، ص340). ويزخر طقسنا الكلداني بالصلوات التي تحدد الغاية التي من أجلها جاء هذا المخلّص إلى عالمنا ألا وهي الخـلاص : خلاص البشـرية، خلاصـنا (الحوذرا، الجزء الأول ص 328، 329، 330، 331، 337، 342، 363…الخ)، التجديـد : تجديـد آدم، تجديـد كل الخلائق وتجديد السـماء والأرض (الحوذرا، الجزء الأول ص 103، 104، 113، 116) وأخيرًا التحريـر : تحرير الجميع، تحرير جنسنـا من الضـلال والشرير والموت (الحوذرا، الجزء الأول ص 110، 113، 114، 333، 340، 342، 349).
من هنا نرى شمولية هذا المخلص وهذا الخلاص الذي أنجزه، وكذلك شمولية هذا التجديد وهذا التحرير ليكون الإنسان ابنًا حرًا، لا عبدًا مستَغلاً وذليلاً.

مما لا شك فيه أنّ المسيحي يحصل على هذه البنوّة، وذلك عِبر إيمانه بيسوع المسيح (يو12/1) وقبوله كلمة الله (1بط 23/2) وعِبر قبوله العماذ الذي إن هو إلا ولادة روحية جديدة (يو5/3).
إن هذه البنوّة هي التي تمنحه الحرية وهي التي تحدد هويته المسيحية، مانحة إياه كل الحقوق والصلاحيات المترتبة على ذلك. فلأنه ابن فهو حر. فلا يمكن أن نتصور وجود حرية من دون هذه البنوّة النابعة، أصلاً وأساسًا، من الأبوّة الإلهية، كما لا يمكن أن نتصور إنسانًا من دون هذه الحرية الممنوحة له بمثابة عطية وهبة وطاقة، لتحقيق الذات. فالإنسان إنسان ما دام حرًا.
ومن هذا المنطلق، في وسـع المسـيحي أن يدعو الله، كما دعاه يسوع المسـيح نفسه ” أبّا، بابا “ كما تشهد على ذلك الرسالة إلى أهل غلاطية (غل 6/4)، وقد منحه يسوع المسيح هذا الحق وهذه الدالة، وبذلك يدخل معه، شأن يسوع، في علاقة خاصة، حميمة وصميمية شبيهة بعلاقة الطفل مع أبيه، ترسو على أساس هذه الأبوّة والبنوّة.
ففي هذا السياق إذن، يجب فهم ومعايشة هذه الحرية لئلا يساء فهمها وعيشها وتستغل كما يحدث أحيانًا كثيرة. فهي ليست أيّ حرية كانت كأن تكون مرادفة للتسيّب أو الإنفلات، وإنما هي حرية ملتزمة لأنها حرية إبن.
وفي الوقت الذي ينبغي للمسيحي، أن يظهر حريته التامة، حتى وإن امتلك السلطة أو المال وكل خيرات هذا العالم، تجاه كل ما يمكن أن يعرّضه – وقد يعرّضه فعلاً – لخطأ الاستعباد والاستغلال من خلال السلطة والمال والجنس والخطيئة والشريعة. فعلى هذا الابن أن يسعى بكل قواه إلى كل ما من شأنه أن يؤصّل ويعزّز ويعّمق هذه البنوّة من جهة، وكذلك أن يسعى إلى كل ما من شأنه أن يبني وينمّي ويغني هذه الحرية من جهة أخرى، ليتسنى له تحقيق بنوّته، بعيداً عن إيذاء الذات أو إلحاق الأذى بحريته. ذلك أن البنوّة منوطة بالحرية. فهو ابن ما دام حرًا. ومتى ما فقد هذه القيمة، فقد بنوّته كما يفقد الإنسان إنسانيته بحريته فلا يعود إنسانًا.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف الكبير والسامي، عليه أن يستخدم مختلف الوسائل لبلوغه كالثقافة والفكر والممارسات الدينية ولا سيّما كلمة الله.
أما إذا فقد بنوّته وحريته هذه، فما عليه إلا أن يسلك طريقًا وحيدًا، ألا وهو طريق التوبة. ولا ينتظر الله، وهو كله حب وحنان، سوى القيام بهذه الخطوة كي يعفو ويمحو ويغفر ويصفح، وبالتالي يعيد اليه البنوّة والحرية، وكذلك يعيده إليه وإلى بيته الأبوي. ومتى ما عاد المسيحي إلى الله، عاد إلى ذاته. ذلك أنّ كل ابتعاد واغتراب عن الله إنما هو ابتعاد واغتراب عن الذات.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى