الله يحبّ كلَّ البشر ويقدم لهم الخلاص مجانا (34)
المطران إبراهيم إبراهيم
قدّاس الجمعة الأخيرة من زمن الرسل
(تذكار الإثنين والسبعين تلميذًا)
” ونَحنُ نَعلَمُ أنّ الذين يُحبّون الله، يُعينهم فـي كـلِّ شـيء للخيرِ، أعني الذين سبق فجعل أن يكونوا مَدعوِّين، وعرفهم من قبلُ، ورسمهم بشبهِ صورَةِ ابنِهِ، ليكونَ هو بِكرًا لإخوةٍ كثيرينَ، والذينَ سـبَقَ فرسَمهم إيّاهـم دعا، والذين دَعاهم إيّاهـم بَرَّر، والذينَ بَرَّرهُم إيّاهم مَجّد “.
(رومة 28/8-30)
العيش بحسب الروح
إن هذا المقطع يختم الفصل السـابع من رسـالة مار بولـس إلى أهل رومة والذي يتكلم عن تحرير المؤمن بيسوع المسيح من حكم الخطيئة (الفصل السابع)، وعليه فالفصل الثامن يبدأ بالحديث عن أن الإنسان المؤمن عليه ان يعيش بحسب الروح الذي حرره من الشريعة ومن الخطيئة، ولا بدّ من الآن وصاعدًا العيـش بحسب الروح الذي يجذب الإنسان إلى المحبة والحياة والسلام، لأن روح الله حال في الإنسـان المؤمن (رومة 9/8). وعليه فالذين ينقادون لروح الله يكونون أبنـاء الله حقًا (رومة 14/8).
ويستخلص مار بولس النتيجة الحتمية لعيش الإنسان المؤمن بحسب الروح إلى أنه سيكون وريثًا لنعم الله وشريكًا مع المسيح (ابن الله) في الميراث، إذ من يشاركه الآلام فانه يشاركه أيضًا في المجد (رومة 16/8-17).
آلام وصعوبات الحياة الحاضرة
ثم يتطرق مار بولس ليحثّ المؤمنين على الثبات في الأمانة ليسوع برغم كل صعوبات الحياة، إذ يقول ” إن آلام الحياة الحاضرة لا تعادل المجد الذي سيتجلى فينا “ (رومة 18/8). كما إن الروح القدس يسـاعد المؤمن على تجاوز صعوبـات الحياة (رومة 26/8)، ويخلص مار بولس إلى ما نحن في صدده وهو ان الله نفسه يساعد الذين يحبونه في كل شيء للخير (رومة 28/8). لكن السؤال يطرح نفسه هنا للإستفسار عن من هم ” هؤلاء “ الذين يكون الله في عونهم في كل شيء، أي بكلمة أخرى من هم ” هؤلاء “ الذين مهما يحدث لهم، فانه سيكون لخيرهم لأن الله سبق وجعلهم مدعوّين، الذين عرفهم من قبل ورسمهم بشبه صورة ابنه… أي الذين بسابق تدبيـره عرفهم بعلمه الإلهي فدعاهم، أي أعطاهم نعمة الإيمـان مجانًا بابنه يسوع، ليكونوا إخوة له وشبيهين به.
نعمـة التبريـر
وعليه، فالتبرير أتاهم بفضل يسوع المسيح، إذ قدّم نفسه ضحية على الصليب، والذين نالوا التبرير لا بدّ ان يشـاركوا يسوع المسيح مجدَه، فإذا كان مار بولس قد اسـتعمل صيغة الماضي ليـس ليقـول كما فهـم البعض إن الله اختار بعض الأشخاص فقط بدون شـراكة فعليـة من قبلهم وبررهـم ثم أعطاهم المجد، أما الآخرون فكلهـم يهلكون، إن هذا الفهـم لفكرة مار بولس غير صحيح، إذ لا بدّ للخلاص أو للهـلاك من قرار شـخص يتخذه إما بقبول نعمة الله أو برفضهـا. فمعروف أن الله لا يريـد موت الخاطـئ بل أن يتوب ويحيـا أمامه كما يقول الطقس الكلداني. وعليه فنعمة التبرير هي من قبل الله ولكن يبقى على الإنسان ان يتقبّلها ويجعلها فاعلة في حياتـه من خلال أعماله الصالحة. ولا بدّ ان نذكر هنا ان تفسير مارتن لوثر لرسـالة مار بولس إلى أهل رومة والأعداد التي نحن في صددها هو الذي أدّى إلى نشـأة الكنائس اليروتستانتية، ولهذا السبب عندما بدأت الحركة المسـكونية بتقريب وجهات نظر الكاثوليك واليروتستانت إقترحت ان تبدأ الترجمة الموحّدة للكتاب المقدس برسـالة مار بولس إلى أهل رومة، لتكون حجر الزاوية في بناء إعادة وحدة الكنيسة.
تدبير الخلاص ( مدٍبرِنولآة×ِا )
ولفهم فكرة مار بولـس بوضوح أكثـر، لا بـدّ أن نتذكر بان التدبيـر الإلهـي ( مدٍبرِنولآة×ِا ) كان ليجعـل من البشـرية عائلـة واحدة، وهي عائلة الله. فمـن أجل بلوغ هذا الهـدف، بـدأ الله بالكشف عـن ذاتـه تدريجيًا كإله محب للبشر بواسطة الوعـود والأنبيـاء، وذلـك باختيار شعب تكون مَهَمّتهُ حملَ الرسالة الإلهية إلى كل العالـم، فبـدأت مرحلـة الشريعة، لكن هذه الخطوة لم تنجح، لأن الشعب ” المختار “ ترك الله، وأهمل الشريعة، وذهب وراء أهدافه البشرية، ولم يبقَ منه إلا ” بقيّة “ قليلة، ومن هذه ” البقية “ كان المسيح الذي جسّد في شـخصه أهدافَ الله، وحقق بالفعل هذا الهدف، وجعل النـاس كلّهم عائلة واحدة، أي أولادًا لله، وذلك بطاعته وموته على الصليب. من هذا المنطلق تحققت فكرة الله الأساسية، وأصبحت حقيقة واقعية بشخص المؤمنين بيسوع المسيح، وعليه لا بدّ من الإعلان من أن شعب الله هو الشعب المؤمن به والذي قبل الخلاص المقدّم له بيسوع المسيح، فلا شعب مختار خارج المسيح. إلا أن هذا الهدف لا تصل إليه البشرية تمامًا إلا عندما يكون الله كلاً في الكل، والمسيح باكورة للمؤمنين به.
تـأويـــن
لا بدّ من إيضاح النقاط الآتية التي يمكنها ان تساعدنا على فهم أعمق لفحوى النصوص التي نحن في صددها (رومة 27/8-30).
– إن النعمة الإلهية تُعطى لكل إنسان مجانًا، وليس نتيجة أعمال الإنسان الجيدة، وعليه فكل إنسان يمكنه ان يقبل هذه النعمة أو يرفضها.
– إن الله لا يخلق بعض النـاس للملكـوت والبعض الآخر للهـلاك، إنما يخلقهم لكي يشـركهم في حياته. فإرادة الله هي ان يخلص الجميـع، ولكن بقرار شخصي من الإنسان وليس رغمًا عنه.
– إختيار شعب، أو شخص من قبل الله لمَهَمّةٍ ما، لا يعني ان هؤلاء وحدهم يخلصون، إنما اختارهم الله من أجل تحقيـق غايته الأساسـية : إشـراك الناس في حياتـه… والشـعب المختار الحقيقي، وفي الواقع هو جماعة المؤمنين بابنه يسوع المسـيح والعاملين على تكميل وصاياه في محبة الله ومحبة الآخرين، وهذه المحبة هي واحدة، إذ لا يمكن ان نحب الله إذا كنّا لا نحب قريبنا.
وخلاصة القول إن الله يكـون في عون المؤمنيـن به، مهمـا كانت الظروف صعبة، وإنما يجعل كل حدث من أجل الخير.